شعبان عبدالرحمن

تعودنا فى مصر أن «اخرس».. كلمة يقولها الكبير للصغير عندما يتفوَّه بكلمات نابية أو هابطة تنافى الأخلاق.. أو تقال من كبير فى المقام لـ«سوقي» أو «مهووس» يلقى الكلام على عواهنه.. لكن فى زمن العجائب التى يشيب لها الولدان، قالها صغير فى السن وفى المقام لرجال يكبرونه فى العمر ضعف عمره، ويكبرونه فى المقام والفضل والسبق مسافات طويلة.. لكن فى الزمن الأغبر يجد الصغير نفسه على قمة «الهرم» أو على رأس «الأهرام» بقرار من مجلس الشورى؛ فيصوِّر له خياله أنه ينظر من أعلى القمة لبقية الناس على أنهم صغار أمامه، حتى ولو كان عالماً جليلاً تدوى كلماته ومواقفه فى سمع الزمان، وينطق سِجِل التاريخ له بتاريخ طويل من الجهاد والكفاح، وتنطق مدرّجات الجامعات فى كل بلاد الدنيا بعلمه وتعليمه للأجيال، وتتحدث صحائف الكتب والمراجع عن اجتهاده وجهاده العلمي، وتشهد الصحوة الإسلامية بأنه من أبرز مفجريها، ويشهد قادة تلك الصحوة بأنه من أساتذتهم الذين علموهم ورشدوهم حتى بلغت الصحوة رشدها، ومازال عطاؤها ممتداً حتى اليوم.

هذا هو العلامة الشيخ يوسف القرضاوى الذى مازال عطاؤه يتدفق بحكمة وعلم ورجاحة عقل.. ثائر على الطواغيت، وكان فى مقدمة ثوار «الربيع العربي»؛ لأنه عربى مسلم، نبت فى أرض مصر، ومازال حبها يجرى فى دمائه، حتى ولو شرَّق وغرَّب فى بلاد الدنيا.. لكن «عبدالناصر سلامة»، رئيس تحرير «الأهرام»، هوى بنفسه وبـ«أهرامه» فى الحضيض، عندما طفحت أخلاقه بوابل من السباب والشتائم للشيخ القرضاوى واصفاً إياه: «زعامة واهية أكل عليها الدهر وشرب.. موتور.. مريض بالزهايمر.. يعمل لحساب عواصم وأجهزة خارجية.. قاد مظاهرة بالأزهر لإسقاط نظام الحكم فى سوريا.. ثورة الشعب السورى انتفاضة طائفية واضحة»، ثم ينزع عنه مواطنته وحقه فى العيش ببلاده، مطالباً إياه بالعودة إلى أدراجه!

وبعد.. ماذا أبقى سلامة للسوقة بعد كل هذا الكيل من السباب والشتائم والاتهامات لعلامة الأمة الشيخ القرضاوي؟ وما الجريمة التى ارتكبها هذا العالِم العملاق حتى يكيل له هذا «الموتور» هذا السباب؟ إن مواصلة الشيخ القرضاوى لرسالته السامية فى نشر العلم والدفاع عن حقوق الشعوب المهضومة وهو فى العقد التاسع من عمره فضيلة كبرى يجب أن توجَّه له التحية والتقدير عليها، وإن كان لا ينتظر ذلك من أحد.. ثم هل هناك شخص عاقل فى العالم إلا ويؤيد ثورة الشعب السوري، ويطالب بحمايته وعونه ضد ذلك الحكم الفاشي؟! إن الذين يؤيدون المجرم «بشار الأسد»، ويتشفُّون فى شعبه الغارق فى دمائه هم أصحاب الفكر الديكتاتورى وعباد الحاكم الفرد وعبيد السلطة المطلقة، وما فعله القرضاوى فى الجامع الأزهر هو حضور مؤتمر يؤيد الشعب السورى فى قضيته، ويناصره فى محنته.. فأى خطأ فى ذلك؟!

ثم إن الشيخ القرضاوى جاء خطيباً من فوق منبر الأزهر، داعياً المصريين جميعاً للتوحد والتكاتف والتعاون، لم يكن داعية فتنة، ولا هو استنجد بالغرب للتدخل فى مصر، ولا دعا الجيش المصرى للانقلاب على الرئيس الشرعى المنتَخَب، ولا غضب ممن يرفضون الاعتراف بـ«الهولوكوست»، ولا طالب ببناء «معبد بوذي» صغير «يا محمود» فى مصر.. لم يفعل أياً من ذلك حتى يوضع فى سلة واحدة مع «د.محمد البرادعي»، الذى أؤكد على حقه فى ممارسة رأيه وحقه فى مصريته وممارسة كل حقوقه المشروعة كمصري.. لكن القرضاوى فى كل خطبه وكلماته ومواقفه يعدُّ داعية الوسطية، بل هو من أبرز مؤسسى منهج الوسطية.. هو داعية خير وداعية حق يكاد قلبه ينفطر من فوق منبر الأزهر - وفوق منبر كل جمعة - حباً فى بلده مصر.

أين احترام الكبير؟ لقد نسى «عبدالناصر» ما قرأه فى مناهج التعليم الأزهرى من حديث للرسول: «ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا».

ثم أين حرية الرأى والتعبير والإبداع وغيرها من الكلمات الضخمة التى صدعتمونا بها؟ وهل «اخرس» من مقومات الحرية عند «عبدالناصر سلامة»؟.. لقد أعطى لنفسه حرية التطاول على عالم جليل، وفى الوقت نفسه يحرمه من حقه فى الكلام والتعبير عن آرائه، ويطالبه بالصمت بل وبـ«الخرس» حتى آخر العمر!

ولا أدري.. هل مصادفة أم توارد خواطر؛ أن يظهر «توفيق عكاشة»، أحد مهازل الإعلام المصري، وصديق «عبدالناصر سلامة» ليكمل وصلة الردح، واصفاً الشيخ القرضاوى بأنه «مفتى حلف الناتو»؟!

إنها كلمات واتهامات تستحي أمامها كلمات واتهامات النظام السورى نفسه للشيخ القرضاوي، معتمداً على صِبْيته بالقيام بالواجب.. ولكن هيهات يا أقزام الإعلام المصري، فمهنة الإعلام المحترم والصحافة الشريفة منكم براء.

وبعد.. تبقى الكلمة للسيد رئيس مجلس إدارة «الأهرام»، ونقيب الصحفيين، ولمجلس الشورى، والمجلس الأعلى للصحافة.. فهل يتفضلون بقول شيء، أم أن نداء «عبدالناصر» «اخرس» كان موجهاً للجميع حتى يظل سبابه يشق عباب السماء؟!

ـــــــ

عن صحيفة المصريون،1/1/2013