د. يوسف القرضاوي

في "إعلام الموقعين" أسهب ابن القيم في بيان أهمية النية والقصد في تحديد قيمة العمل، وأن العملية قد تكون صورتهما واحدة، وهذا قربة صحيحة وهذا معصية باطلة. وذلك بسبب النية والقصد.

"من ذلك: عصر العنب بنية أن يكون خمرا معصية، ملعون فاعله على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعصره بنية أن يكون خلا أو دبسا جائز وصورة الفعل واحدة.

وكذلك السلاح يبيعه الرجل لمن يعرف أنه يقتل به مسلما حرام باطل لما فيه من الإعانة على الإثم والعدوان، وإذا باعه لمن يعرف أنه يجاهد به في سبيل الله فهو طاعة وقربة.

وكذلك عقد النذر المعلق على شرط ينوي به التقرب والطاعة، فيلزمه الوفاء بما نذره، وينوي به الحلف والامتناع فيكون يمينا مكفرة.

وكذلك تعليق الكفر بالشرط ينوي به اليمين، والامتناع فلا يكفر بذلك، وينوي به وقوع الشرط فيكفر عند وجود الشرط وصورة اللفظ واحدة.

وكذلك ألفاظ الطلاق صريحها وكنايتها ينوي بها الطلاق فيكون ما نواه، وينوي به غيره فلا تطلق.

وكذلك قوله "أنت عندي مثل أمي" ينوي به الظهار فتحرم عليه، وينوي به أنها مثلها في الكرامة فلا تحرم عليه.

وذلك من أدى عن غيره واجبا ينوي به الرجوع ملكه، وإن نوى به التبرع لم يرجع.

وهذه كما أنها أحكام الرب تعالى في العقود، فهي أحكامه تعالى في العبادات والمثوبات والعقوبات، فقد اطردت سنته بذلك في شرعه وقدره.

أما العبادات فتأثير النيات في صحتها وفسادها أظهر من أن يحتاج إلى ذكره، فإن القربات كلها مبناها على النيات، ولا يكون الفعل عبادة إلا بالنية والقصد، ولهذا لو وقع في الماء ولم ينو الغسل، أو دخل الحمام للتنظيف، أو سبح للتبرد، لم يكن غسله قربة ولا عبادة بالاتفاق، فإنه لم ينو العبادة فلم تحصل له، وإنما لامرئ ما نوى.

ولو أمسك عن المفطرات عادة واشتغالا ولم ينو القربة، لم يكن صائما.

ولو دار حول البيت يلتمس شيئا سقط منه لم يكن طائفا.

ولو أعطى الفقير هبة أو هدية ولم ينو الزكاة لم يحسب زكاة.

ولو جلس في المسجد ولم ينو الاعتكاف لم يحصل له.

وهذا كما أنه ثابت في الإجزاء والامتثال فهو ثابت في الثواب والعقاب، ولهذا لو جامع أجنبية يظنها زوجته لم يأثم بذلك، وقد يثاب بنيته.

ولو جامع في ظلمة من يظنها أجنبية، فبانت زوجته أثم على ذلك بقصده ونيته للحرام.

ولو أكل طعاما حراما يظنه حلالا لم يأثم به، ولو أكله وهو حلال يظنه حراما وقد أقدم عليه أثم بنيته.

وكذلك لو قتل من يظنه مسلما معصوما فبان كافرا حربيا أثم بنيته، ولو رمى صيدا فأصاب معصوما لم يأثم، ولو رمى معصوما فأخطأه وأصاب صيدا أثم، ولهذا كان القاتل والمقتول من المسلمين في النار لنية كل واحد منهما قتل صاحبه.

فالنية روح العمل ولبه وقوامه، وهو تابع لها يصح بصحتها ويفسد بفسادها، والنبي صلى الله عليه وسلم قد قال كلمتين كفتا وشفتا وتحتهما كنوز العلم، وهما قوله: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى".

فبين في الجملة الأولى: أن العمل لا يقع إلا بالنية، ولهذا لا يكون عمل إلا بنية.

ثم بين في الجملة الثانية أن العامل ليس له من عمله إلا ما نواه، وهذا يعم العبادات والمعاملات والإيمان والنذور وسائر العقود والأفعال.

وهذا دليل على أن من نوى بالبيع عقد الربا حصل له الربا، ولا يعصمه من ذلك صورة البيع.

وأن من نوى بعقد النكاح التحليل كان محللا، ولا يخرجه من ذلك صورة عقد النكاح، لأنه قد نوى ذلك، وإنما لامرئ ما نوى، فالمقدمة الأولى معلومة بالوجدان، والثانية معلومة بالنص.

وعلى هذا فإذا نوى بالعصر حصول الخمر كان له ما نوى، ولذلك استحق اللعنة.

وإذا نوى بالفعل التحيل على ما حرمه الله ورسوله، كان له ما نواه، فإنه قصد المحرم وفعل مقدوره في تحصيله، ولا فرق في التحيل على الحرم بين الفعل الموضوع له وبين الفعل الموضوع لغيره إذا جعل ذريعة له، لا في عقل ولا في شرع، ولهذا لو نهى الطبيب المريض عما يؤذيه وحماه منه فتحيل على تناوله عد متناولا لنفس ما نهي عنه".

ــــــــ

- عن كتاب "النية والإخلاص" لفضيلة الشيخ.