د. وصفي عاشور أبو زيد
لم أصدق عيني التي قرأت اسم أستاذنا العلامة الدكتور حسن الشافعي على البيان الذي كتبه ردا على حوار أجرته جريدة الشروق المصرية مع شيخنا الإمام يوسف القرضاوي؛ ذلك أن شخصية العلامة د. حسن الشافعي شيء وما قرأته في البيان شيء آخر تماما، حتى إنني شككت في عيني كثيرا أن تكون قرأت الاسم بشكل صحيح، فأعدت التأمل مرة أخرى، ولكن انقلب إليَّ البصر خاسئا وهو حسير!!
حزنت وتألمت كثيرا أن يخرج هذا البيان ممن علَّمنا في كلية دار العلوم الزهد والورع والأخلاق والسلوك الراقي والأمانة العلمية، وأن يكون كل هذا الهمز واللمز ـ ولا أريد أن أزيد على ذلك ـ مكتوبا من رجل قمة وقامة وقيمة في وزن أستاذنا الدكتور حسن الشافعي "المدير" الفني لمكتب شيخ الأزهر، موجها إياه لإمام الأمة وفقيه العصر الشيخ يوسف القرضاوي، ومدافعًا به عن شيخ الأزهر فضيلة ا.د. أحمد الطيب، عضو لجنة السياسات بالحزب الوطني سابقًا.
وهذا كله بسبب تصريحات الإمام القرضاوي في الحوار المشار إليه حول الأزهر وتردده أيام الثورة في موقفه من الثورة، وهو وصف لا يختلف فيه أحد، ولا أكون مخطئا إن قلت إن وصف موقف شيخ الأزهر بـ "التردد" قبل التنحي، هو وصف مهذب وفوق الواقع الذي كان؛ حيث كان موقف فضيلة شيخ الأزهر أقل من التردد بكثير حين أفتى ـ أيا كان دافعه ـ بحرمة الخروج لميدان التحرير بعد الخطاب العاطفي لرئيسه الذي عينه إماما أكبر للأزهر.
وبحسب القارئ الكريم أن يعيد قراءة بعض العبارات التي وردت في بيان العلامة د. حسن الشافعي مخاطبا فيه الإمام القرضاوي:
"الشيخ الطيب ــ الذى تسمح لنفسك بالخوض في سيرته ــ"، وكأن شيخ الأزهر يأتيه نبأ السماء وسيرته محفوفة بالعصمة فلا يجوز لأحد أن يخوض في سيرته!!
"وقد عيِّن الشيخ «بالدرجة الأكاديمية» التي نالها من الأزهر أستاذا في جامعة قطر، دون أن يتدرج في الدرجات الجامعية المعروفة من مدرس إلى أستاذ مساعد ثم إلى أستاذ". وما الذي يضيرك في هذا يا شيخنا الشافعي، لولا أني أعرف دينك وخلقك وورعك لقلت لا يكتب هذا الكلام إلا حاقد على القرضاوي!!
"كأن مؤسسة الشيخ القرضاوي التي يرأسها «الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين» هي وحدها المؤهلة للأعمال ذات الصبغة العالمية، وكأنَّ على الأزهر أن يتنحى عن دوره العالمي على مدى قرون متطاولة تزيد على ألف عام لكى يقوم «الاتحاد المذكور» الذى لجأ في مؤتمره الأخير بالقاهرة حول «الخطاب الإسلامي» إلى الأزهر ليرعاه ويشاركه".. هذا كلام تعقيبا على قول الشيخ القرضاوي إن الأزهر لا يستطيع أن يدير نفسه فضلا عن أن يقود عملا عالميا.. وهل هذا يشك فيه أحد يا فضيلة شيخنا الدكتور حسن؟
هل تشك فضيلتك أن الأزهر على مر ما يقارب العقدين من الزمان رجع مئات السنين إلى الخلف بفضل الشيخ طنطاوي الذي ترحمت عليه؟ هل خرَّج الأزهر خلال هذه المدة إلا جيلا مشوها ـ مثله مثل بقية شباب مصر في بقية جامعاتها، الذي نشأ في عهد المخلوع ـ وهل أنتج إلا خطابا عقيما غير قادر على الوفاء بمتطلبات الحياة الفكرية والشرعية فضلا عن أن يقوم بمهمة قيادة الأمة ومقتضيات الاجتهاد والبناء والتجديد؟.
إن أحدًا لا يمكن أبدًا أن يزايد على تاريخ الأزهر ولا مرجعيته للمسلمين في أنحاء العالم، كما أن أحدًا لا يسره أبدا أن يصير الأزهر ـ جامعا وجامعة ـ إلى ما صار إليه، بعد أن شُوهت مناهجه وأغلقت كتاتيبه، واستُقبل فيه حاخامات الصهاينة، وشُردت بسبب ذلك جبهة علماء الأزهر، بل الجميع يتمنى للأزهر العافية، ويرجو له المعافاة وأن يستعيد دوره وقيادته للأمة وريادته لحركة الفكر والاجتهاد والتجديد.. ولكن في الوقت نفسه لا يمكن أبدا أن نجادل في الضعف الذي آل إليه حال الأزهر، وأنه صار "الرجل المريض" الذي أصبح يعاني مما عانت منه الخلافة العثمانية في أواخر عهدها، ولعله يشهد في الفترة القادمة نهضة تتماشى مع النهضة التي ستشهدها مصر بحول الله، هذا ما يرجوه ويأمله كل مخلص ومحب للأزهر.
يمنُّ أستاذنا الدكتور حسن الشافعي على شيخنا القرضاوي أن د. أحمد الطيب رفض أن يُستدعى القرضاوي لدى أمن الدولة ـ لا رده الله ـ وقال الطيب للضابط: "سأدخل إلى قاعة المؤتمر ــ لو فعلتم ذلك ــ وأعلن استقالتي من الجامعة، وأذكر السبب للحاضرين". كما يمن عليه بأن الشيخ طنطاوي رفض الأمر نفسه أيام كان شيخا للأزهر، فكيف يسمح القرضاوي لنفسه اليوم ـ على حد قول د. الشافعي ـ أن "يزايد" على الأزهر وشيخه وعلمائه وهم الذين منعوه وحمَوْه من كلاليب الأمن!!
هل هذا مستوى من الاختلاف يقبل؟ أم هل هذا أسلوب يليق بعالم وقامة في وزن العلامة حسن الشافعي أو يليق أن يوجهه لإمام الأمة الشيخ القرضاوي؟.
إن موقف د. أحمد الطيب موقف عادي جدا ومنطقي جدا، ليس فيه فضل ولا ما يُمنُّ به؛ لأنه ضيفه وهو الذي دعاه لحضور المؤتمر، وهل يليق يا شيخنا الشافعي أن يستدعى القرضاوي للأمن؟ وأن يمنع في المطار لأربع ساعات وخمس ساعات تحقيقات وسخافات؟!!
كما أني أعلم ـ علم اليقين ـ أن د. الطنطاوي هو الذي استدعى الشيخ القرضاوي ـ في مرة ما ـ لأمن الدولة، وذهب معه هناك، ولم يمانع الشيخ القرضاوي من الذهاب معه حفظا للود القديم الذي كان بينهما!
وقال د. الشافعي للشيخ القرضاوي: "ليس للشيخ الذى قضى ما يزيد على نصف قرن في نعيم الخليج أن يزايد ــ كما سمح لنفسه ــ على الأزهر وشيخه وعلمائه، وهم الذين يكابدون مصاعب الحياة راضين، ويقيمون بميدان التحرير محتسبين، ويقاومون الظلم دون طموحات إلى زعامة أو بروز أو جاه أو مال، ويرحم الله شيخنا الغزالي الذى خرج من مصر مضطرا، لفترة قصيرة، عاد بعدها إلى عرينه في القاهرة وبقى حتى مضى إلى جوار ربه..... إن أقل ما يدعو الشيخ إلى الامتناع عن إطلاق الأحكام على الأزهر الشريف، ومكانته العالمية، وإمامه الأكبر، وعلمائه المصريين ــ أنه غريب عن مصر غائب عن الأزهر لمدة نصف قرن، ويجب أن يعلم أن مصر والأزهر قد تغيرا".
وأين كنت يا شيخنا الشافعي سنين عددا وأنت خارج مصر وبعيدا عن الأزهر، وتسمح لنفسك الآن أن تدافع عن الأزهر وشيخه ـ عضو لجنة السياسات ـ وتهمز وتلمز مَن تخرج في الأزهر وحصل على التخصص والعالمية من الأزهر، وكتب عن الأزهر ودور الأزهر، ودعا علماء الأزهر ودار العلوم للنزول إلى الميدان وحضهم على المشاركة في الثورة؟ ألم تقضِ أنت سنين عددا خارج مصر وبعيدا عن الأزهر، سواء في لندن أو باكستان أو غيرهما؟ ليست هذه لغة ولا أسلوبا يتحدث به رجل مثلك بمثابة مؤسسة تمشي على الأرض مع عالم هو أكبر مرجع لأهل السنة في العالم.
وقال له: "وحديث المزايدات يا شيخنا بغيض فدعك منه؛ ودعنا نتعرف على تضحياتك في «الربيع العربي» الذى يمتد الآن إلى الفضاء العربي الكبير".
دعني أحدثك عن تضحيات الشيخ في الميدان يا فضيلة المدير الفني لشيخ الأزهر، رغم علمي أنك تعلمها، فأقول: إن الإمام القرضاوي أراد النزول مبكرا لميدان التحرير، ولكنه نُصح بألا ينزل من إخوانه وقادة الميدان، ومع هذا أصدر الشيخ بياناته وخطب خطبه وتحدث أحاديثه التي كان شباب الميدان ـ وأنا شاهد على هذا ـ يترقبها ويتمثلها ويلتزمها، والتي كانت تواجه وتجاهد الخطاب الرسمي المضلل للمؤسسة الدينية في مصر في ذلك الوقت، ثم نزل في جمعة النصر حين سمحت الظروف وتهيأت الأجواء بحيث أصبحت مصلحة نزوله غالبة على المفسدة؛ فخطب خطبته التاريخية التي كان لها أثرها على شعب مصر كله، بل كان لها امتداداتها في العالم أجمع.
لقد كتبتُ كتابا من 280 صفحة جمعت فيه خطابات وخطب وكلمات القرضاوي عن ثورة مصر وحدها؛ تحليلا وتأصيلا وتطبيقا نشرته دار سلطان.
إن أبناء القرضاوي وأحفاده كانوا في قلب الميدان وفي كبد الهول داخل الميدان وخارجه، وأزواج بناته الذين اعتقل أحدهم في مصر بسبب مشاركته في الثورة.. هل أزيدك شيئا من التضحيات يا شيخنا الشافعي؟.
ثم قال أستاذنا الدكتور الشافعي ـ وما أسوأ ما قال!! ـ: "فهل يسوء الشيخ القرضاوي أن يستقل الأزهر بشأنه؟! وأن تعود الهيئة المباركة؟! وهل يحتاج الأزهر إلى استيفاء علماء من خارجه لكى يقوى على تدبير شئونه، ومن يعنى بهؤلاء: طيور الأزهر المهاجرة أم علماء الدولة الشقيقة المتخرجين في الأزهر الشريف".
إن قلبي ـ والله ـ ليتألم من هذا الإسفاف، وهذا الهمز واللمز والتجريح، وهذه المزايدات التي لا تليق بطلبة العلم فضلا عن علماء قمم وقيم وقامات، وإذا كان هذا هو مستوى العلماء الكبار فماذا يفعل طلاب العلم؟! هل هذه هي الأسوة أو القدوة التي تريد ـ يا فضيلة د. حسن ـ أن توصلها لأبنائك وطلابك ومن يقتدون بك؟!
بل قال له بشكل صريح "كفاك كذبا" حين قال له: "وليسمح لنا الشيخ الكبير ــ والنصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم ــ أن نذكره بحديث النبي صلى الله عليه وسلم ــ: "كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع". وهل علمتَ الشيخ القرضاوي أنه يحدث بكل ما سمع؟ أو أنه سيلقي الحديث على عواهنه دون تأكد أو تبين؟!
يا فضيلة الدكتور حسن: إن فضيلة الإمام الأكبر نفسه هو الذي أخبر بعض الحضور في المؤتمر الذي أشرت إليه في بيانك أنه هو الذي أحضر رجال الأمن لطلابه وأبنائه في جامعة الأزهر.
يا فضيلة الدكتور حسن: إن فضيلة الإمام الأكبر قبل أن يتولى مشيخة الأزهر ساءته إحدى رسائل الدكتوراه التي نوقشت عن دار الإفتاء في دار العلوم ـ لزميلنا الدكتور مسعود صبري ـ ذهب فيها إلى أن د. أحمد الطيب لا يصلح للإفتاء وليس على أي درجة من درجات الاجتهاد المقررة لدى الأصوليين، فثارت ثائرته، وهاجم قسم الشريعة الإسلامية بكلية دار العلوم ـ وأرغم لجنة المناقشة أن تلزم الباحث ـ للأسف الشديد ـ بتعديل الرسالة بعد أن تمت المناقشة، وأن يقوم الباحث بحذف ما قاله ـ أو تخفيفه ـ عن د. أحمد الطيب، وذلك حتى لا يكون هناك ما يشغب على ترشيحه لمنصب شيخ الأزهر!!
إن البيان الذي بدأته بقولك: "نود ــ مع كراهيتنا للجدال والتراشق بالتهم ــ أن نبين فقط وجه الحق فيه" لم تبين فيه وجه الحق، وإنما أظهرت فيه أسلوبا غير لائق بك ولا بالشيخ، خسرت به كثيرا من رصيدك لدى طلابك وتلاميذك ـ وأنا منهم ـ الكثير والكثير.
إن القرضاوي الذي سألته صحيفة الشروق في حوارها المذكور: "هل كانت بينك وبين شيخ الأزهر مشاورات أو مكالمات أثناء الثورة؟". فقال الشيخ: "حقيقة أنا لا أذكر والله، ولا أستحضر هذه الأمور الآن، وأخشى أن أقول شيئا يظلمه".. لا يمكن أن يزايد على الأزهر وهو أبرز أزهري في العالم، ولا على علمائه وهم ـ في مجملهم ـ تربوا على علمه وكتبه وأنشطته.
ولا يعني هذا أن نسلب فضيلة الإمام الأكبر جهوده وحسناته ودوره الذي لعبه، وبخاصة بعد الثورة، وحسبه البيان الفتوى الذي صدر بجواز عزل الأنظمة الظالمة، وتضامنه مع القضية الفلسطينية، وتجاوبه مع حركات الإصلاح ورجاله، ولقد ثمن شيخنا القرضاوي بيانه هذا، فضلا عن الخطاب الذي أرسله له مهنئا على توليه منصب شيخ الأزهر.
أقول لشيخنا الدكتور حسن الشافعي وهو من رجال مصر والعلم والفكر والمؤسسات التعليمية الذين تفخر بهم الأمة: لا تنصِّبْ نفسك مدافعا عن أحد؛ لأنك عندنا أكبر وأعظم ممن تدافع عنهم، ولا تسمح لنفسك ـ ونحن لا نسمح لك بل نرجوك ـ أن تدخل معركة تخسر فيها أحدا إلا من عادى الله ورسوله والمؤمنين، ولا أظن أن الإمام القرضاوي ـ عندك ـ يعادي الله ورسوله والمؤمنين.
.........
عن صحيفة الشروق، 23/2/2012.