المقدمة
هناك رجلان بينهما كثير من الأمور المتناقضة ولكن ايضا هناك خيط رفيع يجمع كليهما، والرجلان هما الشيخ الجليل د. يوسف القرضاوي والأستاذ محمد حسنين هيكل، ومن الأمور المتشابهة بين الرجلين أنهما عندما يتكلمان فإنهما يكونان موضع الانتباه، وعندما يسكتان يتساءل الناس لماذا لا يتكلمان.
وأحب ايضا إن لكليهما محبيهما الكثيرين، والذين يختلفون معهما ايضا، والخيط الرفيع الذي أحسب انه يجمع الرجلين أن كليهما تعرضا لأن يكونا موضع الجدل والاهتمام العام مؤخرا، وعلى الرغم من اختلاف طبيعة هذا الجدل ومصدره وكيفية إدارة كل منهما لهذا الجدل، الإ أن القيمة الأساسية تبقى في أن الناس - عموما - قد استمعت واستفادت بطريقة كل منهما في الدفاع عن نفسه.
الدكتور يوسف القرضاوي
والرجل الأول الدكتور يوسف القرضاوي الذي كان قد دعي للمشاركة في المجلس الأوروبي للإفتاء استقبل بعاصفة من صحافة اليمين البريطاني ومنها جريدة «صنداي ميرور» و«الديلي تليغراف» اللندنيتين، وصورت الجريدتان الشيخ على أنه الداعي الأول في العالم لقتل - بغض النظر عن الأسباب والدوافع - اليهود والمسيحيين، وهو ما يعلم كذبه كل من يتابع فتاوى الشيخ وآراءه، وهو من رجال الاعتدال والوسطيه، وليس عندي شك في أن هاتين الجريدتين لو استطاعتا لحملتا الشيخ وزر ما يتصور المسيحيون أنه دم وصلب المسيح عيسى بن مريم عليه السلام.
والأصل في الإدعاء اليميني البريطاني هو أن الشيخ الجليل ما فتى يدافع عن حق المظلومين والمقهورين في رد الظلم والقهر عن أنفسهم بكافة الوسائل والسبل وهو ما يضع الاسرائيليين الصهاينة في نطاق أعمال المقاومة، وهو ما لا ترضى عنه قطاعات من اليمين المتطرف والتي ترى في الصهاينة أبناء مدللين لا يمكن المساس بهم ولا مساءلتهم مهما كانت خطيئتهم أو جرمهم، والشيخ القرضاوي يدعو أهل دينه ولم يفرض على غيره أن يساعدوا أخوانهم إما ماديا أو حتى معنويا، وعلى هذا اعتبرته هذه الجرائد ممن يدعون ويحضون على كراهية اليهود وفي حين لم توجه هذه الجرائد كلمة واحدة لشارون وعصابته للقتل المنظم والممنهج والعقاب الجماعي للفلسطينيين وهذا هو مربط الفرس، فلو تكلم الشيخ ودعا الفلسطينيين لقبول القتل والاحتلال بهدوء وسلام ومحبة لربما كان مُنح جائزة نوبل أو غيرها ولكن عقل الرجل وضميره يأبى ذلك كما يأباه أي رجل ذي ضمير حر.
ولا بأس في كل ما فات، وما أود أن أعلق عليه هو أن الشيخ الجليل، وبكل ما عرف عنه من شجاعة في الحق انبرى للدفاع عن نفسه، واستغرقت خطبة الجمعة التي أم فيها الناس في لندن في المسجد الكبير في ريجينت بارك حوالي الساعتين والربع أو أكثر قليلا، وامتدت خطبة الجمعة حتى بلغت الساعة الثالثة في حين أن وقت انتهاء الصلاة عادة ما يكون الثانية إلا ربعا، وقد استغرق فضيلته هذا الوقت ليؤكد على وسطيته واعتداله، وعدم تطرفه ولا جموحه.
وكان كلما انهى فضيلته ربع ساعة من الخطبة أعقبتها ترجمة انجليزية، وكنت قد تابعت الخطبة من الوضع واقفا لعدم وجود أماكن للجلوس حتى في ساحة المسجد الخارجية - والتي ربما تسمى صحنا - وبدا للبعض - وكان أحدهم من شمال افريقيا ربما الجزائر أو المغرب - يقف أمامي أن الشيخ يسعى لإيصال صوت اعتداله لهؤلاء الإعلاميين والذين كان يحتشد الكثير منهم خارج المسجد مصوبين عدساتهم وميكروفوناتهم صوب المسجد علهم أن يفوزوا بلقطة أو لمحة لما يدور داخل المسجد، المهم أن صديقنا الشمال إفريقي هذا وقبل بلوغ الساعة الثالثة بقليل انفعل واعتدل في وقفته، وصاح بصوت عال: والله لن يسمعوك يا شيخنا لن يسمعوك، واحسب أن صديقنا العربي هذا كان على حق، وكان على شيخنا الجليل ألا يجهد نفسه فهو أعز من ذلك بكثير، وإن أراد أن يدافع عن نفسه فليكن بطريقة أكثر مباشرة من الطريقة التي اتبعها والتي أرهقته وارهقت محبيه، ولكن ما خفف من أسباب غضبنا على الإعلام اليميني الموجه هو حفاوة الاستقبال الذي تلقاه به السيد ليفنغستون عمدة لندن، الذي رحب بالشيخ القرضاوي ايما ترحيب، بل تعمد أن يرحب به على مرأى ومسمع من وسائل الإعلام بل ودعاه لزيارة لندن مرات اخرى.
ونصيحتي المتواضعة للشيخ الجليل في المرة القادمة عند زيارته لندن أن يقوم بإعداد كتيب صغير باللغة الانجليزية يتضمن فتاواه عن حقوق غير المسلمين في ديار الاسلام، والتي طالما أكد عليها الشيخ، كما أنه لا بأس في أن يتضمن ذلك الكتيب الحق الإنساني في مقاومة الاحتلال وأن يضرب أمثلة تكون حاضرة في الضمير الاوروبي مثل مقاومة الفرنسيين وغيرهم للاحتلال الألماني النازي، ويؤكد فيه ايضا أن الإسلام يرفض ما فعله الحلفاء بالقصف الممنهج للمدنيين كما فعل الاميركيون والبريطانيون في مدينة درسدن الالمانية قبيل نهاية الحرب، وبعد أن يقوم فضيلته بإعداد مثل هذا الكتيب يمكن أن يرسله مباشرة إلى دور النشر الصحفي تلك التي دأبت على مهاجمة فضيلته.
الأستاذ محمد حسنين هيكل
والرجل الثاني هو «الاستاذ» والذي عاد إلى طلاب رؤيته في زمن غابت فيه الرؤى أو تراجعت وكان الأستاذ قد قرر منفردا، وهو في ظني ليس من حقه المطلق، أن يطلب الإذن في الانصراف قبل أقل قليلا من العام، وكان الأستاذ في كشف حسابه الختامي - واظن أن كلمة «ختامي» ليست في موضعها - فما زال لدى الاستاذ الكثير ليقول وينير ويشير اليه، أقول كان الاستاذ في كشف حسابه والاستئذان في الانصراف قد قدم ما يشبه الاستقالة المسببة والتي تعرف في الادارة على أنها شكوى يجب النظر في أسبابها.
وأطل علينا الاستاذ مرة اخرى في شهر يوليو، وربما كان إستئذانه في شهر سبتمبر كما أراد أو أكتوبر كما أرادت الأقدار وهما تاريخان ذاتا دلالة، في شهر سبتمبر كان رحيل صديقه ورفيقه منذ عام 1952 جمال عبد الناصر، وكانت عودته لنا في يوليو ولعله الشهر الذي تتألق منه وفيه ذكريات الاستاذ، أو لعل ذلك كله كان من صنع الهدف - كما يقول الاستاذ في أحد خطبه التي كتبها لعبد الناصر بمناسبة الوحدة بين مصر وسوريا.
وهجرة الاستاذ لوسائل الاعلام المصرية خسارة لا تعوض لهم وبقدر خسارتهم كانت مكاسب «الجزيرة»، والتي يعد تعاقدها مع الاستاذ ضربة معلم، وكما ذكرت فإن الاستاذ في إستئذانه في الانصراف أشار لمضايقات عديدة ضيقت عليه، ورجل في مثل خبرة ووزن هيكل لا يعقل أن يملى عليه ما الذي يقوله وما الذي لا يقوله، وفي واقع الحال فإن الرجل قد ألزم نفسه ومنذ فترة طويلة أن ما لا يستطيع قوله في مصر لن يقوله خارجها وبذلك اكتسب احترام الجميع وهناك الكثير من القصص المعروفة والمسكوت عنها في هذا السياق، ولكن صاحبها أولى بها مني في إذاعتها إن أراد.
وهيكل كما يقول الأوروبيون مثل النبيذ تزداد قيمته كلما تقدم به العمر، وليس كل من تقدم به العمر تزداد قيمته، وفي هذا السياق ويرتبط بما يجري في الساحة الفلسطينية، يقول الاستاذ في كتابه «المفاوضات السرية بين العرب واسرائيل»، الجزء الثالث الطبعة الاولى - صفحة 308 ما معناه أن اسرائيل سوف تنسحب من قطاع غزة - تحت وطأة الانتفاضة (كان يتكلم عن الانتفاضة الأولى) وتحت ضغط العبء السكاني - من جانب واحد، وهذا الانسحاب الأحادي سوف يؤدي إلى إقتتال داخلي وفوضى سوف تجد مصر نفسها مضطرة للتدخل لضبط النظام لأن خسائر الاقتتال الداخلي سوف تكون فادحة لكل الأطراف، قال هيكل هذا الكلام أو بمعنى أدق كتبه في كتاب منشور في سنة 1996 بمعنى أنه يمكن أن يكون قد كتبه في عام 1995 أو حتى 1994، وهو بذلك يكون قد اعطى مثالا جيدا عن قراءة المستقبل السياسي يفشل فيه كثير ممن يدعون أنهم محللون سياسيون أو خبراء استراتيجيون ممن تمتلئ الساحة بهم، وكان الاستاذ قد أشار الى الدور المصري المحتمل في قطاع غزة منذ عدة سنوات وقال أنه قد اطلع على وثائق أميركية تثبت تعهد مصر بتحمل أعباء أمنية في قطاع غزة، ويومها ثارت عليه أقلام معروفة بتوجهات معينة واتهم الرجل باتهامات عديدة، وسكت الرجل ولم يرد على هذه الاتهامات.
وللأستاذ هيكل نهج محدد في التعامل مع الاتهامات، ويذكر أحد أصدقاء الاستاذ أنه سأله ذات مرة لماذا لا تجيب على من يتهمونك ويشككوا في روايتك، فأشار إلى إحدى الغرف المغلقة بمكتبه وقال له اتدري ما هذه الغرفة؟ فلما لم يبد من صديقه أنه عرف الإجابه، قال له الاستاذ إنها الثلاجة أضع فيها الأوراق التي تكتب فيها اتهامات ضدي فيها لأنها لو خرجت من الثلاجة سوف تظهر لها رائحة نتنه، هذا والعهدة على هذا الصديق.
المهم إن منهج الاستاذ يتمثل في أنه لا يرد على الاتهامات لأنها لا تنتهي وسهلة ولا تحتاج لتدقيق، في حين أن الرد عليها مجهد ومكلف ويستغرق الانسان نفسه، وهذا هو الخيط الرفيع الذي يربط الرجلين أنه التباين في طريقة التعامل مع مثل هذه الاتهامات،
ترى لو أنك مكان أي منهما أي أسلوب كنت تتبع؟!
.........
- المصدر: جريدة الوطن القطرية