عُرفت دعوة الشيخ القرضاوي بالشمول. والشمول عند القرضاوي يمكن تقسيمه إلى قسمين:

القسم الأول : الشمول الفكري.

القسم الثاني : الشمول في ميدان الدعوة .

والذي أحب التنويه عليه هنا هو: شمول دعوته للعلماء والمصلحين؛ فلم تكن دعوة الشيخ القرضاوي مهملة هذا الجانب المهم؛ الذي يعي الشيخ جيداً أن صلاح الأمة بصلاح دعاتها وعلمائها , وأن الدعاة و العلماء والمصلحين هم قلب الأمة ونبضها الحي , وصوتها العالي وأملها المرجو , ودفتها الموجهة , فكيف إذا فسد القلب ؟ ووقف النبض ؟ وسكت الصوت ؟ وضاع الأمل ؟ وتاه الربان؟

هنا يكون الأمر كما قال القائل :

يا أيها العلماء يا ملح البلد ما يصلح الملح إذا الملح فسد

وكما قال ابن المبارك رحمه الله :

وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها

لقد رتع القوم في جيفــة يبين لذي اللب إنتانها

لهذا فقد كان الشيخ حريصاً على أن يوجه دعوته إلى الدعاة والمصلحين , وتمثلت دعوة الشيخ للدعاة والعلماء المصلحين في محاور أهمها :

1. تقوى الله سبحانه والتحلي بأخلاق العلماء .

2. الاهتمام بواقع المسلمين .

3. سد الفجوة التي بينهم وبين الشباب .

4. تجميع كلمتهم .

1 - تقوى الله تعالى والتحلي بأخلاق العلماء :

وهذا ضروري لكل عالم , ملازم لكل داعية , مصاحب لكل مصلح , فإن العالم الذي خلا قلبه من تقوى الله تعالى لن تقوم له قائمة , ولن تقوم به قائمة , وقد قال علي بن أبي طالب t : " قسم ظهري رجلان , جاهل مستنسك , وعالم متهتك؛ ذاك يغرهم بتنسكه , وهذا يضلهم بتهتكه .

وهذا هو النوع الذي حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: " إن أخوف ما أخاف عليكم بعدي كل منافق عليم اللسان ".

وأشنع ما في العالم أو الداعي المصلح الخالي من تقوى الله تعالى أنه يتفقه لغير الدين, ويتعلم لغير العمل , ويطلب الدنيا بعمل الآخرة , وهذا الصنف جاء وصفه في الحديث الذي رواه أبو الدرداء مرفوعاً: "أنزل الله في بعض الكتب أو أوحى الله إلى بعض الأنبياء : قل للذين يتفقهون لغير الله, ويتعلمون لغير العمل، ويطلبون الدنيا بعمل الآخرة , يلبسون للناس مسوك الكباش , وقلوبهم كقلوب الذئاب , ألسنتهم أحلى من العسل , وقلوبهم أمر من الصبر , إياي يخادعون وبي يستهزؤن ؛ بي حلفت لأتيحن لهم فتنة تذر الحليم فيهم حيران".

هذه التقوى وتلك الأخلاق التي جعلت الإمام الشافعي يقول :

أمطري لؤلؤاً جبال سرنديب وفيضي آبار تبريز تبــراً

أنا إن عشت لست أعدم قوتاً وإذا مت لست أعدم قبـراً

همتي همة الملوك و نفسـي نفس حر ترى المذلة كفراً

وإذا ما قنعت بالقوت عمري فلماذا أهاب زيداً وعمـراً

ولقد كان الشيخ حريصاً على إسداء النصيحة للعلماء حتى لا يبيعوا دينهم بدنياهم وآجلهم بعاجلهم , لأنه يرى بأن العلماء : كلمتهم هي العليا؛ لأنها قبس من كلمة الله تعالى, هم الموجهون للحياة والناس , إلا إذا انقلبت الأوضاع ورضي العلماء أن يسيروا في ركاب الأمراء .

كما يؤكد الشيخ على ضرورة تقوى الله والتحلي بأخلاق العلم لأن العلماء : يحفظون في صدورهم كلمات الله ويحملون في أيديهم مصابيح الهداية , ويملكون في خزائن قلوبهم أغلى الكنوز , وأثمن الثروات , وأشرف المواريث , وهو تراث النبوة , التي بغيرها يعيش الخلق في تيه المادية , وظلام الجاهلية وضلالات الأهواء والأوهام , فمن أقوم منهم قيلاً وأهدى سبيلاً ؟

ويؤكد الشيخ هذا المعنى فيقول : والعلم هنا ليس تحصيل معلومات سطحية من هنا وهناك , ولكنه نور يقذفه الله في قلب عبده , فيمنحه اليقين والرسوخ , ويبعد به عن القلق والاضطراب , وهذا هو العلم النافع .

العلم النافع حقاً هو الذي يرى الناس أثره على صاحبه : نوراً في الوجه , وخشية في القلب , واستقامة في السلوك , وصدقاً مع الله , ومع الناس , ومع النفس .

أما مجرد التشدق بالكلام المزوق , والثرثرة بالقول المعسول من طرف اللسان , دون أن يقصد القول العمل , فهذا هو شأن المنافقين الذين يقولون مالا يفعلون , ويأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم , وهو يتلون الكتاب , ويقرؤون الأحاديث .

2 - الاهتمام بواقع المسلمين :

من العلماء من يكتفي بالانكفاء على الكتب يعلم دقيقها وجليلها ؛ وهذا أمر محمود، وجهد مشكور؛ لكنه لا يكفي وحده , بل لا بد للعالم والداعية والمصلح أن ينزل إلى واقع الناس, لا ينبغي عليه أن يعيش في برج عاجي , أو في معزل عن واقع الأمة , وحاضر الخلق, وهذا ما أطلق عليه قديماً الشهيد سيد قطب رحمه الله " فقه الأوراق ", وهو مقابل لفقه الحركة أو كما يسميه الشيخ القرضاوي فقه المعركة أو فقه الواقع أو فقه الحياة أو فقه الدين أو الفقه القرآني .

ولهذا فإن الشيخ يرى أن مجرد الاهتمام بالعلم مجرداً عن الواقع ليس فقهاً وليس اجتهاداً لأن الفقه الحق والاجتهاد الحق هو: الذي ينطلق من معايشة الناس ومعرفة ما هم فيه, والفقيه الحق هو الذي يزاوج بين الواجب والواقع " كما يقول الإمام ابن القيم , فلا يعيش في دائرة ما ينبغي أن يكون , غافلاً عما هو كائن وواقع بالفعل .

ويؤكد الشيخ هذا المعنى فيقول : فالفقه هنا أعمق وأوسع من مجرد معرفة الأحكام الشرعية الجزئية من أدلتها التفصيلية , إنما هو إدراك بصير يربط أحكام الله في شرعه بعضها ببعض , ويربط قوانين الله في أرضه بعضها ببعض , ولا يكتفي بالنظر إلى السطوح دون الأعماق .

ويزداد هذا الإدراك عمقاً بالخوض في معترك الحياة , والصراع مع الفراعنة والطغاة , والدخول في أتون الابتلاء والمحن , الذي ينفي الخبث , ويصقل المعادن , ويميز الخبيث من الطيب .

لقد مر شيخ الإسلام ابن تيمية مع بعض أصحابه على جنود التتار ورآهم سكارى وقد أنكر البعض عليهم , لكن ابن تيمية قال : دعهم في سكرهم فإنما حرم الله الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء تصدهم الخمر عن قتل الأنفس ونهب الأموال .

قال القرضاوي معقباً : وهذا هو الفرق بين " الفقيه الحرفي " أو ما سميته " فقيه الأوراق " وبين فقيه الحياة أو فقيه الميدان والمعركة , الأول أنكر المنكر الذي رآه دون اعتبار للمقصد والواقع , والثاني نظر إلى الواقع في ضوء المقاصد فقال ما قال .

لقد رأينا فقهاء الأوراق , يقاتلون على أشياء يمكن التسامح فيها , أو الاختلاف عليها, أو تأجيلها إلى حين , ويغفلون قضايا حيوية مصيرية , تتعلق بالوجود الإسلامي كله . وهؤلاء قد لا ينقصهم الإخلاص , ولكن ينقصهم الفقه , ولئن جاز تسميتهم علماء فلا يجوز تسميتهم فقهاء لو كانوا يعلمون .

3 - سد الفجوة التي بينهم وبين الشباب :

لقد لاحظ الشيخ القرضاي كما لاحظ غيره من الناصحين للأمة , أن الشباب الذي وقع في حفرة التكفير والتفسيق والتبديع , والتي جرته إلى التطرف طوراً أو الإرهاب طوراً آخر , إنما كان سببه الرئيس هو إعراضه عن العلماء , وعزوفه عن مجالسهم , ونتج عن ذلك أن غاص هؤلاء الشباب في بطون الكتب مباشرة , دون أن يتعلموا فن السباحة في عالم يحتاج إلى سباح ماهر , وغطاس بارع , فخرج هؤلاء الشباب باللؤلؤ والمرجان من أمهات الكتب مشوباً ومخلوطاً بغيره أو كما يقول الشيخ القرضاوي : دون أن يضعوه على مشرحة التحليل وطرحها على بساط البحث , ولكنه قرأ شيئاً وفهمه واستنبط منه , وربما ساء القراءة , أو أساء الفهم , أو أساء الاستنباط وهو لا يدري .

لقد نشأت فجوة واسعة بين العلماء والشباب , وكان السبب الرئيس في عزوف الشباب عن العلماء وحدوث هذه الفجوة أن عدداً من العلماء في كل قطر من أقطارنا العربية والإسلامية ساروا في ركاب السلاطين فسبحوا بحمدهم , وهتفوا بأسمائهم , وصفقوا لأهوائهم , وضحكوا في وجوههم , ونفخوا البخور بين أيديهم , فباركوا مظالمهم, وشاركوهم طغيانهم ومفاسدهم .

ولقد كان الشيخ محقاً حين وصف هؤلاء بقوله : علماء الدنيا , الذين يزينون للناس سوء أعمالهم فيرونه حسناً .

رضوا أن يجعلوا العلم خادماً للسياسة , وأن يبيعوا الدين بالطين , وأن يكون العلماء أبواقاً للسلاطين , وإخواناً للشياطين .

وهؤلاء لا يستحون أن يغيروا جلودهم في كل حين كالثعابين , وأن يلبسوا لكل حالة لبوسها غير متورعين , ولا خجلين , فهم مستعدون لأن يحللوا ما حرموه من قبل , وأن يحرموا ما حللوه , لا تبعاً للدليل والبرهان , ولكن تبعاً لتغيير السلطان .. فلكل مقام مقال , ولكل زمان دولة ورجال, ومقالهم جاهز لكل مقام , وهم دائماً رجال كل دولة , وكل زمان!

هذا الصنف الخبيث يحاط عادة بهالة من الدعاية تستر جهله , وتغطي انحرافه , وتنفخ فيه ليكون شيئاً مذكوراً , وتحدث حوله ضجيجاً يلفت إليه الأسماع , ويلوي إليه الأعناق , وإن كان هذا لا يجعل من جهله علماً , ولا من فجوره تقوى , ولكن :

كمثل الطبل يسمع من بعيد وباطنه من الخيرات خال

وحين قال الشيخ القرضاوي لأحد هؤلاء الشباب : يجب أن تأخذوا العلم من أهله , وتسألوا أهل الذكر من العلماء فيما لا تعلمون .

قال : وأين نجد هؤلاء العلماء الذين نطمئن إلى دينهم وعلمهم ؟ إننا لا نجد إلا هؤلاء الذين يدورون في فلك الحكام , إن أرادوا الحل حللوا , وإن أرادوا الحرمة حرموا, إذا كان الحاكم اشتراكياً باركوا الاشتراكية ووصلوا نسبها إلى الإسلام , وإذا كان رأسمالياً أيدوا الرأسمالية باسم الإسلام !

العلماء الذين إذا أراد حاكمهم الحرب فالسلم حرام ومنكر , وإذا تغيرت سياسته فأراد السلم , صدرت الفتاوى بالتبرير والتأييد " يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً " .

العلماء الذين سووا بين الكنيسة والمسجد , وبين الهند الوثنية وباكستان الإسلامية.

ولقد عذر الشيخ الشباب في عزوفهم هذا عن هؤلاء العلماء , لأن هؤلاء العلماء في نظر الشيخ منهم : من يحتج بالأحاديث الموضوعة , ويرد الأحاديث الصحيحة المتفق عليها, رأوا منهم من يستشهد بالإسرائيليات , ويستدل بالمنامات , وليس في رأسه إلا القصص والحكايات ! رأوا منهم من يؤيد البدع الرائجة , ويرفض السنن الثابتة , ويتملق أهواء العوام، وشهوات الخواص، ولا يلجأ في العلم إلى ركن وثيق , فلهذا نفضوا أيديهم منهم , ولم يعد لهم ثقة بما يصدر عنهم .

ولهذا وجه الشيخ دعوته إلى هؤلاء العلماء قائلاً : فالعلماء عليهم أن يصححوا موقفهم أيضاً , فلقد أعرض الشباب عن كثير منهم لما رأى فيهم عدم الاهتمام بالإسلام , ورأى فيهم التقرب من سلاطين الجور , والوقوف مع السلطة في الحق والباطل , ورآهم سراعاً إلى موائد الظلمة , رآهم يعرضون عن الشباب ولا يقولون كلمة حق , رأى هؤلاء انشغلوا عن الدين بالدنيا , بل عن العلم نفسه , حتى إن كثيراً منهم لم يكون نفسه التكوين العلمي الصحيح بحيث يستطيع أن يفهم الدين والحياة , ويعرف قضايا العصر وما تستحقه, فعلى هؤلاء أن يصححوا موقفهم , وعلى العلماء الذين رزقهم الله الفقه والإخلاص أن يتقربوا من الشباب وألا يبتعدوا بأنفسهم , فهناك الكثير من العلماء الطيبين, ولكنهم يؤثرون الهرب من المجتمع وما فيه , ويرون العزلة أسلم طريق .. في البعد عن الحكام والبعد عن الشعب نفسه, لكن الحل ليس في الفرار , وإنما أن يبحث أولئك الشباب للأخذ بيده وتسديد طريقه .

4 - تجميع كلمتهم :

لقد حرص الشيخ دائماً على التجميع, وفي دعوة الشيخ للعلماء حرص دائماً على توحيد كلمتهم، وتقريب وجهات النظر؛ حتى لا تذهب جهودهم سدى , أو تذهب أعمالهم أدراج الرياح .

كما أن الشيخ كان حريصاً على أن ينتقل في هذا الجانب إلى حيز العمل والتطبيق, وكان حلم الشيخ أن يكون هناك تجمع عالمي لعلماء الأمة، يضم نخبة من صفوة العلماء العاملين , والفقهاء المخلصين , والدعاة النابهين , وقام الشيخ بمراسلة عدد منهم وقد كلل الله جهود الشيخ بالنجاح بعد أن وافقه عدد كبير من هؤلاء العلماء وقاموا بمراسلته , وكانت العقبة هي اختيار الدولة التي تسمح بقيام هذه الهيئة ونظراً لأن الهيئة كان قيامها بعيداً عن كل حكومة أو هيئة سياسية , فلم يكن لدولة عربية أو إسلامية أي ترحيب بإنشاء هذه الهيئة بها , ولكن تم اختيار إحدى الدول الأوربية وهي " انجلترا " لهذا الغرض واختير الشيخ رئيساً لهذه الهيئة .

وقد ذكر الشيخ في كلمته التي ألقاها في افتتاح هذا الاتحاد أن هذا الاتحاد يسعى إلى: تحقيق هدف كلي، تنبثق منه أهداف جزئية شتي. أما الهدف الكلي الأكبر، فهو الحفاظ على الهوية الإسلامية للأمة، لتبقي كما أراد الله أمة وسطاً، شهيدة على الناس، آمرة بالمعروف، ناهية عن المنكر، مؤمنة بالله. والوقوف في وجه التيارات الهدامة التي تريد أن تقتلع الأمة من جذورها، داخلية كانت أم خارجية، وموالاة الأمة بالتفقيه والتثقيف والتوعية حتى تعرف حقيقة دورها ورسالتها، وتندفع إلى أداء مهمتها بإيمان وإخلاص، موحدة الغاية، موحدة المرجعية، موحدة الدار، مستقيمة للمنهج والطريق.

أكرم كساب

السكرتير العلمي والخاص لفضيلة الشيخ القرضاوي

[email protected]