|
د. عبد السلام بسيوني
جزء مهم جدًّا فى جانب صيانة الثورة، والمحافظة على وهجها وقيمتها، تقدير من أشعلوا نيرانها، واصطلوا بجمرها، وعرضوا أنفسهم للموت، أو الاعتقال والتعذيب والابتلاء بإجرام الفلول وبلطجية النظام السابق، فاسترخصوا ذلك كله؛ فى سبيل تحرير البلد، وعتقه من نير الاستذلال، وإخراجه من النفق المظلم المجرم النتن، الذى وضعهم فيه أعداء البلد..
وإذا كان من الشباب النبيل من خرج واضعًا روحه على كفه، فاختاره الله قبل أن يرى لحظات انعتاق البلد، وانخذال البلطجية الزعماء، وبلطجية رأس المال، وبلطجية التوريث، - أسأله تعالى أن يقبلهم عنده شهداء - فإن أناسًا آخرين تعرضوا للموت ألف مرة، ولاحتمالات رديئة كثيرة تتكرر كل ساعة وكل يوم، وأسعدهم الله برؤية مبارك ورجاله فى القفص..
لم أكن يا سيدى واحدًا من هؤلاء بقدر الله تعالى، لكونى مقيمًا فى الخارج؛ بسبب العز و(النغنغة) الأمنية، التى كانت فيها مصر أيام المجرمين، ولا أعرف 99% منهم، ولا قرابة بينى وبينهم، لكننى يا سيدى متابع لصيق، ومهموم لحد الهوس بمصر والإسلام، وكنت متابعًا جيدًا، وناقدًا بصيرًا – فيما أرجو – للواقع خلال السنين الثلاثين الأخيرة، لذا أرجوك سيدى أن تعطى بعض الناس التفاتة اهتمام يستحقونها بجدارة، فلم يكونوا مهرجين ولا مطبلين ولا مشعلى بخور فى بلاطات الجنرالات الحكام..
هل ستكرم يا سيدى الرسام البرازيلى الكبير كارلوس لطوف، الذى كان لسان حال الثورة بكثير من الوعى الإبداعي، والاستمرارية، والنضج، وقراءة الأحداث، والاصطفاف الكامل فى جانب الشعب المصرى وشبابه وثواره؟
لكم أتمنى يا سيدى أن ترسل له طائرة خاصة تأتى به، وتحتفى بعطائه، فى التفاتة واعية إلى قيمة الفن الهادى الرائد، لا الفن المدمر المثبط للأمة، الناشر لمخدرات الاستكانة والاستسلام، والتضليل، الذى حول الطواغيت إلى ملائكة؟
كارلوس لطوف يا سيدى كان من قادة الثورة ويستحق التكريم؛ فهل تفعل؟
وعصام سلطان يا سيدى.. هذا الشاب المثقف، الجسور، الذكى الأبى غير الهياب ولا المتردد، الذى ظل فى (وش المدفع) وفى عين العاصفة – ولا يزال – حتى إنه واجه شفيقًا وحده، بالاتهام، والمقاضاة، والخصومة، ولا يزال فى توهجه، واتقاد عقله وهمته، لماذا لا يكرم عصام سلطان، أم إن التكريم لمن يموتون فقط، ولمن تقوم المظاهرات من أجلهم؟ا
وبمناسبة عصام سلطان.. فإن هناك سلطانين آخرين يقاتلان منذ ما قبل الثورة فى سبيل الكلمة الحرة، والعدالة، ويواجهان الظلم، مع مجموعة من الصحفيين والكتاب المقاتلين، جمال ومحمود سلطان، هذا الفارسان النبيلان اللذان واجها فى "المصريون" كل الحيتان، غير هيابين ولا وجلين، بصدرين عاريين، وظهرين مكشوفين؛ إلا من ستر الله تعالى وتأييده، وأثبتا أن الكلمة الحقة لا بد أن تنتصر، وحققا من الحرفية والوعى والمبادرة والسبق ما لم تحققه الجرائد المحمية بالفلول، والفلوس، والنفوذ..
أقول هذا وأنا بعيد عنهما، لا أنتظر أن يشغلانى فى الجريدة، أو يشيدا بى، ويضعا لى صورة 6×9، فقد بلغت من العمر ما يجعلنى لا أفرح بما أكسب، ولا أحزن على ما فات..
كرَّم يا سيدى آل سلطان وبعض الصحفيين المحترمين، من الرجال الذين واجهوا فى سبيل الله، فصبروا، وصابروا، وما ضعفوا وما استكانوا..
ويوسف القرضاوى يا سيدى، النابغة العلامة، الموسوعى الموضوعى، الرفيق الرقيق، الإعلامى الداعية، الصلب العنيد، الفقيه الأصولى: متى تعطيه مصر معشار حقه؟
متى تعيده إليها – وهو العالمى الأثر والقيمة - رافع الرأس، عزيز المقام، مهاب الجناب، ويكرم ببعض ما يستحق؛ بعد أن كنا نكرم القمنى وعلاء حامد وعادل الهلفوت ودينا الرقاصة!
والعلماء الأصلاء حول العالم؟ من الفيزيائيين والكيميائيين وأهل الهندسة والطب والقانون والاقتصاد والتاريخ من الأكاديميين الحقيقيين لا الأكاديميين الموظفين يا سيدى عبر أمن الدولة، وسيادتك بهم أدرى!
وعبد الحليم قنديل يا سيدى، هذا أيضًا فارس من فرسان المواجهة، وبطل مبارز أيام نكول الأدعياء، والتماسهم التبريرات والمعاذير للنكوص والمواربة، كالذين قالوا: لا تنفروا فى الحر، فألهبوا الأمة بجحيم الذلة، والظلم، والتفرعن، عليهم من الله ما يستحقون..
ومحمد عباس، ذلك الطبيب الذى ظن كثيرون أنه دون كيشوت، الذى يقاتل الأرواح والأشباح وطواحين الهواء، وكان أمة وحده فى عالم المواجهة الشرسة، وما وهن لما أصابه، وما ضعف وما استكان.
وحلمى القاعود، ذلك الهادئ الوديع الخادع، الذى لا ينبئ ظاهره عن باطنه، فهو إعصار كاسح، وكشاف فاضح للمتلونين، والمتلاعبين، والمتآمرين، والعملاء، وأعوان الظلمة، ليس من سنة ولا عشر ولا عشرين ولا ثلاثين.. أ.د. حلمى القاعود يا سيدى الرئيس يحتاج لتكريم باستحقاق لا يرقى له الواغش البشرى الذى طفا كالجيف العفنة على سطح بركة الثقافة الآسنة لطول ما ركدت، وما سكنت، فلم تنجب كبيرًا، ولا مبدعًا حقيقيًّا أصيلاً.
والأزهريون الأصلاء الذين واجهوا وعانوا، وهددهم الخرافيون والطائفيون بأنهم لن يستمروا فى الجامعة ما داموا موجودين، والذين انتشروا هنا وهناك، ووجدوا أيادى مفتوحة أكثر، مما وجدوا فى بلادهم؟
الشرفاء من مرشحى الرئاسة يا سيدى.. بعض الأصلاء من الفنانين التشكيليين، ورسامى الكاريكاتير.. بعض الوطنيين من رجال الكنيسة، الذين لم ينساقوا وراء طائفية شنودة.. فهل تفعل سيدى؟ خذ هذه القصة عن حق الأمة على ولاة أمورها:
كان عمر رضى الله عنه على الناس يتحسس أخبار رعيته يومًا، فرأى عجوزًا، فسلم عليها، سائلاً: لها ما فعل عمر؟ فقالت (أم لسانين) لا جزاه الله عنى خيرا! فسألها: ولم ؟ فقالت: ما نالنى من عطائه منذ ولى أمر المؤمنين دينار ولا درهم! فقال لها: وما يدرى عمر بحالك وأنت فى هذا الموضع؟ قالت: سبحان الله؛ والله ما ظننت أن أحدًا يلى عمل الناس ولا يدرى ما بين مشرقها ومغربها!
فبكى ثم قال: واعمراه! كل أحد أفقه منك حتى العجائز يا عمر.. ثم قال: يا أمة الله، بكم تبيعننى ظلامتك من عمر؟ فإنى أرحمه من النار!
قالت: لا تهزأ بنا يرحمك الله! فقال لها: لست بهازئ، ولم يزل بها حتى اشترى ظلامتها بخمسة وعشرين دينارًا! وبينما هو كذلك إذ أقبل على وابن مسعود رضى الله عنهما فسلما وحييا بالإمارة، فوضعت العجوز يدها على رأسها وقالت: واسوأتاه! أشتمت أمير المؤمنين فى وجهه!
فقال لها عمر: لا بأس عليك رحمك الله، ثم طلب رقعة يكتب فيها فلم يجد، فقطع قطعة من ثوبه، وكتب فيها: بسم الله الرحمن الرحيم: هذا ما اشترى عمر من فلانة ظلامتها منذ ولى إلى يوم كذا وكذا بخمسة وعشرين دينارًا، فما تدعى عند وقوفه فى المحشر بين يدى الله تعالى فعمر منه بريء، وشهد على ذلك على بن أبى طالب وعبد الله بن مسعود! ورفع عمر الكتاب إلى ولده وقال: إذا أنا مت فاجعله فى كفنى، ألقى به ربى! بس.
ــــــــ
- عن صحيفة المصريون، 28/8/2012.