خالد الحروب
قبل فترة كان لكاتب هذه السطور رأي ناقد «وربما قاس» بشأن بعض فتاوى الشيخ يوسف القرضاوي إزاء ما يحدث في العراق من ذبح أعمى باسم "المقاومة"، وخاصة فيما يتعلق بالفتوى الفضفاضة ضد "المتعاونين مع الاحتلال" وبأنه ينطبق عليهم ما ينطبق على المحتلين.
مازلت عند رأيي القاسي ذلك رغم أن كثيرين انتقدوه وشتموا كاتبه، بل ربما أتطرف في ذلك الرأي أكثر الآن بسبب ما قاد ويقود إليه الذبح الأعمى على يد عصابات الزرقاوي في العراق ومن هو على شاكلته في العراق. لكن ذلك لا يعني عدم الاشادة الشديدة بآراء القرضاوي الأخيرة حول التفريق بين اليهودية والصهونية وأن المعركة والعداء هو مع الصهيونية كأيديولوجية اعتداء واغتصاب، وليس مع اليهودية كدين سماوي.
آراء القرضاوي مهمة وتفتح آفاقاً جديدة في الخطاب الاسلامي العريض يجب أن يتم تأصيلها وتعميمها والتنظير لها لأنها تؤنسن ذلك الخطاب وتعيدنا إلى إنسانيتنا حتى ونحن في وسط صخب المعركة مع عدو شرس ومغتصب لا يرحم. والأكثر أهمية في خطاب القرضاوي الجديد هو أنه صدر على قناة "الجزيرة" وفي برنامج "الشريعة والحياة" «يوم16 يناير2005 » بمعنى أن ملايين المشاهدين رأوه وتابعوه. يُضاف إلى ذلك أن تلك الآراء جاءت في سياق حوار أسئلة وأجوبة وضحت المواقف أكثر وأكثر فلم يكن الموقف بعمومه رأيا عابراً خجولاً أو متردداً بل وضحه الشيخ وشرحه وأسهب فيه.
موقف الإسلاميين المعاصرين من اليهود واليهودية ملتبس وغامض خاصة في ضوء الصراع مع إسرائيل. ويغلب على ذلك الموقف خطاب عاطفي متسرع لا يفرق بين اليهود واليهودية والصهيونية وإسرائيل، كما لا يفرق بين يهود بني قينقاع ويهود نيويورك أو يهود فنزويلا وكأنهم قبيلة واحدة. إسلاميو فلسطين، "حماس" و"الجهاد الاسلامي"، عبروا عن وعي نسبي متقدم إزاء هذه المسألة وحاولوا رسم فروقات بين اليهودية والصهونية، وأن سبب المعركة والعداء مع إسرائيل هو عدوانيتها وليس دينها. وتاريخياً وتوثيقياً ثمة تصريحات للشيخ أحمد ياسين واضحة في ترسيم ذلك التفريق.
لكن المشكلة في خطاب الإسلاميين الفلسطينين هو عدم تعميم بعض الطروحات المعمقة التي وصل إليها بعض قياداتهم، أو حتى صيغت في وثائقهم الداخلية. إذ بدا وكأن هناك ثقافتان واحدة خاصة بالنخبة السياسية والإعلامية" وأخرى عامة للقواعد وحشد الشعبوية. لكن ذلك الوعي النخبوي النسبي ظل مجهولاً وغير متداول، وبقي الخطاب الاسلامي العام واقعاً تحت سيطرة فكرة مطابقة اليهودية بالصهيونية، وهو أمر تسطيحي وغير إنساني.
من هنا فإن إعادة تأسيس الوعي إزاء العلاقة والنظرة إلى اليهودية وفصمها عن العلاقة والنظرة إلى الصهيونية هو أمر بالغ الأهمية ليس فقط في الفكر الاسلامي الحركي وحده، بل وفي الثقافة الشعبية العربية والاسلامية بعامة. وليس من المبالغة القول إن آراء القرضاوي الأخيرة يمكن اعتبارها أهم تنظير إسلامي إزاء النظرة إلى إسرائيل واليهودية والصهيونية في نصف القرن الأخير. وربما يتطلب الأمر منه أن يصوغها بشكل مفصل وموسع في كتاب خاص.
هذا مع ضروة الاشارة هنا إلى أن هذا الوعي يجيء متأخرا عن الوعي الوطني الفلسطيني المسيس وعن الوعي العلماني العربي بعامة الذي فرق منذ زمن بعيد بين اليهودية والصهوينة. لكن أهمية طرح القرضاوي تكمن في تأثيره على الشارع العربي المشحون بالخطاب الاسلامي بعامة في هذه المرحلة.
يتحدث القرضاوي أولاً عن اليهود في سياق تفسير النص القرآني {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اليَهُودَ والَّذِينَ أَشْرَكُوا}، فيقول أولاً إن هذه الآية "تتحدث عن موقف تاريخي" أيام الرسول وعلاقته مع يهود المدينة وحروبه معهم، بمعنى أن مغزاها لا ينطبق على كل اليهود في كل عصر وزمان.
ثم يتابع قائلاً، بشكل سيدهش كثيرين، "أنا أقول ربما كان اليهود أقرب إلى المسلمين من ناحية العقيدة ومن ناحية الشريعة أكثر من المسيحيين، لماذا لأن اليهود لا يؤلهون موسى (فهم) ليست عندهم عقيدة تثليث هم لا يؤلهون موسى كما يُؤله المسيحيون عيسى ابن مريم، هم من ناحية الشريعة في كثير من الأشياء يتفقون فيها مع موسى، النصارى لا يذبحون اليهود يذبحون تعرفي الكوشر اليهودي، النصارى لا يختنون أبناءهم اليهود يختنون، النصارى لا يحرمون الخنزير اليهود يحرمون الخنزير...
النصارى لا يحرمون التماثيل ومعابدهم وكنائسهم مليئة بالتماثيل، اليهود يحرمون التماثيل، أشياء كثيرة يتفق فيها اليهود مع المسلمين، فليست المشكلة مع اليهود مشكلة عقيدة ولا شريعة إنما هي مشكلة أطماع وأشياء جعلت هذا الموقف منذ العهد النبوي مع اليهود ثم في عهدنا هذا منذ بدأوا يطمعون في أرض الاسراء والمعراج أرض فلسطين المقدسة المباركة."
وحول طبيعة المعركة وفيما إن كانت مع إسرائيل أو اليهود يقول القرضاوي: "المعركة بيننا وبين اليهود يعني ليست من أجل العقيدة فبعض الناس يمكن أن يظن أننا نحارب اليهود من أجل عقيدتهم هذا خطأ نحن لا نحارب اليهود من أجل عقيدتهم بل نحارب اليهود من أجل الأرض التي اغتصبوها وشردوا أهلها ومن أجل أنهم احتلوا الأرض حتى بعد أن أصبح العرب والفلسطينيون أقروا بعد حرب1967 أنه إزالة آثار العدوان يعني سكتوا عن العدوان القديم من أجل العدوان الجديد، طيب خلينا اعترفنا بالدولة الاسرائيلية ومع هذا الدولة الاسرائيلية لم تعترف بالفلسطينيين احتلت الضفة الغربية واحتلت القدس واحتلت غزة ولا يزال الاحتلال إلى اليوم ومازال الاحتلال يعمل عمله في التقتيل والتدمير والتخريب واقتلاع الأشجار وجرف الأرض وتحريق المزارع وتدمير المساجد يعني وكل يوم في كل صباح ومساء، هذا هو سبب المعركة بيننا أما اليهود كيهود ليس بيننا وبينهم معركة".
وأكثر من ذلك فإنه لا يقر بجواز الدعاء المشتهر عند خطاب المساجد بالدعاء على "اليهود والنصارى" ويقول "...أخذت على بعض الخطباء أنهم يعممون، يعني يقولون اللهم أهلك اليهود والنصارى اللهم يتم أطفالهم ورمل نساءهم وكذا.. لا هذا الدعاء ليس مقبولا لأن فيه يهود ونصارى يقيمون في بلادنا هؤلاء لا ينبغي أن ندعو عليهم وفيه نصارى مسالمون وفيه يهود مسالمون (هل يُعقل) أن أدعي على الحاخامات الذين ودعونا في مطار لندن هذا ليس يعقل، إنما أنا أقول اللهم عليك بالصهاينة باليهود الظالمين المعتدين، لازم أصفهم بوصف إنما لا أدعو على كل يهودي ولا أدعو على كل نصراني، أقول الصليبيين الحاقدين الكائدين أقصد الأمريكان المعتدين الذين ينحازون لاسرائيل والذين يتدبرون في الأرض".
بكل المعايير هذا خطاب جديد يستحق التقدير والوقفة المطولة عنده ويأتي في خضم انتشار خطابات التطرف والتشنج التي تريد محو كل ما هو إنساني فينا حتى القدرة على التفريق بين من هو عدونا ومن هو ليس عدونا.
- المصدر: جريدة الشرق القطرية