د. محمد سليم العوا
كتبت من قبل في هذا المكان متعجباً من الذين يشغلون قراءهم بهجوم متواصل على الشيخ يوسف القرضاوي، وفي الوقت الذي يبدو أن الخلاف في الرأي السياسي، وفي رؤية الأحداث، أسباباً ونتائج وصناعة للاثنين معاً، يمثل سبباً ذاتياً في أغلب الأحيان وموضوعياً في أقلها لأنواع من الاختلاف في الرأي والرؤية تقود أصحابها إلى توجيه النقد إلى بعض ما يراه أو قبوله أو يرجحه العلامة الدكتور يوسف القرضاوي، في هذا الوقت نفسه تبدو أكثر مواقف الهجوم على الشيخ غير مبررة بسبب ظاهر أو مفهوم.
في لندن، في شهر يوليو الماضي، ونحن نستعد لانعقاد الاجتماع الأول التأسيسي للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، الذي تحمل عبء الدعوة إليه والعمل على نجاحه العلامة الدكتور يوسف القرضاوي، فوجئنا بحملة صحفية وتلفزيونية وسياسية- في مجلس العموم- تهاجم الشيخ، وتدعو إلى إخراجه من بريطانيا وعدم السماح له بالعودة إليها، وتتهمه بأنه عدو المرأة وحليف الإرهاب وخصم للسامية... إلخ. السلسلة المعتادة من التهم التي ترمي بها القوى اليمينية المتطرفة أهل الاعتدال والوسطية من الإسلاميين الذين يرون فيهم خطراً حقيقياً على خططهم ونواياهم العنصرية والاستعمارية.
وتناول ذلك الهجوم السيد كين ليفينجستون عمدة مدينة لندن، الذي كان قد رحب بوجود العلامة الشيخ القرضاوي في مدينته ووصفه ببعض ما يستحقه من أوصاف العلم والاعتدال وعرف له قدره باعتباره رمزاً من رموز الإسلام الصحيح الذي يقتدي به ملايين المسلمين في العالم كله.
وبعد انتهاء اجتماع اتحاد العلماء جاءت إلى الفندق الذي كان الاجتماع منعقداً فيه مندوبة من مدير شرطة العاصمة حملت إلى الشيخ القرضاوي رسالة اعتذار من المدير عما بدر من بعض الأفراد في أثناء اجتماع حضره الشيخ القرضاوي كان مخصصاً لبحث قضية الحجاب في أوروبا، ونقلت مع الرسالة المكتوبة رسالة شفهية رقيقة قبلها الشيخ القرضاوي وأجاب عنها بمثلها أو بأحسن منها كما أمرنا القرآن الكريم (وإذا حييتم بتحية فحييوا بأحسن منها أو ردوها) النور: 61 .
وفي المطار- عند سفر الشيخ القرضاوي مغادراً بريطانيا- كان هناك وفد من أهالي لندن بينهم 4 من الحاخامات اليهود جاءوا لوداعه معتذرين عما نشرته ضده الصحف، ولاكته الألسن في التلفزيون والإذاعة وما بدر من بعض الذين تجمهروا أمام دار البلدية مقر عمدة لندن عند زيارة الشيخ له.
ونسيت الموضوع كله أو كدت أن أنساه.
لكن عمدة لندن- فيما ظهر لنا للآن- لم يَنْسَ المسألة، بل أخذ يتابعها هذه الشهور كلها ليعلن على الناس يوم 11/1/،2005 بعد ستة أشهر من انعقاد الاجتماع التأسيسي للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين 11/7/2004 أن الموساد الإسرائيلي واليمين المتطرف في بريطانيا كانا وراء الحملة العنيفة من الهجوم الذي تعرض له الداعية الإسلامي الدكتور يوسف القرضاوي في خلال زيارته للعاصمة البريطانية في يوليو 2004 .
ودعا العمدة أولئك الذين أرسلوا إليه عريضة في يوليو 2004 يعترضون فيها على زيارة الشيخ القرضاوي واستقبال العمدة له، إلى الاعتراف بأنهم استغلوا من قبل الموساد الإسرائيلي، واليمين المتطرف في بريطانيا، ومركز أبحاث في لندن يديره عقيد سابق بالمخابرات الإسرائيلية للوقوع في فخ مهاجمة القرضاوي وطلب إبعاده عن لندن (!).
ولم يأت العمدة بهذا الكلام من فراغ، لكنه كان نتيجة تحقيق طويل أجرته جهات محايدة كلفها هو بإجرائه وقدمت له في النهاية تقريراً مفصلاً عن الأحداث، والأشخاص الذين كانوا يحركونها، والأموال التي يسرت ذلك، والجهات الإعلامية التي ساهمت فيه وهي تعلم حقيقته ومراميه. ولذلك قال العمدة، في مؤتمر صحفي عقده خصيصاً لهذا الغرض، إنه سوف يرسل التقرير إلى المجلس المختص بنظر الشكاوي الإعلامية، لا بقصد الشكوي، ولكن ليعرف المجلس بعض أنواع المشكلات التي تعتري وسائل الإعلام في بريطانيا، التي نري فيها كثيراً من الجهل عن حقيقة الإسلام وزعمائه.
وقال العمدة: يستحق الدكتور القرضاوي أن تعتذر له وسائل الإعلام البريطانية، وأعضاء معهد الشرق الأوسط لبحوث الإعلام- الذي يديره العقيد السابق في المخابرات الإسرائيلية- الذين اعتمدوا على تقارير للموساد عن الدكتور القرضاوي .
وهكذا برح الخفاء.. وانكشف المستور.. وعلم من لم يكن يعلم أن المخابرات الصهيونية هي التي تقف وراء الحملة الدولية على العلامة الشيخ يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وهي التي تحرك عملاءها، في كل مكان يصلون إليه، لشن ما يمكنهم من صور الهجوم على الرموز الإسلامية لتشويها وإضعاف الثقة بها طمعاً في أن يؤدي هذا إلى انفضاض الناس من حولها وفقدان مصداقيتها، لتترك الجماهير المسلمة بلا قيادة تحترمها وتصدقها فريسة لعلماء السلطان الذين يحركهم الطمع الدنيوي أو لعلماء الشيطان الذين يكيدون للدين وأهله وقيمه وأحكامه ويزعمون أنهم يتحدثون بلسان العلم الشرعي والنظر الديني العصري أو الحديث أو المستنير!!
وليس هناك متابع للشأن العام، وللعمل الإعلامي العربي والعالمي يشك في مدي تغلغل أجهزة المخابرات العالمية في وسائل الإعلام. لقد كان هذا التغلغل فيما مضى يقتصر على القيادات الرئيسية في تلك الوسائل الإعلامية لكنه اليوم أصبح عاماً وشائعاً يتعامل مع صغار المحررين وكبارهم، بل مع الإداريين والفنيين الذين لا يكتبون ولا يقرأ لهم أحد، لأن المقصود هو فتح كل ما يمكن من الثغرات في الوسائل الإعلامية لتنفذ منها النظرة الصهيونية والتحليل الصهيوني والفهم الصهيوني للخبر والإعلان والمقال وكيفية عرض الحوادث ومقدار ما ينشر من الوقائع وما يضاف إليها من أباطيل.
والقرضاوي يدفع ضريبة تمثيل الأمة الوسط. ويدفع ضريبة الجهر باجتهاده وإن خالفه فيه علماء آخرون- ويدفع ضريبة ثقة الناس في أنه لا يقول إلا ما يؤمن بصحته وصوابه مهما يكن رأي الآخرين في صوابه أو خطئه. والثبات على هذه الأمور مجد حقيقي يهون في سبيل الاحتفاظ به في الدنيا، ونيل ثوابه في الآخرة أي ثمن يدفعه الإنسان. ويكفي أن يسخِّر الله رجلاً مثل عمدة لندن يقرر الحقيقة ويكشف حجابها ويفضح شر الناقمين على القرضاوي في بلاده، وفي غيرها. والحمد لله رب العالمين.
- المصدر: جريدة الراية القطرية