بدايةً ، اسمحوا لي أن أقول لإمام الأمة الأكبر العلامة القرضاوي ، مجدد القرن / شيخ الإسلام / الموسوعي / الحبر / المحقق / المجتهد / الداعية الفرد / الإعلامي الضخم / الشاعر الكبير / المربي الموفق / والولي الصالح – ولا أزكي على الله أحدًا – والرجل ذي المواقف التي تكتب بماء الذهب / والسيرة التي لا يغبطه عليه أحد في الدنيا أكثر مما أغبطه أنا متع الله بك .
اسمحوا لي يا سادتي أن أقول له بمناسبة بلوغه اليوم سن الثمانين من عمره المبارك السخي: مد الله في عمركم ، وأدام النفع بكم ، وأرانا منكم مزيدًا مما تقر به العيون ، وأبقى من آثاركم ما يضعكم على هامة الزمن ، كما أبقى آثار البخاري وأبي حنيفة وابن تيمية والغزالي وأشباههم ؛ اللهم آمين يا مجيب السائلين ..
واسمحوا لي أن أدعو لإمام الأمة الأكبر أن يطيل الله عمره مليون سنة ، وقولوا آمين دون أن تتعجبوا ، ودون أن تظنوا أنني أفتئت في الدعاء أو أتعدى ، فإنني أقصد ما أقول .. ولكم أن تسألوا : وهل يعيش الإنسان على الأقصى أكثر من مائة سنة ؟ وأقول نعم ؛ وربما أكثر : بآثاره ، وتلاميذه ، وبركات علمه ، فإن الله يُبقي أثر العالم ، ويديم صلاة الملائكة عليه – حتى النملة في جحرها ، والحوت في البحر – ما بقي علمه بين الناس ، وهذا أمر بيد الله تعالى مستمر ، حتى لو اختار المولى صاحبه إلى جواره ، فما دام له كتاب أو شريط أو تلاميذ فإن الثواب ممتد ، والأجر مكتوب ، وهذا محسوب في عمر ابن آدم الموفق ؛ أولم يقل الله تعالى : { إنا نحن نحيي الموتى ، ونكتب ما قدموا ، وآثارهم ، وكل شيء ؟ } أو لم يقل صلى الله عليه وسلم [ ... انقطع عمله إلا .... أو علم ينتفع به ؟ ] } أو لم يقل الشاعر :
ففز بعلم ، تعش حيًّا به أبدًا الناس موتى .. وأهلُ العلم أحياءُ ؟!
اسمحوا لي أن أعرب عن حيرتي في تلقيب فضيلته بالشيخ أو العالم أو الإمام أو الحجة أو .... لا أدري ، ففضل الله تعالى عليه أكبر من يحيط به لقب واحد ، أو صفة جامعة مانعة .. واللا اقولّكم : اسمحوا لي أن أسميه فقط بالشيخ ، فهو أسنى الألقاب ، بدون الأستاذ الدكتور ، أو البروفسور ، أو صاحب السماحة ، أو ما شابه . وقولوا لي : ليه .. أقول لكم : ليه :
أذكر يا سادتي أنني حين كنت طالبًا في المدينة المنورة على ساكنها الصلاة والسلام سمعت العلامة الشنقيطي يقول : إن لقب شيخ أكبر من كل الألقاب ، فلا يليق أن نستبدل به لقب دكتور ، أو بروفيسور ، أو رئيس قسم ، أو حتى رئيس جامعة .. ولما حكيت ذلك لأخي الرجل القرآني والصحفي الجميل محمود عوض قال لي :
تخيل لو قلنا : الدكتور أبو حنيفة النعمان ، أو الأستاذ الدكتور البخاري ، أو البروفيسور مسلم بن الحجاج أو نحو هذا ؟ ألن يكون في هذا اللقب تقليل كبير لقيمتهم العلمية ، قلت : نعم والله ، الحق معك ؛ خصوصًا أن لقب دكتور ، وأستاذ دكتور ، صار مجرد لقب وظيفي ، يناله - بالأقدمية ، والكوسة ، والعلاقات العامة - كثير من العلماء الفالصو ( آسف على تطاولي ) وأشباه العلماء ، وبعد أن صارت الشهادات تباع في كثير من الأحيان لمن يدفع ، بل صارت هناك بلدان يمكنها أن تعطيك دكتوراه بعد الإعدادية أو دبلوم الصنايع ؛ ما دمت تملك وتدفع .. وأذكر أنني اتصلت قبل نحو خمسة عشر عامًا بأحد أصدقائي الصحفيين المميزين ( وكان رحمة الله عليه لغويًا مدققًا ، وأكاديميًّا مجتهدًا ، حاصلاً على الدكتوراه في اللغة العربية عن جدارة ) فأخبرني وهو بين الاندهاش والقرف أنه كان شاهدًا – ساعة اتصالي به - على مساومة على شهادة دكتوراه ، دفع من كُتبت له فقط نصف مليون بتاع ، للأستاذ الدكتور المحترم المشرف على الرسالة ، ونالها فعلاً ، ورأيتها مجلدة بعد ذلك ، وقد نسب الرجل ( البجح ) كل شيء فيها لنفسه ؛ حتى العناوين زعم أنه خطها بيده ، وكانت بقلم خطاط معروف !
بل إن هناك أناسًا ( زي كتبة المحاكم ، والطباعين عند الجوازات ) يتعيشون من كتابة رسائل الماجستير والدكتوراه لمن يدفع ! حتى باتت سمعة الجامعات العربية تحت التراب بشوية ، وباتت سمعة كثير من الأكاديميين بالونات ، أو طبولاً تدوي ، لكنها فارغة ، بكل ما تعنيه الكلمة من معنىً !
لذلك فإنني أزعم أن لقب الدكتور وأشباهه أقل من لقب الشيخ الذي حمله الأئمة ابن تيمية والعز ابن عبد السلام ومصطفى صبري ومحمد عبده وأبو زهرة والخضر حسين والشنقيطي وابن باز رحمهم الله ورضي عنهم أجمعين . كما أن لقب الشيخ هو الذي حمله أستاذنا القرضاوي منذ طفولته ، وهو الذي يُبقي على الخصوصية الإسلامية في التلقيب ، فقد حرمتنا السياسات التعليمية المريضة من ألقاب شريفة كالحافظ ، والحجة ، والحاكم ، والحبر ، والإمام ، وإمام الحرمين ، وأمير المؤمنين في الحديث ، وما شابه من ألقاب شريفة نبيلة صادقة .. تمامًا كما استبدلنا بالعالِمية : الليسانس والدبلوم والماجستير والبطيخ ، وبالحلقة : السِّكْشن والكورس والتيرم والسيمستر !
أعود لشيخنا القرضاوي – متع الله به - لأزعم أنني لست فيه صاحب هوىً ، لأسباب كثيرة ، فأنا لم أتتلمذ بشكل مباشر على يديه ، بل أمضيت سنوات التكوين وما بعد التكوين – ثلاثين سنة كاملة ؛ سنة تنطح سنة – دون أن أتعرف إليه أو أقرأه كما ينبغي ، ثم كان أن اطلعت عليه ، وقرأته ، وأنا متبلور فكريًّا ، وصاحب شخصية لها رؤيتها – خطأ كانت أم صوابًا – فخرج حكمي حكم شخصٍ متأمل ، غير مندفع ، ولا منبهر ، كما أنني أتصل بفضيلته في مناسبات وأحوال ، ولست مقيمًا على أعتابه ، ويقوم مشروعي الفكري على المزج بين منهجية السلف ، وشمولية رؤية الإخوان ، واتساع القلب لكل المسلمين ، واتساع العقل للمدارس الفكرية ومعطيات العصر ، والتعامل مع كل الرموز ، دون أن أعلق لافتة بعينها ، لكن الشيخ – لحسن حظي – بقي في نفسي الأعلى ، والأعلم ، والأفهم ، والأكثر شمولية ، والأوسع واديًا ، والأخصب مرعًى ، جزاه الله عني وعن الأمة خير الجزاء ..
وإذا كان في شيخ الإسلام القرضاوي من عيوب ككل البشر ، فإن أكبر عيوبه - كما أشرت في مقالة سابقة - أن عمره لا يسع همته ، وأنه يعامل بدنه ونفسه بكثيرٍ من القسوة والعنفوان .
أكبر عيوبه أن مشاريعه أوسع ، وتصوراته أبعد مدىً من السنين المتبقية ، التي يسابقها بالجلَد ومداومة العمل .
أكبر عيوبه أن كثيرين ممن لم يقرؤوه ، ولم يقتربوا منه لم يفهموه ، ولم يستوعبوا سعة واديه ، وكثرة خير الله عليه ، وقراءته للمستقبل البعيد ؛ حيث لا ينظر كثير من المتصدرين إلا تحت أقدامهم .
أكبر عيوبه أن عينيه أتعبتاه ، وأن ركبتيه أزعجتاه ، وأن الصحة بدأت ترفع البطاقات الصفراء في وجهه ، وتقول له : حاسب ، خد بالك يا طويل العمر .
أكبر عيوبه أنه لا يريد أن يفرد الشباب بنصيبٍ مباشر من همه وهمته وفراغه وعطائه .
أكبر ذنوبه – تبارك الله - أنه عمل ونسي نفسه وهو يعمل ، حتى احتج جسمه ، واشتكت عيناه .
فيا سيدي القرضاوي .. متع الله بك ، وأطال في عمرك ، وأحسن عملك ، ونفعنا بمحبتك ، وثمّر جهادك وجهدك ، وآتاك من الخيرات ما لا تحتسب ، وأحياك – كما تمنيتُ في أول هذه المقالة – مليون عام ..
وأرجوك يا سيدنا الشيخ : لا تفرط في صحتك ؛ فالأمة تحتاجك ، والحق يحتاجك ، والعلم يحتاجك ، والخبر يحتاجك ، والمُثل كذلك تحتاجك ..
رعاك الله أيها الغالي ؛ فمحبوك يدعون من قلوبهم أن يكرمكم المولى ويكرم الأمة بكم ، وأن يمتع بكم ، ويحفظكم ، ودعائي لنفسي أن يديمكم لتلميذكم وخريجكم أبي سهيل .. اللهم آمين ..
واسمح لي يا سيدي الشيخ أن أجدد مع هذه الكلمات القديمة التي الجديدة التي كتبتها قبل اثنتي عشرة سنة ، ولم يسعفني الوقت – لكسلي – أن أكتب جديدًا :
إن شئت فسلسلْ نفحاتِ العطرِ لئلا تعبقَ فوق شفاه الناس ثناءَا / إن شئت فصادر قطرات النورِ لئلا تتألق فوق عيون الخلق رضاءَا / إن شئت فبدِّل حبَّك هذا المفترشَ شغافَ القلبِ مهادًا وغطاءَا / هل تقدرْ ؟! / كيف وجُندُ الله تجوبُ الدنيا كي تزرعَ بعيون الناس الحبَّ وبالأفئدة الرضوانْ / كي تفْجُرَ بين جوانحنا كلَّ ينابيع العرفان / كيف وجبريل يخبِّر أن الله يحب ( فلان ) / أصغِ بسمعكْ ! / هذا كسبُ يمينك قد صار حديثَ الدنيا / بشراك أيا شيخي بشراك / نحن شهودُ الله تعالى بالأرضِ
وهذا من عاجل بشرى أهل الإيمان ..
منك تعلمنا أن ليس جزاءُ الإحسانِ سوى الإحسانْ / منك تعلمنـا أن الحق تعـالى ما كان يضيّع أعمال بني الإنسان / منك تعلمنا أن جوازي الخيرِ قطوفٌ دانيةٌ
عند الناسِ وعنـد الديان / منك تعلمنا أن الطاعة تُـنبت حـبًّا / تثمر ودًّا / عطرَ لسان / فتطلعْ .. فـتطلع في هذي السحناتِ / تجدْ في كلِّ عيونِ الصحبِ كلامًا لا كالكلمات / شيئًا يقرؤه الكاتب والأميّ / يدركه أهلُ العقلِ وأهلُ العي / مكتوبٌ .. نحن نحبكَ / نحن نحبكَ يا قرضاويّ / نحن نحبك يا هذا الشيخُ ..ونحن شهودُ اللهِ تعالى الآن / نحن نحبك يا قرضاويُّ / وهذا من عاجل بشرى أهل الإيمان ..
كم شيخٍ دار مع الدينارِ وشدّ الهمة بالدرهمْ / كم شيخٍ أعشته الأنوارُ فألقى الرحلَ على الأعتابِ فما أخّر أو قدم / وابـتذل العلمَ الجهلاءُ / وأبدى الحلمَ السفهاءُ / ومدّ الهامَ الصغراءُ وكنتَ الأعلمَ والأحلمْ ..
وأراك حكيمًا عَصْريًّا / وأراك فقيهًا وسطيًّا / وأراك بليغًا عربيًّا / فهنيـئًا هذا المـنُّ من الرحمن / نحن شهود الله تعالى في الأرض / وهذا من عاجل بشرى أهل الإيمان !
إن قيل الشعرُ : فأنت بحقِّ اللهِ أبو عذرتِهِ / أو قيل الفقهُ : فأنت بمـنّ الله (النعمانُ ) وأنت مناط ( هدايته ) / أو قيل السنةُ : قلت المدْنَـفُ بالهادي وبسنته / أو قيل العصرُ : فأنت لبابُ لبابِ خلاصته / أو قيل المنبرُ : قلت كفاني قبسٌ من وقدتِهِ / أو قيل الرفق : لأقسمت لأنت الأرفقُ في دعوته / يا شيخًا علمنا كيف نُعفّ القولَ .. نكفّ النفسَ .. نُكافي بالشكرانْ / نحن شهود الله تعالى في الأرضِ / وهذا عاجل بشرى أهل الإيمان
هزَّ إليك جذوع العلمِ تُساقِطْ فوقَ الدنيا رطبَ الخير جَنِيَّا / ضُـمَّ إليك كتاب الله وأعطِ الدنيا نهجًا وسطيًّا / امزج للكونِ طيوبَ الفقهِ سُلافًا : بنائيًّا .. غزّاليًّا .. وهابيًّا .. حرانيّا / أخبر من عجزوا أن الخير بأمة أحمدَ ما فتئ جَمُوحًا وفَتِيّا / يا هذا الشيخ تذوق حبَّ عباد اللهِ مريئًا وهنيّا / نحن شهود الله تعالى في الأرضِ / وهذا عاجلُ بشرى أهلِ الإيمانْ / هذا عاجل بشرى أهل الإيمانْ ..
عبد السلام البسيوني