د. يوسف القرضاوي
غاية الإنسان ومهمته في الحياة، قد بينتها عقيدة الإسلام أوضح البنيان، فالإنسان لم يخلق عبثاً، ولم يترك سدى، وإنما خلق لغاية وحكمة. لم يخلق لنفسه، ولم يخلق ليكون عبداً لعنصر من عناصر الكون، ولم يخلق ليتمتع كما تتمتع الأنعام، ولم يخلق ليعيش هذه السنين التي تقصر أو تطول، ثم يبلعه التراب ويأكله الدود ويطويه العدم.
إنه خلق ليعرف الله ويعبده، ويكون خليفة في أرضه، خلق ليحمل الأمانة الكبرى في هذه الحياة القصيرة: أمانة التكليف والمسئولية، فيصهره الابتلاء وتصقله التكاليف، وبذلك ينضج ويعد لحياة أخرى هي حياة الخلود والبقاء والأبد الذي لا ينقطع.
إنه لنبا عظيم حقاً أن يكون هذا الإنسان لم يخلق لنفسه، وإنما خلق لعبادة الله، ولم يخلق لهذه الدنيا الصغيرة الفانية، وإنما خلق للحياة الخالدة الباقية، خلق للابد! يقولون: إن الأحمق يعيش ليأكل والعاقل يأكل ليعيش.
وهذا القول لا يحل العقدة، فإن العيش نفسه ليس غاية، فالسؤال لا يزال قائماً: ولماذا يعيش الإنسان؟
أما الماديون فقالوا: إنه يعيش لنفسه ومتاع دنياه.
وأما المؤمنون فقالوا: إنما يعيش لربه الأعلى، ولحياته الباقية الأخرى: (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون * فتعالى الله الملك الحق) (المؤمنون: 115، 116).
وما أعظم الفرق بين الذي يعيش لنفسه والذي يعيش لربه، بين من يعيش لدنياه المحدودة، ومن يعيش لوجود غير محدود بزمان ولا مكان!
إن النظرة المادية الملحدة لم تعرف للإنسان غاية، لأن الغاية تقتض قصداً والقصد يقتض قاصداً، وهي تنكر أن يكون الإنسان قد خلق قصداً، ولهذا فليس للإنسان في نظرها رسالة غير رسالة الكدح وراء العيش وابتغاء تحسينه.
وبعبارة أخرى: وراء زينة الحياة الدنيا ومتاعها. لأكثر من ذلك، فإذا فنى العمر القصير للإنسان، فقد انتهى كل شيء في وجوده، وما أصدق قول القرآن (قل متاع الدنيا قليل) (النساء: 77).
وهو ليس متاعاً قليلا فحسب؟ بل هو أيضاً متاع رخيص، متاع حقير،لأنه متاع حيواني محض، سخر بعض الأدباء من طلابه وعشاقه فقال: "من كانت غايته بطنه وفرجه فقيمته ما يخرج منهما".
وحسبنا قول القرآن الكريم: (والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم) (محمد: 12).
إن النظرة المادية للإنسان تجعله يدور حول نفسه فقط، أي حول هواه وشهواته، حول جسده ومتطلباته. حول الجزء الحيواني فيه. وبذلك ينمو ويتضخم الجانب الحيواني المادي في الإنسان على حساب الجوانب الأخرى التي تضمر وتنكس، أو تذبل وتموت.
ونمو الجانب المادي والحيواني في الإنسان بهذه السرعة والضخامة هو نمو خبيث، «نمو سرطاني» يفضي في النهاية إلى هلاك الإنسان كله.
إنه لابد للإنسان من هدف يتطلع إليه غير نفسه وهواها، وإلا فإنه سيظل يدور حولها كالحمار في الرحا، أو الثور في الساقية، يدور ويدور والمكان الذي انتهى إليه هو الذي بدأ منه.
أو كما قال أحد الكتاب الغربيين في وصف «الوجوديين» الذين تدور فلسفتهم حول تحقيق الإنسان وجوده وذاته فحسب "إن الوجودي مثله كمثل الكلب الذي يجري دائماً حول نفسه ليمسك بذنبه، فلا هو يدرك ذنبه، ولا هو يقف عن الجري، وهي لعبة يلعبها الكلاب، حينما يجدون الفراغ، فيلهون بما لا نتيجة له".
وهذا التشبيه يذكرنا بالمثل الذي ضربه القرآن لكل من انسلخ من آيات الله، وأخلد إلى الأرض واتبع هواه، قال تعالى: (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فأنسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين * ولو شئنا لرفعناه بها، ولكنه أخلد إلى الأرض وأتبع هواه، فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث، أو تتركه يلهث، ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا، فاقصص القصص لعلهم يتفكرون * ساء مثلاً القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون) (الأعراف: 175 - 177).
ـــــــ
- عن كتاب "الإيمان والحياة" لفضيلة الشيخ.