في مقال متميز للباحث المغربي الدكتور يحيي اليحياوي، نشره في جريدة التجديد العربي المغربية؛ يسعى الى توضيح الازمة التي أثيرت بلا داعي حول فتوى الشيخ القرضاوي بالمغرب.. نص المقال:
لست بالقطع عالم دين ولا من فقهائه أو مؤصليه، أو مؤوليه وفق تطورات الأزمان والعصور (ووفق المذاهب أيضا) حتى يكون بمقدوري، بناء على نقيض ذلك، ولوج هذا المجال، أو تفهم الغاية من هذه الفتوى أو التأكد من الخلفية الناظمة لتلك.
هي قضايا إشكالية كبرى لا يتعرض لها إلا من تضلع في الدين، وهضم فقهه وأصوله واستوعب السياقات التي تصلح لاستنبات الفتوى إياها في الزمن والمكان. هي مجال "خاصة الدين" لا مجال عامته، وأنا هنا من العامة بامتياز.
لكن الذي أوعز لنا بالحديث في هذا الشأن إنما فتوى "عابرة" (أو بدت للبعض كذلك) تفوه بها العلامة يوسف القرضاوي على هامش زيارة قصيرة له بالمغرب صيف هذه السنة، لم يكن لأن يكون لها من تداعيات تذكر (الفتوى أقصد) لولا ردة الفعل الحادة، التي صدرت عن الهيئة العلمية للإفتاء التابعة للمجلس العلمي الأعلى بالمغرب، المكلف والمكفل رسميا بإبداء المشورة الدينية لرئيس الدولة، باعتبار هذا الأخير أميرا للمؤمنين بمنطوق الدستور وتباعا لما "توافق عليه المغاربة" من مئات السنين، يقول البعض.
تقول حيثيات السؤال مادة الفتوى: "بناء على الفتوى التي أصدرتموها بجواز امتلاك السكن بقرض ربوي لفائدة المسلمين المقيمين بديار الغربة، فقد أخذ بعض الشباب في المغرب هذه الفتوى وصاروا يوظفونها في بلدهم بدعوى فتوى الشيخ القرضاوي... ولامتلاك السكن بالمغرب، فالمرء أمام خيارين: إما أن يكون له مال فيقتني سكنا أو يقوم ببنائه، ومن ليس له مال فعليه أن يلجأ إلى البنوك للاقتراض. وقد وضعت الدولة تسهيلات في هذا المجال للحصول على قرض ربوي لامتلاك السكن. والمغرب لا يتوفر على بنوك تعتمد المعاملات الشرعية، لذا يطلب الكثير من الناس بيان حكم الشرع في هذه القضية: هل يجوز في المغرب امتلاك سكن بقرض ربوي؟".
قد يعتبر المرء رد يوسف القرضاوي في حينه عفويا أو عاطفيا أو محكوما بظروف المفتي النفسية أو ظروف سائله، لكن الفتوى التي صدرت وأثارت "الزوبعة" صدرت بعدما عاد الشيخ القرضاوي إلى موطن إقامته، واستنفر علمه وفقهه، وتأكد من أن الذي سيصدر عنه لربما قد يكون من شأنه التأثير على حاضر الملايين وارتهان مستقبلهم بالجملة والتفصيل.
يقول الدكتور القرضاوي في فتواه، بناء على فتوى سابقة من المجلس الأوروبي للإفتاء تجيز للأقليات المسلمة في أوروبا شراء بيوت للسكن عن طريق القروض البنكية، وعلى أساس من قاعدة الضرورات تبيح المحذورات: "...أعتقد أن الأساس الذي بنيت عليه الفتوى للأقليات المسلمة في أوروبا، يبطبق على الإخوة في المغرب مادامت الأبواب مسدودة أمامهم لامتلاك بيت بطريق غير طريق البنك التقليدي، فيجري عليهم ما يجري على إخوانهم في دار الاغتراب، ولا سيما أني سمعت أن الدولة في المغرب لا تكاد تأخذ فائدة إلا شيئا قليلا قد يعتبر نوعا من الخدمة ونفقات الإدارة".
لم يكد مداد الفتوى يجف حتى طلعت علينا الهيئة العلمية للإفتاء بالمغرب ببيان حاد النبرة، لا ينعث الجهة المستهدفة ولا يسميها، لكنه يقصدها، يلمح إليها بالمجاز المفضوح، ويشارف على ذكرها جهارة وبالإسم.
يقول بيان الهيئة، بعد أن ذبجه بالآية الكريمة "يا أيها الذي آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم"، ودعمه بالقول ب"حرص المغاربة على تقاليدهم العلمية، وفي ذلك سر انضوائهم تحت راية الإسلام والتفافهم حول إمارة المؤمنين وإجماعهم على وحدة المذهب والعقيدة والسلوك" (وما سوى ذلك من تمهيدات)، يقول: "...والهيئة العلمية للإفتاء بالمجلس العلمي الأعلى، وهي تستحضر هذه الحقائق تستشعر المخاطر التي ينطوي عليها هذا التدفق الإعلامي الذي فتح الأبواب أمام الفتوى، فأصبح يتولاها كل من هب ودب، سيما وقد صار أمرها بيد متنطعين مغرورين أساء بعضهم استخدام العلم في غير ما ينفع الناس، واتخذه سلما لاعتلاء كرسي الرئاسة والزعامة العلمية، فأعطى لنفسه الحق في إصدار فتاواه لأهل المغرب، ونصب نفسه إماما عليهم، متجاهلا ما للمغرب من مؤسسات علمية وشيوخ أعلام، متخطيا بذلك كل الأعراف والتقاليد التي احتكم إليها العلماء قديما وحديثا".
ويتابع البيان:.. "وأما فتوى من أجاز للمغاربة الاقتراض من البنوك من أجل السكن، فإن هذا المفتي قد تجاوز في فتواه حدود اللياقة، وارتكب أخطاء فادحة علمية وأخلاقية، في مقدمتها التطاول على حق علماء المغرب في إفتاء أهل بلدهم، غير ملتزم بأدب الفتوى الذي درج عليه علماء السلف، لأنهم اشترطوا على المفتي ألا يفتي إلا إذا كان من أهل البلد الذي يعرف أوضاعه وأحواله ويطلع على دقائق أموره. والحال أن هذا المفتي بعيد عن المغرب، جاهل لأحواله وأعرافه وتقاليده، وعلماؤه أدرى به، ومؤسساته العلمية أجدر بالإفتاء في نوازل أهله وقضاياهم. كما أنه اساء إلى المغرب وأهله حين قاس بلدهم ببلاد المهجر".
يبدو لنا أن ثمة أربع ملاحظات أساسية لا بد للمرء أن يخطها على هامش هذه "الواقعة" التي كرست من جديد الفرقة لدرجة القطيعة، بين "علماء المسلمين بالمغرب والمشرق":
* الأولى أن حدة بيان الهيئة لم نر لها من مسوغ موضوعي يذكر، يستدعي التهجم (لدرجة الشتيمة) على عالم دين اجتهد (واجتهد فقط) فاعتبر البعض اجتهاده في موضعه، واعتبره البعض الآخر مجانبا لعين الصواب، وبكل الأحوال فهو اجتهاد غير ملزم لا لهذا الطرف ولا لذاك...كما هي غير ملزمة فتوى المجلس الأوروبي للإفتاء للمسلمين ببلدان المهجر. فمن أراد أخذ بها، ومن لم يرد تركها.
وعلى هذا الأساس، فلا تبدو لنا حقا نبرة الهيئة إلا تعبيرا عن موقف (رسمي بامتياز) مكرس لاحتكار مجال الفتوى وحمايته، تماما كالقلعة المحصنة التي لا يجوز إطلاقا الاقتراب من أسوارها.
قد يتوفر للمرء بعض من الاستعداد للقبول بذلك، لكنه غير مستعد بالمقابل للقبول باحتكارها لكل المجال الديني، وإجبار الناس للاحتكام إليها وهي لم تعبر منذ إنشائها عن هموم واقع الحال.
إذا لم يكن الأمر كذلك، فما السر في اللجوء إلى "علماء من المشرق" للإفتاء في قضايا كان للهيئة، منذ تنصيبها، أن تعتكف عليها وتبث فيها لتخليص المغاربة من أكبر معضلة حياتية يواجهونها... معضلة السكن؟ ما السر في تقاعسها "لحسم الإشكال" حتى يتسنى للإنسان الانصراف إلى تدبير حاله ومآله؟
من هنا لربما أتت مسألة تجنب الهيئة مناقشة جوهر الإشكال (إشكال الاقتراض البنكي بغرض السكن) علميا وشرعيا، واكتفت بالدود عن قلعة لن تفتأ مع مرور الزمن تتهاوى أمام تزايد الفتاوى والمفتين "الخواص"، وعجزها عن تصريف طلب الفتوى القائم في ظل المستجدات.
* الملاحظة وتكمن في أن الرجل حاول أن يجد منفذا شرعيا لمساعدة الناس على حل مشكل يأكل (في حالة الكراء) أكثر من ثلث مداخيلهم. كيف القول من لدن الهيئة، بأن الرجل يتحدث "في غير ما ينفع الناس"؟ ما النافع يا ترى إذا لم يكن بمستطاع المرء ضمان سقف لأبنائه يحتمون به ضد أباطرة البناء ولوبيات العمارات ومستنزفي عرق الفقراء؟
يبدو بهذه النقطة، أن أعضاء الهيئة هم الذين لا يعلمون أحوال البلاد، أو ينظرون إلى هذه الأخيرة من شرفات إقاماتهم الفاخرة ومكاتبهم الأثيرة.
* أما الملاحظة الثالثة فتتمثل في ادعاء الهيئة بأن الرجل يبحث عن رئاسة، أو عن مال أو جاه... أو يتطلع إلى زعامة.
بهذه النقطة أيضا، أزعم أن الرجل لم يعد بحاجة لكل ذلك لأن له منه الشيء الكثير...وهو بكل الأحوال، شيخ بأرذل العمر لم تعد رهاناته الذاتية والشخصية ذات قيمة اعتبارية أو مادية كبرى. وحتى وإن كان للرهانات إياها قيمة تذكر لديه، فهي مشروعة لرجل مكد ومجتهد وصبور. وإلا فما زنة عطاء أعضاء الهيئة بالقياس إلى زنة ما كتبه الرجل أو حققه أو عمد إلى التأسيس له على امتداد أكثر نصف قرن؟
وبالقياس حتى مع هيئات الإفتاء الرسمية، ما زنة هذه الهيئة مع ما تقدمه هيئات مصر ولبنان وما سواهما؟
* الملاحظة الرابعة: إذا كانت الهيئة تتعامل بهذه الحدة التي تشارف التعنيف، مع رجل معتدل، ينشد الوسطية في كتاباته وخطاباته، فما يا ترى سيكون ردها لو نبعت هذه الفتوى من "علماء متشددين، مكفرين"، يحتكمون إلى ظاهر النص ويكفرون من يسلك غير ذلك؟
الأغرب من ذلك، أن بعض أعضاء الهيئة (والمجلس الأعلى أيضا) لا يكفون عن الحديث عن تقريب المذاهب (بين الشيعة والسنة تحديدا) وينادون بحوار الديانات وبالتسامح... بأي عقلية سيقودون الحوار مع مرجعيات متباينة إذا كان من غير الوارد لديهم التسامح مع أبناء مذهبهم ومرجعيتهم؟
إنه لأمر مثير للتقزز... وللشفقة أيضا.