د. صلاح سلطان

صدرت مقالات كثيرة وعديدة في بوسطن وشيكاغو وأوهايو...، ولا تزال تضع صورة الشيخ القرضاوي وبجواره صورتي، وتحذر المجتمع والحكومة الأمريكية من تلميذ الشيخ الذي لا يكف عن ذكره، والاستشهاد بآرائه في كل دروسه وخطبه، وأنني ظله في أمريكا، واشتدت الحملة حتى طالب القائمون عليها والمدبرون لها الحكومةَ الأمريكية بإخراجي من أمريكا أو عدم إعطائي الجنسية، ويستطيع أي واحد أن يكتب اسمي على موقع google للبحث على الإنترنت، وسيجد مقالات عديدة تحذر مني؛ بحجة أنني أتبنى منهج الشيخ القرضاوي؛ وخاصة في الموقف من إسرائيل، ومساندة القضية الفلسطينية.

أهل الاعتدال

وقد جمعتني مع فضيلة الشيخ القرضاوي بشكل مباشر مواقف محفورة في أعماق قلبي، وسويداء فؤادي، وهي جميعها ذات تأثير في حياتي، وأشعر أنه من الأهمية أن أبثها إلى زملائي من محبي الشيخ الجليل وتلاميذه؛ ليتدارسوا ما فيها من عِبر، فما زلت أتذكر يوم أن كنت عائدا من أمريكا في يوم 25-6-2001، وكان المسار الذي اتخذته الطائرة المتجهة إلى القاهرة هو (ديترويت- ألمانيا- القاهرة).

وفي مطار القاهرة –كالعادة- أخذوا جواز سفري للكشف والتحري، وطلبوا مني الدخول في غرفة ينتظر فيها أمثالي من المشبوهين (عندهم)، ودخلت الغرفة الصغيرة التي كان بها لمبة ضعيفة جدا، ولا أكاد أبصر شيئا، وأحسست أن هناك شيخا أزهريا في الغرفة، لكن لم أتبينه من هو، فقلت: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ففوجئت أن الرد جاء بصوت جهوري مفعم بالمشاعر والأحاسيس، إذ كان الشيخ القرضاوي من يجلس بالغرفة! وكان قادما من قطر، فقال لي: ما جاء بك هنا يا بني؟، فقلت جاء بي الذي جاء بك، ألست القائل في قصيدة "الأصوليون":

وكلنا في الهـوى سوى من لم يمارس عنفه فقد نــوى

لكن أهل الاعتدال أخطر فهم على البـلاء أصبـــر

فهم يربحون جولة فجولة وبعد ذلك يبلعــون الدولة

فقال لي معلقا على كلامي: وهذا وقته؟، تعال هنا، وجلست بجواره، وقلت: أستاذنا: دعنا نستفد من الوقت "هم يخلصوا شغلهم، وإحنا نخلص شغلنا"، فجلسنا نضع برنامج اجتماعنا الذي كنا سنعقده في الصيف بشأن المجلس العلمي للجامعة الإسلامية الأمريكية– ديترويت– ميتشجان- وكان الشيخ رئيسا لمجلس الأمناء، وكنت رئيسا للجامعة، فجلسنا نضع البرنامج واليوم والمحاور والحضور، وانتهينا من كل شيء في هذه الغرفة (العشة)، وبعد الانتهاء جاءوا ونادوا على الشيخ، وبقيت وقتا أتحاور مع اللواء الذي كان يتابعنا: كيف تفعلون هذا مع الشيخ الجليل الذي يستقبل في صالة كبار الزوار في الدنيا كلها إلا بلده الأصلي مصر؟ كيف تفعلون هذا معه؟!، لكن اللواء كان دائما يقول : عندك حق، لكني عبد مأمور.

تواضع العلماء

في أكتوبر سنة 2001 بعد أحداث سبتمبر زادت الفتن، وتعالى الخوف على المسلمين في أمريكا، واتصل الأخ محمد المسئول عن المسلمين في الجيش الأمريكي يسأل عن حكم الله في اشتراك الجنود الأمريكان المسلمين فيما يسمى بالحرب على الإرهاب، واتصل بعض الشيوخ من أمريكا بالشيخ، وأخبروه أننا لو أفتينا بعدم الجواز في هذا الجو الملتهب فسوف يتعرض المسلمون لأزمة ضخمة ربما تصل إلى ما عاشه مسلمو البوسنة مع الصرب، وربما تهّدم مساجدهم وتؤخذ مؤسساتهم؛ فأفتى الشيخ بالجواز على قناة الجزيرة في برنامجه الشريعة والحياة مع ضوابط محاولة عدم الاشتراك إن أمكن، وأخذ الصفوف الخلفية، وعندما سمعت الفتوى، اتصلت بأستاذنا د. جمال بدوي الذي وافقني الرأي أن هذه الفتوى تحتاج إلى مراجعة، وأن الأخوة الذين حدثوا الشيخ بالغوا في وصف الواقع هناك، وقمت بالاتصال بأستاذنا العلامة وأحضرت أستاذنا د. جمال بدوي على الخط، وصرنا نتحدث مع شيخنا نراجعه فأشهد أنه قال: سوف أرجع عن هذه الفتوى، لقد أفتيت بناء على معلومات من عندكم، والآن بعد تصحيحها أراجع الفتوى، ومن أدبه الجم، وفضله الكبير، وتواضعه الشديد، ورجوعه إلى الحق، عاد في فتواه، وغيرها في الأسبوع الذي يليه.

أما الموقف الثالث مع شيخنا الجليل فقد كان في مؤتمر رابطة علماء الشريعة في ديترويت – ميتشجان في نوفمبر 1999 وهي آخر مرة دخل فيها شيخنا إلى أمريكا، حيث سحبوا التأشيرة منه، وكان هناك حضور عالمي في هذا المؤتمر، حيث كان من المقرر مناقشة قضايا المسلمين في الغرب.

وفي الجلسة الافتتاحية كان الأصل أن يكون هو صاحب الكلمة لأنه رئيس المؤتمر لكنه لم يستطع النزول- شفاه الله وعافاه- لظروف صحية، واتفق الإخوة المنظمون أن يقول أكبر العلماء الموجودين سناً الكلمة مكانه، وطلع الشيخ البديل (وأعتذر عن ذكر اسمه) ليقوم بهجوم كاسح وشديد، وحاد على الشيخ القرضاوي بالكناية دون الذكر لكن الكلام يفهمه الجميع، حيث أشار إلى أن هناك شيوخ التيسير الذين يريدون أن يتحللوا من الشريعة، ويجروا وراء الشهرة في الفضائيات وكان كلاماً لاذعاً، وجاء الشيخ القرضاوي في الجلسة الأولى بعد الافتتاحية ليبدأ بالعفو عمن ظلمه، والتسامح مع كل من أساء إليه، وقال: ما جئنا هنا لنتنابذ، بل لنحل للأقلية المسلمة معضلاتها، ولن نحيد عن هدفنا، فدعونا مباشرة نبدأ مع اسم الله وبركته.

فقه الضرورة

ومن القضايا التي طرحت كانت قضية شراء البيوت بالقرض الربوي وأجازها الشيخ مع خمسة وأربعين، ولم يوافق عشرون، وكنت من الذين لم يوافقوا، وجئنا إلى الصياغة فكان ما يلي:

1- اقترح الشيخ كتابة القرار بالأغلبية احتراما لرأي المخالفين.

2- لما جاءت صياغة أساس الفتوى كان المعتمد على أمرين:

أ‌- الضرورة الخاصة بمسلمي الغرب في قضية السكن.

ب‌- ما روي عن أبي حنيفة أنه أجاز التعامل بالربا في دار الحرب.

وطلبت من شيخي الجليل حذف المستند الثاني في الفتوى لأننا لا نعتبر أوربا وأمريكا دار حرب، قائلاً إنكم تفتون بأنها دار دعوة، فكيف نغير منهجنا، وهنا وجدت الشيخ بكل مروءة وتواضع يقول: أرى فعلاً أن نحذفها، وخرجت الفتوى مستندة فقط إلى فقه الضرورة، على الرغم من صدورها قبلها بشهر واحد في المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، مستندة إلى الأمرين، فضرب الشيخ مثالاً رائعاً في الرجوع عن بعض رأيه إذا بدا له رأي آخر، ولما طبع كتابه فقه الأقليات، أورد في آخره القضية، ووضع بكل أمانة آراء معارضيه الذين سمعتهم بإذني يهاجمونه في النرويج.

هموم وشجون

في شتاء 2003 كنت في أزمة شديدة، وعدت من رحلة طويلة من ديترويت واشنطن، كندا نيودلهي، فيينا براغ، لندن ، دبلن حيث اجتماعنا الدوري للمجلس الأوربي للإفتاء، وعلى مائدة الطعام ذكرت لشيخي أني أريد أن أجلس معه كي أبثه شجونا حادة تؤلمني، فقال اتصل بي الساعة كذا؟ وفعلا اتصلت لأذهب إليه، ففوجئت أن الشيخ يصر أن يأتي إليّ في غرفتي في الفندق، وجلسنا ساعة كاملة وحدنا وبثثته شجوني، فما تركني إلا وصدري في غاية الارتياح، لكنه مشكورا مأجوراً سألني هل تعلمت الإنجليزية بشكل جيد قلت له درست قليلاً جداً وشغلني إخواني بإدارة الجامعة وهموم أخرى، فقال الآن تجعل أولويتك الأولى تعلم الإنجليزية، فلو استقبلت من أمري ما استدبرت لتعلمت الإنجليزية، وعدت بعدها مباشرة لأسجل نفسي طالباً في دراسة اللغة الإنجليزية في جامعة أوهايو، وكان معي طلاب أصغر من سن أولادي، لكني والحمد لله كنت دائماً الأول عليهم، ولم أحصل في أي فصل دراسي إلا على امتياز تدفعني هذه الكلمات الندية من شيخي وأستاذي، وقدومه المبارك تواضعاً لزيارتي في غرفتي، فعدت بوجه غير الذي ذهبت به، وصار لي لسان غير الذي كنت عليه، حيث أقرأ وأخطب بالإنجليزية.

.........

- المقال منقول بتصرف عن بحث للدكتور صلاح سلطان عن الشيخ القرضاوي تحت عنوان "التكوين العلمي والفكري للقرضاوي".