د. عمرو عبد الكريم
الوسطية هو الاتجاه المتوازن الذي يجمع بين اتباع النصوص ورعاية مقاصد الشريعة، فلا يُعارَض الكلي بالجزئي، ولا القطعي بالظني، ويراعي مصالح البشر، بشرط ألا تعارض نصا صحيح الثبوت صريح الدلالة، ولا قاعدة شرعية مجمعا عليها، فهو يجمع بين محكمات الشرع ومقتضيات العصر.
وهذا الاتجاه هو الاتجاه السليم الذي تحتاج إليه أمتنا، والذي يمثل بحق وسطية الإسلام بين الأديان، ووسطية أمته بين الأمم، قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) [البقرة:143]، ووسطية أهل السنة الفرقة الناجية بين الفرق المختلفة التي مال بها الغلو أو التفريط عن "الصراط المستقيم".
وهذا هو اتجاه أهل العلم والورع والاعتدال، وهي الصفات اللازمة لمن يتعرض للفتوى والتحدث باسم الشرع، وخصوصا في هذا العصر، وهذا الاتجاه هو الذي يجب أن يسود، وهو الاجتهاد الشرعي الصحيح، وهو الذي دعا ويدعو إليه المصلحون الغيورون.
وقد رفع العلامة القرضاوي لواء الوسطية والاعتدال إما في الفتوى أو في الدعوة، وكان شعاره: إن الذي أومن به وأدعو إليه وأدافع عنه هو المنهج الوسط للأمة الوسط، وقال: أنا منهجي في الحياة "إنما هو المنهج الوسط".وهناك ثلاثة عوامل نحتت وسطية العلامة القرضاوي نحتا؛ منها ما هو فطري، ومنها ما هو قدري، ومنها ما هو كسبي:
أما الفطري فهو ما فطر الله عليه شيخنا من تسامح ويسر، يقول عن نفسه: إنني شخص ممن وهبهم الله فطرة الاعتدال والتوازن في النظر إلى الأمور، فأحب دائما ألا أكون من المغالين إلى اليمين أو المتطرفين إلى اليسار، وهي موهبة إلهية، وبعض الناس يميل إلى التحلل والتسيب، وأنا أجد نفسي دائما في الموقف الوسط.
أما القدري فهو نشأته في ريف مصر، وفي وجهها البحري، وأهل هذه الناحية أهدأ طباعا وألين عريكة من جنوبها، كما أنه نشأ يتيما في أسرة رقيقة الحال، عوضه حب من حوله له -عمه وأبناء عمه وأقاربه، وبعد ذلك حب الناس- عن مرارة اليتم، فنشأ سوي النفس مستقيما، ولم تعرف حياته ترددات تطرفية ينتقل فيها من طرف إلى مضاده، وعندما سئل عن التحولات في حياته قال: لم تحدث لي تحولات، فهي من أول مبتدئها كانت على الإسلام والعمل به.
المدرسة الإصلاحية
أما ثالث تلك العوامل فهو العامل الكسبي، وأعني به انضمام الشيخ منذ مفتتح حياته الطيبة إلى جماعة الإخوان المسلمين، وهي المدرسة الإصلاحية التي اتخذت الوسطية شعارا لها ومسلكا عمليا في اجتهاداتها الفقهية، أو في اختياراتها السياسية، أو في التطبيق العملي لرموزها، فأعظم الشخصيات طُرا تأثيرا على علامتنا القرضاوي هو الإمام البنا، ولم يُعرَف مثل الأستاذ البنا داعية للوسطية منهجا وفكرا وتوجها وسياسة.
وممن أثروا في الشيخ القرضاوي الشيخ رشيد رضا ومدرسته المنار، وهو علامة مجدد، اتسم بوسطيته واعتداله، وكذلك أثر في الشيخ القرضاوي من رموز الأزهر من الدعاة الوسطيين: الدكتور عبد الله دراز، ود.محمد أبو زهرة، و د.عبد الحليم محمود، ومحمد يوسف مرسي، والشيخ البهي الخولي، والشيخ محمود شلتوت.يقول العلامة القرضاوي: ومن خصائص المنهج الذي سرت عليه: التزام روح التوسط دائما، والاعتدال بين التفريط والإفراط، بين الذين يريدون أن يتحللوا من عرى الأحكام الثابتة بدعوى مسايرة التطور من المتعبدين بكل جديد، وبين الذين يريدون أن يظل كل ما كان على ما كان من الفتاوى والأقاويل والاعتبارات؛ تقديسا منهم لكل قديم.والإسلام منهج وسط في كل شيء؛ في التصور والاعتقاد، والتعبد والتنسك، والأخلاق والسلوك، والمعاملة والتشريع.وهذا المنهج هو الذي سماه الله "الصراط المستقيم"، وهو منهج متميز عن طرق أصحاب الديانات الفلسفات الأخرى من المغضوب عليهم ومن الضالين الذين لا تخلو مناهجهم من غلو أو تفريط.والوسطية إحدى الخصائص العامة للإسلام، وهي إحدى المعالم الأساسية التي ميز الله بها أمته عن غيرها، قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) [البقرة:143]، فهي أمة العدل والاعتدال التي تشهد في الدنيا والآخرة على كل انحراف يمينا أو شمالا عن خط الوسط المستقيم.فوسطية الإسلام في الاعتقاد تمثل وسطية الإسلام بين الأديان، ووسطية أمته بين الأمم: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) [البقرة: 143]، ووسطية أهل السنة في التصور هي وسطية الفرقة الناجية بين الفرق المختلفة التي تفرقت بها السبل بين الإفراط والتفريط.
وسطية أهل العلم
ووسطية أهل العلم ثلاثة أركان : علم، وورع، واعتدال، فالعلم يعصم من الحكم بالجهل، والورع يعصم من الحكم بالهوى، والاعتدال يعصم من الغلو.والنصوص الإسلامية تدعو إلى الاعتدال، وتحذر من التطرف الذي يعبر عنه في لسان الشرع بعدة ألفاظ: "الغلو"، و"التنطع"، و"التشديد".والواقع أن الذي ينظر في هذه النصوص يتبين بوضوح أن الإسلام ينفر أشد النفور من الغلو، ويحذر منه أشد التحذير؛ ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا لمح من بعض أصحابه جنوحا إلى الإفراط أو التفريط ردهم بقوة إلى الوسط، وحذرهم من مغبة الغلو والتقصير.ولهذا أنكر على الثلاثة الذي سألوا عن عبادته فكأنهم تقالُّوها، ولم تشبع نهمهم إلى التعبد، وعزم أحدهم أن يصوم الدهر فلا يفطر، والآخر أن يقوم الليل فلا يرقد، والثالث أن يعتزل النساء فلا يتزوج، وقال حين بلغه مقالتهم: "أما إني أخشاكم لله وأتقاكم له، ولكني أصوم وأفطر، وأقوم وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني".ولما رأى مبالغة عبد الله بن عمرو في الصيام والقيام والتلاوة رده إلى الاعتدال قائلا: "إن لبدنك عليك حقا )أي في الراحة(، ولعينك عليك حقا )أي في النوم(، ولأهلك عليك حقا )أي في الإمتاع والمؤانسة(، ولزَوْرك عليك حقا )أي في الإكرام والمشاركة(، يعني: فأعط كل ذي حق حقه.ولأن إحدى الخصائص الهامة للإسلام هي الوسطية والاعتدال، فهو يمثل التوازن الإيجابي في كل المجالات، اعتقادية وعملية، ومادية ومعنوية، فهو يوازن بين الوحي الإلهي والعقل الإنساني، فلكل منهما مجاله، وهو يعمل في حياة الفرد على الموازنة بين الروح والمادة، وبين العقل والقلب، وبين الدنيا والآخرة، وبين الحقوق والواجبات، ومن ناحية أخرى يقيم الموازين بالقسط بين الفرد والمجتمع، فلا يعطي الفرد من الحقوق والحريات حتى يتضخم على حساب مصلحة المجموع، ولا يعطي المجتمع من الصلاحيات والسلطات ما يجعله يطغى ويضغط على الفرد حتى يضمر وينكمش، وتَذبُل حوافزه ومواهبه وقدراته، بل يعطي الفرد حقه، والمجتمع حقه، بلا طغيان ولا إخسار، كما نظمت ذلك أحكام الشريعة وتوجيهاتها.وبهذا يحافظ على حرية الوطن، كما يرعى حرية المواطن، وهي حرية الفكر لا حرية الكفر، وحرية الضمير لا حرية الشهوة، وحرية الرأي لا حرية التشهير، وحرية الحقوق لا حرية الفسوق.فالإسلام وسط في كل شيء؛ في تشريعه، ونظامه القانوني والاجتماعي، فهو وسط في الطلاق بين الذين حرّموا الطلاق لأي سبب كان ولو استحالت الحياة الزوجية إلى جحيم لا يطاق- كالكاثوليك، وقريب منهم الذين حرموه إلا لعلة الزنا والخيانة الزوجية كالأرثوذكس- وبين الذين أرخوا العنان في أمر الطلاق فلم يقيدوه بقيد أو شرط، فمن طلب الطلاق من امرأة أو رجل كان أمره بيده، وبذلك سهل هدم الحياة الزوجية بأوهى سبب، وأصبح هذا الميثاق الغليظ أوهى من بيت العنكبوت.إنما شرع الإسلام الطلاق عندما تفشل كل وسائل العلاج الأخرى، ولا يجدي تحكيم ولا إصلاح، ومع هذا فهو أبغض الحلال إلى الله، ويستطيع المطلّق أن يراجع مطلقته ويعيدها إلى حظيرة الزوجية من جديد مرة ومرة، كما قال تعالى: (الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ) [البقرة:229].بارك الله لنا في عمر شيخنا العلامة الدكتور يوسف القرضاوي، وأمده بروح من عنده، وأجرى الحق على لسانه ويده، فلا تزال الأمة بخير ما اتبعت أئمة الهدى الذين هم الخلف العدول الذين أخبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين".
........
* نقلا عن صحيفة "المصريون"، 12-12–2007.