د. يوسف القرضاوي

إن عبيد التطور لا يقفون عند حد، ولا يقبلون تنازلاً حتى يطالبونا بثان وثالث وسلسلة من التنازلات لا تتناهى! وهم إذا قبلوا الإسلام فإنما يريدونه إسلاماً من صنع أيديهم وأفكارهم!

إنهم يقولون: لا نأخذ بأقوال الأئمة ولا الفقهاء ولا الشراح والمفسرين، فإنها آراء بشر مثلنا، ولا نأخذ إلا من الوحي المعصوم.

فإن وافقتهم على ذلك - افتراضاً - قالوا: إنما نأخذ ببعض الوحي دون بعضه نأخذ القرآن ولا نأخذ بالسنة! فإن فيها الضعيف والموضوع والمردود، أو نأخذ بالسنة المتواترة، ولا نأخذ بسنن الآحاد!

فإن سلم لهم ذلك قالوا في جراءة ووقاحة: القرآن نفسه إنما كان يعالج أوضاع البيئة العربية المحدودة، وشئون المجتمع البدوي الصغير، فلابد أن نأخذ منه ما يليق بتطورنا وندع منه ما ليس كذلك؟!

فإذا قال القرآن: (حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير) (البقرة: 173، أو النحل: 115) وإذا سمي لحم الخنزير (رجساً) قالوا: إنما قال القرآن ذلك في خنازير كانت سيئة التغذية، أما خنازير اليوم فليست كذلك!!

وإذا قال القرآن في الميراث: (للذكر مثل حظ الأنثيين) (النساء:11) قالوا: إنما كان ذلك قبل أن تخرج المرأة للعمل، وتثبت وجودها في ميادين الحياة المختلفة.

أما اليوم فقد أصبح لها شخصيتها واستقلالها الاقتصادي، فلزم أن ترث كما يرث الرجل، ولم يعد مجال للتفرقة بين الجنسين !!

وإذا قال القرآن: (إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام وجس من عمل الشيطان فاجتنبوه) (المائدة: 90) قالوا: إنما حرم القرآن ذلك في بيئة حارة، ولو نزل القرآن في بيئة باردة، لكان له موقف آخر!!

ومعنى هذا أنهم ينسبون إلى الله تعالى الجهل بأحوال خلقه، وأنه لا يعلم منها إلا ما هو واقع، وأما ما يخبئه الغد وما يضمره المستقبل، فلا يعلمه ولا يحسب حسابه تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.

إن الإصلاح الحقيقي: أن نتفهم جيداً ما يجب أن يتطور من شئون الحياة فنبذل جهودنا لتطويره وتحسينه، بمنطق الحكماء الشجعان، لا الأغرار المقلدين - والإسلام يشد أزرنا في ذلك بما أطلق فينا من قوى الفكر والعمل، وما شرع لنا من الاجتهاد والجهاد، وما أوجب علينا من التماس الحكمة أنى وجدت - نتفهم كذلك ويجب أن يبقى ثابتاً راسياً من القيم، والعقائد، والمفاهيم، والأخلاق، والآداب، والشرائع، التي تزول الجبال الشمم ولا تزول.

بهذا الموقف الحكيم نواجه التطور ونوجهه: نعيش عصرنا، ونرضي ربنا، فنفوز بالحسنيين، ونربح الدنيا، ولا نخسر الدين، ونظفر برضوان الله، وإعجاب العقلاء من الناس.

ــــــــ

- عن كتاب "من أجل صحوة راشدة تجدد الدين وتنهض بالدنيا" لفضيلة الشيخ.