أحمد الله تعالى، وأصلي وأسلم على رسوله محمد وعلى آله وصحبه.

(وبعد)

هذه السطور ليست مقدمة لديوان، بل هي تحية لشاعر مسلم، جعل من قصيده سلاحا في معركة المواجهة مع أعداء دينية ووطنه وأمته، وهو لا ينسج خيوط شعره من حروف وكلمات، بل من قطرات الدم في الوريد، أو الدمع في المآقي.

إنه الشاعر محمد قطبة، الذي يصدر اليوم مجموعته الشعرية الأولى، لا ليتغنى فيها بهوى ليلى، وجنون قيس، فقد شغلته عن ليلى وسُعدى شؤون وشجون حلَّت بساحة أمته الكبرى، ابتداء من مأساة فلسطين إلى مأساة البوسنة والهرسك.

وليس أصدق من الشاعر نفسه يحدثنا عن غاية شعره ورسالته في قصيدته (لماذا أقول الشعر) فيقول:
ورأيت القصيد أمسى سـلاحي       في زمان يعـاف قول القصيد
أزرع النور في القلـوب لعلي       أنزع الشوك من جنان الورود
وأصوغ الأبيات من نبض قلبي      علَّ صوتي يفل صمت الحديد

إنه صاحب قضية، وقضيته هي الإسلام، وهو وإن كان ابن قطر انتماء وولاء ونشأة وتعلما، تطوف مشاعره مشرِّقة ومغرِّبة في ديار المسلمين حيثما كانوا، فهو منهم وهم منه، أينما ارتفع الأذان بالتهليل والتكبير.

تجده حينا وقد غلت مراجل الغضب في صدره، على الأوضاع العوج في عالمنا الإسلامي فصبَّ شعره حمما على الاستبداد المتسلط، أو التسلط المستبد، والفساد السافر والمقنَّع، والأكاذيب التي تزين للناس كأنها حقائق، والصغار الذين يلبسون أردية الكبار، يقول قصيدته (إليك أيها الوطن الإسلامي) متحدثا عن الزعامات الزائفة، والبطولات المصطنعة، التي تروِّج لها الأبواق الآثمة:
تعيس أنت ياوطنــــي تعيس    وفيك عميل أعدائي يسوس
فهذا فارس الهيــــجا مشير      وهذا فاتح القــدس الرئيس
وأسماء وألقـــــاب ضخام        ثياب الزيف تعشقها النفوس
جموع الشعب أرخص من تراب    وكرسي الزعيم هو النفيس
ورغم الشعب نشـهد كل شعب    يصفق دائما: يحيا الرئيس!

ونرى شاعرنا حينا آخر، وقد غلبه الحماس لقضايانا العادلة المظلومة، فقام محرضا على الجهاد، مشيدا بالكفاح وأبطاله، وأكثر ما همه وأرقه قضية فلسطين، قضية المسجد الأقصى، ولا غرو أن نجد أول قصيدة أنشأها حين طفق يخطو الخطوة الأولى في مدارج الشعر، كانت عن فلسطين، وأواخر قصائده أيضا عن فلسطين.
فهو يحاور (الفارس الملثم):
هبَّ يرمي الحجــارة نارا       يرفع المصحف الشريف شعارا
ليس طفلا ولا صغيرا ولكن    فارس صـــامت أثير فثارا
مل قيد الوعود في معصميه     والسياســات ما صنعن قرارا

ويقول في قصيدته (حنين إلى الأقصى):
من مداد الأسى سأكتب شعري      يا أسيرا ملكت قلبي وفكري
فشجوني أبت لنفــسي قرارا        واشتياقي إليك يلهب صدري
كدت أنساك، فالهمـوم تداعت      وجراح الإسلام في كل قُطر

وهو كأي شاعر صادق مع نفسه، مرهف في حسه، لا يملك إلا أن يحيا في أحزان أمته، او تحيا فيه، وأن نراه نوَّاحا في كل مأساة من مآسي المسلمين، وما أكثرها، وما أثقلها!

فلا عجب لأن يبكي شاعرنا (جراح الإسلام) هنا وهناك في حماه وفي حلبجة وفي غيرها، فيرسل عبراته شعرا، يصرخ ويقول:
في كل جزء من بــلادي قصة    تروي ضياع كرامة الإنسان
هي قصة الإســلام في أوطانه    أمسى غريبا كالطريد الجاني
من أين أبدؤها؟ وكيف أصوغها؟    وبأي شعر يستفيض لساني؟
فالبغي يحصـــد كل يوم فتية    كرهــوا الحياة بذلة وهوان

وهو لا يبكي الكوارث السياسية وحدها، بل يبكي الكوارث الطبيعية أيضا، فهو يناجي (مصر) بعد (الزلزال) الشهير:
قالوا: أصابك زلـــزال، فما فتئت    مرارة الحزن في الأعماق تكويني
فأنت حصــن لأهل الشرق قاطبة      يا موئل الضاد والإسلام والدين
يا مصر أعطيك قلبي شئت أم قلمي؟    أم اللســـان؟ بربي لا ترديني

وهو كما يعيش الجراح، يعيش الأفراح، وإن كانت الجراح والأحزان هي الأصل، والأفراح من قبيل الاستثناء، فهو يغني لانتصار (الأفغان)، وينشد لفتح (كابول).
فتح (كابول) كان يوما خيالا      حولته شم الرجال فعالا
ليس عند المجاهد الحق أمر      مستحيل إذا تبنى المحالا

تحية لشاعرنا الدكتور محمد قطبة، في مجموعة قصائده الأولى، وننتظر منه قصائد وقصائد، تكون روحا وريحانا للمؤمنين، وعدة وعتادا للمجاهدين ونارا وسعيرا على الطغاة والمنافقين.

الفقير إلى عفو رب

يوسف القرضاوي

الدوحة في: ذي الحجة 1413هـ  - ديسمبر 1993م