د. يوسف القرضاوي
للإخلاص دلائل وعلامات كثيرة تظهر في حياة المخلص وسلوكه، ونظرته إلى نفسه وإلى الناس منها: الخوف من الشهرة..
أن يخاف من الشهرة وانتشار الصيت على نفسه ودينه، وخصوصا إذا كان من أصحاب المواهب، وأن يوقن بأن القبول عند الله بالسرائر لا بالمظاهر، وأن إنسانا لو طبقت شهرته الآفاق، وهو مدخول النية، لم يغن عنه الناس من الله شيئا.
ولهذا كان الزهد في الجاه والظهور والشهرة والأضواء أعظم من الزهد في المال، وفي شهوة البطن والفرج، يقول الإمام ابن شهاب الزهري: ما رأينا الزهد في شيء أقل منه في الرياسة، ترى الرجل يزهد في المطعم والمشرب والمال، فإذا نوزع الرياسة حامى إليها وعادى.
وهذا ما جعل كثيرا من علماء السلف وصالحيهم يخافون على قلوبهم من فتنة الشهرة، وسحر الجاه والصيت، ويحذرون من ذلك تلاميذهم، وقد روى المصنفون في السلوك في ذلك أشياء كثيرة، مثل أبي القاسم القشيري في "الرسالة"، وأبي طالب المكي في "قوت القلوب"، والغزالي في "الإحياء".
من ذلك ما قاله الزاهد الشهير إبراهيم بن أدهم: ما صدق الله من أحب الشهرة. وقال: ما قرت عيني يوما في الدنيا قط، إلا مرة واحدة: بت ليلة في بعض مساجد قرى الشام، وكان بي البطن، فجاء المؤذن، وجرني برجلي حتى أخرجني من المسجد.
وإنما قرت عينه، لأن الرجل لم يعرفه، ولذا عامله بعنف وجره من رجله كأنه مجرم.
وهو الذي ترك الإمارة والثروة لله تعالى، وإنما لم يخرج هو، لأنه كان عليلا أقعده المرض.
وقال الزاهد المعروف بشر الحافي: ما أعرف رجلا أحب أن يعرف إلا ذهب دينه وافتضح.
وقال أيضا: لا يجد حلاوة الآخرة رجل يحب أن يعرفه الناس.
وصحب رجل ابن محيريز في سفر، فلما فارقه قال: أوصني. فقال: إن استطعت أن تعرف ولا تعرف، وتمشي ولا يمشى إليك، وتسأل ولا تسأل، فافعل.
وقال أيوب السختياني: ما صدق الله عبد، إلا سره ألا يشعر بمكانه.
وكان خالد بن معدان الثقة العابد إذا كثرت حلقته قام مخافة الشهرة.
وقال سليم بن حنظلة: بينما نحن حول أبي بن كعب نمشي خلفه، إذا رآه عمر، فعلاه بالدرة فقال: انظر يا أمير المؤمنين ما تصنع؟ فقال عمر: إن هذه ذلة للتابع وفتنة للمتبوع وهي لفتة عمرية نفسية إلى ما قد تحدثه هذه المظاهر البسيطة في بدايتها من عواقب وآثار بعيدة الغور في نفسية الجماهير التابعة، والقادة المتبوعين.
وعن الحسن قال: خرج ابن مسعود يوما من منزله فاتبعه ناس، فالتفت إليهم فقال: علام تتبعوني؟ فوالله لو تعلمون ما أغلق عليه بابي ما اتبعني منكم رجلان!
وقال الحسن: إن خفق النعال حول الرجال قلما تثبت عليه قلوب الحمقى!
وخرج الحسن ذات يوم فاتبعه قوم فقال: هل لكم من حاجة؟ وإلا فما عسى أن يبقى هذا من قلب المؤمن؟
وخرج أيوب السختياني في سفر، فشيعه ناس كثيرون فقال: لولا أني أعلم أن الله يعلم من قلبي أني لهذا كاره، لخشيت المقت من الله عز وجل.
وقال ابن مسعود: كونوا ينابيع العلم، مصابيح الهدى، أحلاس البيوت، سرج الليل، جدد القلوب، خلقان الثياب، تعرفون في أهل السماء، وتخفون في أهل السماء، وتخفون في أهل الأرض.
وقال الفضيل بن عياض: إن قدرت على ألا تعرف فافعل، وما عليك ألا تعرف؟ وما عليك أن يثنى عليك، وما عليك أن تكون مذموما عند الناس إذا كنت محمودا عند الله تعالى؟
لا يفهم من هذه الآثار الدعوة إلى الإنطوائية والعزلة، فإن الذين رويت عنهم إنما هم أئمة ودعاة مصلحون، كان لهم آثار طيبة في دعوة المجتمع وتوجيهه وإصلاحه.
لكن الذي يفهم من مجموعها هو اليقظة لشهوات النفس الخفية، والحذر من الكوى والمنافذ التي يتسلل منها الشيطان إلى قلب الإنسان، إذا سلطت عليه الأضواء، وأحاط به الأتباع والأشياع، وأشير إليه بالبنان.
والشهرة في ذاتها ليست مذمومة، فليس هناك أشهر من الأنبياء والخلفاء الراشدين، والأئمة المجتهدين، ولكن المذموم هو طلب الشهرة والزعامة والجاه، والحرص عليها، فأما وجودها من غير هذا التكلف والحرص فلا شيء فيه، وإن كان فيه ـ كما قال الغزالي ـ فتنة على الضعفاء دون الأقوياء.
وفي هذا المعنى جاء حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه سئل عن الرجل يعمل العمل لله من الخير ويحمده الناس عليه، فقال: "تلك عاجل بشرى المؤمن" خرجه مسلم، وخرجه ابن ماجه، وعنده: "الرجل يعمل العمل لله فيحبه الناس عليه"، وبهذا المعنى فسره الإمام أحمد، وإسحاق بن راهويه، وابن جرير الطبري وغيرهم.
وكذلك الحديث الذي خرجه الترمذي وابن ماجه من حديث أبي هريرة أن رجلا قال: يا رسول الله، الرجل يعمل العمل، فيسره، فإذا اطلع عليه، أعجبه، فقال: "له أجران: أجر السر، وأجر العلانية".
ـــــ
- عن كتاب "النية والإخلاص" لفضيلة الشيخ.