د. يوسف القرضاوي

قد يقول بعض الناس: إن كل عقيدة دينية تفرض على المؤمنين بها ألواناً من العبادات وضروباً من القربات والمراسم، تأخذ من أوقات الناس شيئاً يضيق ويتسع باختلاف الأديان وصنوف عبادتها. وخذ مثلاً الصلاة الإسلامية التي تؤدى كل يوم خمس مرات: أليس في ذلك تعطيل للعمل، وتعويق للعامل. في عصر الآلة والسرعة والمنافسة الجبارة؟

والحق أن العبادات في الأديان عامة لا تأخذ من وقت الناس إلا القليل، ما لم يشرع الناس لأنفسهم من الدين ما لم يأذن به الله، فيشقوا على أنفسهم ويرهقوها عسراً.

على أن القليل الذي ينفق في العبادة، ليس وقتاً ضائعاً على الحياة والإنتاج. كلا. إنه شحن للطاقة وشحذ للهمة، وتوليد للقوة، وصقل لمعدن النفس لتعود إلى معركة الحياة أقوى وأمضى.

وإنه لمن الظلم للواقع أن يقاس الشيء بأثره المادي المباشر المنظور، ويغفل عن أثره الفعال الخفي الهادئ، في النفس وفي المادة أيضاً.

ما أصدق ما قال الدكتور الكسيس كارليل مؤلف كتاب "الإنسان ذلك المجهول" وأحد الحائزين على جائزة "نوبل": "لعل الصلاة هي أعظم طاقة مولدة للنشاط عرفت إلى يومنا هذا، وقد رأيت -بوصفي طبيباً- كثيراً من المرضى فشلت العقاقير في علاجهم، فلما رفع الطب يديه عجزاً وتسليماً تدخلت الصلاة فأبرأتهم من عللهم".

"إن الصلاة كمعدن «الراديوم» مصدر للإشعاع. ومولد ذاتي للنشاط، وبالصلاة يسعى الناس إلى استزادة نشاطهم المحدود، حين يخاطبون القوة التي لا يفنى نشاطها".

"إننا نربط أنفسنا -حين نصلي- بالقوة العظمى التي تهيمن على الكون ونسألها ضارعين أن تمنحنا قبساً منها، نستعين به على معاناة الحياة. بل إن الضراعة وحدها كفيلة بأن تزيد قوتنا ونشاطنا ولن تجد أحداً ضرع إلى الله مرة إلا عادت عليه هذه الضراعة بأحسن النتائج".

وإذا كان هذا أثر الصلاة بعامة فإن الصلاة الإسلامية بخاصة أبعد أغواراً وأعمق آثاراً، إنها ليست تعبداً محضاً، ولا ضراعة خالية من معاني الحياة، إنها -مع الضراعة والتعبد- نظافة، وثقافة، ورياضة، وتربية خلقية وهي -بما سنه الإسلام من نظام الجماعة- مدرسة لتعليم المبادئ الاجتماعية المثلى، ومعهد للتربية العلمية على المحبة والإخاء، والمساواة بين الناس.

وليت شعري هل يخسر الإنتاج أم يربح من رجل يستيقظ قبل أن تبرز الشمس من خدرها، فيقوم فيتوضأ ويتطهر. ويصلى لربه، ويستقبل نهاره مبكراً طيب النفس، نشيط البدن، منشرح الصدر، قوى اليقين؟

وبحق ما قاله أحد الباحثين في أثر صلاة الجماعة الإسلامية في حياة المسلم:

"وإنه -وأيم الحق- لنعمة كبرى أن يكون في مكنة الإنسان التمتع خمس مرات يومياً بجو من السلام التام وسط عالم يسوده الصراع والنضال، وبجو من المساواة على حين يكون التباين هو النظام السائد، وبجو من المحبة في معمعة الأحقاد الوضيعة، والتنابذات والخصومات المفعمة بها الحياة اليومية، إنها حقاً لأجزل النعم لأنها العبرة الجلى من الحياة، فليس للإنسان بد من أن يعمل وسط التباين والنضال والصراع، ووسط مشاهد البغضاء والتشاحن، ومع ذلك ينتزع نفسه من كل هذا خمس مرات ليكتنه حقيقة المساواة والإخاء والمحبة من حيث أنها هي المصادر الحقة للسعادة الإنسانية.

ومن أجل ذلك كان الوقت الذي تستغرقه الصلاة غير مضيع عبثاً من ناحية الخيرية الفاعلية، والنفع العملي للبشرية، إذ أنه على العكس من ذلك قد استغل أحسن استغلال، بتعلم تلك الدروس الجليلة التي تجعل الحياة حقاً جديرة بالعيش فيها.

وتلك الدروس في الإخاء والمساواة والمحبة تصبح بممارستها عملياً في الحياة اليومية دعامات لتوحيد الجنس البشري، وتخليد الحضارة الأبدية لبني الإنسان".

..........

- عن كتاب" الإيمان والحياة" لفضيلة الشيخ.