د. يوسف القرضاوي
روى الإمام مسلم في صحيحه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء"[1] (صدق رسول الله).
الغُربة غربتان
إن الغُربة غُربتان ... غُربة البدن: بالبعد عن الأوطان، وفِراق الأهل والخلاَّن. وهي غربة تثير - ولا شك - عواطف الحنين دائما، ومشاعر القلق والخوف في كثير من الأحيان، وفي درجات يتفاوت فيها الناس.
الغُربة الحقَّة
والغُربة الأخرى هي غُربة الروح والفكر ... غُربة الغاية والوِجهة، غُربة العقيدة والسلوك ... وهذه هي الغُربة حقا. فإن صاحبها يعيش وحيدًا وإن كان بين جماهير الناس، مستوحشا وإن ازدحمت من حوله المواكب، إنه يعيش بين الناس ولسان حاله يقول:
أنا في أمة تداركها الله *** غريب كصالح في ثمود.
هذه هي الغربة التي وصف النبي صلى الله عليه وسلم أصحابها في هذا الحديث، وجعل لهم الطُوبى، "فطوبى للغرباء".
طوبى للغرباء في آخر الزمان ...
بدأ الإسلام غريبا بين أقوام لا يؤمنون، بين أقوام يصدُّون عنه، ويحادُّون الله ورسوله، ويصبُّون الصاب والعلقم على كل مَن آمن بهذا الدين.
بدأ الإسلام بين نُزَّاع من القبائل من هنا ومن هناك، اعتنقوا دين الله، وآمنوا به، وخالطت بشاشة الإيمان قلوبهم، فرضوا بكل ما يُصيبهم في سبيله، ثم أراد الله لهذا الدين ليقوى وينتشر شيئا فشيئا، حتى عمَّ الآفاق، وظهر على الدين كله، وجاء نصر الله والفتح، ودخل الناس في دين الله أفواجا.
ولكن ... كما هي سنة الله ... كل شيء يتغيَّر، لا يبقى شيء على حال، فدوام الحال من المحال.
إن هذا الدين الذي قوي وانتشر وعمَّ الآفاق، ستُصيبه غُربة في آخر الزمان، وسيصبح أهله غرباء، فطوبى لهؤلاء الغرباء ...
طوبى لهؤلاء المُتمسكين بحبله، المُتشبثين بذيله، المُتعلقين بأهدابه، الذين لا يُفرطون في دينهم، ويقبضون عليه وإن كان قبضا على الجمر.
معنى طوبي
طوبي للغرباء.. ومعنى الطوبى: أي الفرحة وقرة العين والغبطة والسرور... تنتهي بالجنة، طوبى للغرباء ... وفي الحديث: قيل يا رسول الله، مَن الغرباء؟ قال: "النُزَّاع من القبائل"[2]، في حديث عبد الله بن عمرو، قيل: مَن الغرباء، يا رسول الله؟ قال: "أناس صالحون قليل في ناس سوء كثير، مَن يعصيهم أكثر ممَّن يطيعهم"[3]، وجاء أيضا في حديث آخر رواه الإمام أحمد، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن أحب شيء إلى الله الغرباء" قيل: ومَن الغرباء؟ قال: "الفارُّون بدينهم، يجتمعون إلى عيسى بن مريم عليه السلام يوم القيامة"[4]، وفي رواية أخرى من حديث آخر، مَن الغرباء، يا رسول الله؟ قال: "الذين يُيحيون سُنتي، ويُعلِّمونها الناس"[5].
ولا تناقض ولا اختلاف بين هذه الأحاديث والروايات ... فكلُّها أوصاف مُشيرة إلى حقيقة هؤلاء الناس، ومُعبِّرة عنهم ... ولذلك ذكر شيخ الإسلام (إسماعيل الهروي) في كتابه (منازل السائرين) في باب (الغُربة): إن الله تعالى يقول: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ} [هود:116]، بدأ بهذه الآية، وعقَّب على ذلك ابن القيم بقوله: (استشهاده بهذه الآية في هذا الباب يدلُّ على رسوخه في العلم والمعرفة، وفنِّ القرآن، فإن الغرباء في العالم: هم أهل هذه الصفة المذكورة في الآية ... {يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ}[6].
بم ينشغل الغرباء؟
هؤلاء هم الغرباء ... هم الممدوحون المغبوطون ... ولقلتهم في الناس جدا سموا غرباء، فإن أكثر الناس على غير هذه الصفات.
الناس مشغولون بدنياهم، وهؤلاء مشغولون بدينهم.
الناس مشغولون بالفرار إلى الخلق، وهؤلاء يفرون إلى الله: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذريات:50].
الناس يعملون لأمور تافهة، وهؤلاء يعملون لإحياء سُنة النبي صلى الله عليه وسلم، ويُعلمون الناس ... ولهذا كانوا غرباء بين الناس.
فأهل الإسلام في الناس غرباء، والمؤمنون في أهل الإسلام غرباء، وأهل العلم في المؤمنين غرباء، وأهل السنة الذين يُميِّزونها من الأهواء والبدع فيهم غرباء، والداعون إليها الصابرون على أذى المخالفين هم أشد هؤلاء غُربة.
ولكن هؤلاء كما قال الإمام ابن القيم: (أهل الله حقا)[7].
فلا غُربة عليهم، وإنما غُربتهم بين الأكثرين، الذين قال الله فيهم: } َإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116]. أولئك هم الغرباء، من الله ورسوله ودينه، وغُربتهم هي الغُربة المُوحشة، وإن كانوا هم المعروفين، المشار إليهم، كما قال القائل:
ليس غريبًا مَن تناءتْ ديارُه ** ولكن مَن تنأينَ عنه غريبُ
ويروى أن موسى عليه السلام، حينما خرج فارا من قوم فرعون، انتهى إلى مدين، على الحال التي ذكر الله، وهو وحيد ... غريب ... خائف ... جائع... فقال: يا رب، وحيد مريض غريب. قالوا: فنودي: يا موسى، الوحيد مَن ليس له مثلي أنيس، والمريض مَن ليس له مثلي طبيب، والغريب من ليس بيني وبينه معاملة[8].
هؤلاء الغرباء حقا ... أما هؤلاء فإن كانوا غرباء في الناس، فهم موصولون بالله عز وجل.
إن الغُربة التي وصفها النبي صلى الله عليه وسلم، في هذا الحديث، هي مناط الفخر، هي تاج يتوَّج أصحابه عند الله يوم القيامة.
هذه هي الغُربة لا وحشة على صاحبها، بل هو آنس ما يكون إذا استوحش الناس، وأشد ما يكون وحشة إذا استأنسوا، فوليُّه الله ورسوله والذين آمنوا ... وإن عاداه أكثر الناس وجَفَوْهُ.
في حديث القاسم عن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، عن الله عز وجل: "إن أغبط أوليائي عندي لمُؤمن خفيف الحال، ذو حظٍّ من صلاة، أحسن عبادة ربه، وكان رزقه كَفافا، وكان مع ذلك غامضا في الناس، لا يُشار إليه بالأصابع -ليس من المشاهير ولا المعروفين- وصبر على ذلك حتى لقيَ الله، ثم حلَّت منيتُه، وقلَّ تراثه، وقلَّت بواكيه"[9].
ومن هؤلاء الغرباء، ما رواه أنس في حديثه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "رُبَّ أشعث أغبر ذي طمرين لا يُؤبه له، لو أقسم على الله لأبرَّه"[10]، وفي حديث أبي هريرة: "رُبَّ أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبرَّه"[11]
هؤلاء ملوك أهل الجنة كما جاء في الحديث: "ألا أخبركم عن ملوك أهل الجنة؟". قالوا: بلى، يا رسول الله. قال: "كل ضعيف أغبر ذي طمرين لا يُؤبه له، لو أقسم على الله لأبرَّه"[12]. لا يؤبه له ... إن استأذن لم يُؤذَن له، وإن شفع لم يُشفَّع، وإن قيل لم يُسمَع، لأنه ليس من ذوي الجاه ولا المنزلة ولا أصحاب المناصب، إنه في الناس غريب ... كما قال الحسن: المؤمن في الدنيا كالغريب لا يجزع من ذُلِّها، ولا ينافس في عزِّها، للناس حال وله حال، الناس منه في راحة، وهو من نفسه في تعب[13].
ليس عند الغرباء يأس
طوبى لهؤلاء الغرباء ... ليس معنى هذا -أيها الإخوة - التأييس من نُصرة الإسلام، كما يُريد بعض الناس أن يفهموا من هذا الحديث، أن ييأسوا ...
لا، على كل مسلم أن يُحاول أن يكون من هؤلاء الغرباء، أن يُكثِّر منهم حتى تزول غربتهم ووحشتهم، وقد جاء أن للإسلام دولة قبل الساعة، وأن الله ناصر دينه وأن الله تعالى يقول: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33].
والنبي صلى الله عليه وسلم، يقول: "إن مثل أمتي مثل المطر، لا يُدري أوله خير أو آخره"[14]، وقال: "لن يخزي الله أمة أنا أولها، والمسيح آخرها"[15].
فاستمسكوا أيها المؤمنون بإيمانكم، وعضُّوا عليه بالنواجذ، ولا يُهمكم موقف الناس منكم، وحسبكم أن الله معكم، وأن الله وليكم ... {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:11].
..........
[1] رواه مسلم في الإيمان (145)، وابن ماجه في الفتن (3986)، وأحمد في المسند (9054)، عن أبي هريرة.
[2] رواه أحمد في المسند (3784)، وقال محققوه: إسناد أحمد صحيح على شرط مسلم رجاله ثقات رجال الشيخين غير أبي الأحوص فمن رجال مسلم، وابن ماجه في الفتن (3988)، وابن أبي شيبة في المصنف كتاب الزهد (7/83)، والدارمي في الرقاق (2755)، والبزار في المسند (5/433)، وأبو يعلى في المسند (8/388)، عن ابن مسعود، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه، دون قوله: قيل: من الغرباء؟ قال: "النزاع من القبائل" (3223).
[3] رواه أحمد في المسند (6650) وقال محققوه: حديث حسن لغيره، والطبراني في الأوسط (2/222)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه أحمد والطبراني وفيه ابن لهيعة وفيه ضعف (7/545)، عن عبد الله بن عمرو، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1619).
[4] رواه ابن المبارك في الزهد (1513)، والآجري في الغرباء (37).
[5] رواه القضاعي في مسند الشهاب (2/138)، عن عمرو بن عوف.
[6] مدارج السالكين (3/194).
[7] مدارج السالكين (3/196).
[8] المرجع السابق.
[9] رواه أحمد في المسند (22221) وقال محققوه: ضعيف جدا وهو شبه موضوع، والترمذي في الزهد (2347) ، وابن ماجه في الزهد (4117)، والحميدي في المسند (2/404)، وأبو نعيم في الحلية (1/25)، والبيهقي في الشعب باب في الزهد وقصر الأمل (7/293)، عن أبي أمامة، ونصه: "إن أغبط أوليائي عندي: مؤمن خفيف الحاذ، ذو حظ من صلاة، أحسن عبادة ربه وكان في الناس غامضا لا يشار عليه بالأصابع، فعجلت منيته، وقل تراثه، وقلت بواكيه".
[10] سبق تخريجه.
[11] سبق تخريجه.
[12] رواه ابن ماجه في الزهد (4115)، والطبراني في الكبير (20/84)، وفي مسند الشاميين (2/205)، والبيهقي في شعب الإيمان باب في الزهد وقصر الأمل (7/333)، عن معاذ بن جبل.
[13] رواه ابن أبي شيبة في المصنف كتاب الزهد (7/189)، وأحمد في الزهد صـ262، وابن أبي الدنيا في محاسبة النفس (78)، .
[14] رواه أحمد في المسند (12327)، وقال محققوه: حديث قوي بطرقه وشواهده , وهذا إسناد حسن، والترمذي في الأمثال (2869)، وقال: حسن غريب من هذا الوجه، وأبو يعلى في المسند (6/190)، عن أنس، وصححه الألباني في صحيح الجامع (5854).
[15] رواه ابن أبي شيبة في المصنف كتاب الجهاد (4/206) عن عبد الرحمن بن جبير.