لا يوفي الكتابة عن الأئمة إلا إمام كما فعل الشيخ أبو زهرة في كتبه عن الأئمة: أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وابن حزم وابن تيمية وجعفر، ولا عن العباقرة إلا عبقري كما فعل العقاد في عبقرياته: عن سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم، وسيدنا عيسي عليه السلام، وعن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وخالد رضي الله عنهم.

أما أن يكتب التلميذ عن الأستاذ، وطالب العلم عن المعلم، فيظل ما كتبه بحاجة إلي التقييم والتوجيه والتصحيح. ومن هنا تأتي أهمية (ملتقي الإمام القرضاوي مع التلاميذ والأصحاب) الذي يعقد يوم السبت القادم 14/7 في الدوحة، ويجمع بين التلاميذ والأستاذ، وبين الطلبة والمعلم، وبين الكاتب والمكتوب عنه: فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي.

والحق أني أجد في هذا الملتقي استدراكا لما كان ينبغي أن يبدأ منذ سنوات وسنوات، بل عقود، غير أني آمل أن يكون هذا الملتقي مقدمة الكتاب، وشرارة البدء، وأول الغيث، وخطوة علي الطريق الصحيح. وقد علمنا الدكتور القرضاوي في أكثر من موضع: أننا أمة تحسن أن تموت لله، ولكن يستعصي عليها - في أحيان كثيرة - أن تعيش له. فقياسا علي هذا، وأرجو ألا يكون قياسي مع فارق، أقول: لقد وفق الداعون إلي هذا المؤتمر في دعوتهم، وبذلوا من أجل إقامته جهود مقبولة ومشكورة ومذخورة، ورعوه ودعموه - هيئات ومؤسسات وأفراداً، ولكن الرعاية الحقيقية - في نظري علي الأقل - تبدأ بعد انتهاء أيام الملتقي في إبقاء الصلة التي زادها الملتقي توثقا كما هي، ومتابعة الآليات التي يتم التوصل إليها والقيام علي تنفيذها، وهو جهد ليس بالهين ولا بالبسيط.

أما القرضاوي فله علي شباب الصحوة، وعلي الأمة الإسلامية، وعلي طلبة العلم - اتفقوا أو اختلفوا معه - أياد نعدُّ منها، لكن لا نعددها، وإني ألجم القلم عن الاسترسال في فضل القرضاوي، مخافة أن يقال: مدح لحاجة . ولقد كتبت عن الشيخ القرضاوي ما يزيد عن خمسمائة صفحة، هي رسالتي للماجستير يوم أن كانت العلاقة علاقة قاريء بكاتب.

وكيف لا يكون لأي منا غرض في الكتابة عن القرضاوي، وأقله غرض الشكر، فضلا عن الحب والود ومعرفة الفضل لأهل الفضل، وهو الذي شارك في صياغة الشخصية المسلمة في العصر الحديث، بشعره ونثره، وخطبه وكتبه، ودأبه وجهده.

وكيف لا، وأذكر أنا كنا نردد كل صباح في معهدنا الابتدائي الأزهري قصيدة للشيخ القرضاوي، وما كنا نعلم أنها له:

مسلمون مسلمون مسلمون حيث كان الحق والعدل نكون

نرتضي الموت ونأبي أن نهون في سبيـل الله ما أحلي المنون

وكيف لا، وقد شمم الدكتور القرضاوي أنوفنا رائحة الفقه، وقديما قالوا: من لم يعرف اختلاف الفقهاء لم تشم أنفه رائحة الفقه. ففي المرحلة الثانوية أو المرحلة الجامعية، حضرت عملا مسرحيا من عمل شباب الصحوة الإسلامية، فإذا بهم يستخدمون الموسيقي التصويرية في بعض الفقرات، وقالوا أحلها الشيخ القرضاوي، وقد كنت أعلم أن الموسيقي حرام قولا واحد، ثم علمت أن القرضاوي ليس وحده في هذا، فمعه الغزالي، وقبله ابن حزم والعز بن عبد السلام، وابن دقيق العيد، وابن جماعة، وأبو حامد الغزالي، والشوكاني، وغيرهم كثير.

وكيف لا، وقد أخرج الشيخ الصحوة من السذاجة الفكرية، حيث كانت كل جماعة من جماعات الصحوة تقدم نفسها أنها الصواب وحدها، وأن غيرها الخطأ كله، وأنها الناجية، وأن غيرها في النار، وأن الواجب علي الجماعات أن تتوحد تحت رايتها، فخرج الشيخ القرضاوي ليعلمنا أنه لا مانع من تعدد الجماعات العاملة للإسلام، ما دام تعددها تعدد تنوع وتخصص لا تعدد تناقض وتصادم، وأن الدعوة إلي توحدها سذاجة فكرية لا يقول بها، وأنه لا يزعجه تعدد المدارس والفصائل والجماعات في خدمة الإسلام، ما دامت تقف صفا واحدا في القضايا الكبري، وأن حديث: 'كلها في النار إلا واحدة'، الذي تتسلح به كل جماعة لتصوب نفسها وتضلل غيرها: حديث ضعيف، وأن كل الجماعات المسلمة الملتزمة بنهج الإسلام في الجنة إن شاء الله.

وكيف لا، وقد أعرض الشيخ القرضاوي عمن طعنه وجرحه ووقع في عرضه وأخرجه من أهل السنة والجماعة، ولم يلبث هؤلاء أن صاروا جماعة واحدة: يوم وقف الشيخ القرضاوي يرفع لواء أهل السنة، ويدافع عنه، ويحاول حقن دماء المسلمين، فصار كل من في قلبه مثقال ذرة من إخلاص مثنيا علي الشيخ، مؤيدا له في دعوته.

وإذا كان الشعراوي قد قرب التفسير من عموم الأمة، وإذا كان الغزالي قد قرب الفكر من عموم الأمة، فإن القرضاوي قرب الفقه إلي عموم الأمة .

وإن كان الشيخ لم يستطع أن يؤلف في كل ما أراد أن يكتب فيه، فحسبه أنه أسس منهجا قويما يسير عليه تلاميذه ليستكملوا البناء الذي بدأه، والطريق الذي سلكه.

ولئن كان الإمام أحمد بن حنبل قال في الشافعي: كان الشافعي كالشمس للنهار، وكالعافية للناس، وإني لأدعو له في أثر صلاتي: اللهم اغفر لي، ولوالدي، ولمحمد بن إدريس الشافعي. فإن القرضاوي كالشمس لنهارنا وكالعافية لأبداننا، نحسبه كذلك ولا نزكيه علي الله، اللهم اغفر لنا ولوالدينا وليوسف بن عبد الله القرضاوي.

..........

* نُشرت هذه المقالة بجريدة الراية القطرية، الخميس 12-7-2007