د. يوسف القرضاوي
إن العمليات الاستشهادية التي تقوم بها فصائل المقاومة الفلسطينية لمقاومة الاحتلال الصهيوني, لا تدخل في دائرة الإرهاب المجرم و المحظور بحال من الأحوال وإن كان من ضحاياها بعض المدنيين, وذلك لعدة أسباب :

أولا": إن المجتمع الإسرائيلي بحكم تكوينه الاستعماري الاستيطاني الإخلالي العنصري الاغتصابي – مجتمع عسكري لحما ودماء محتمع عسكري كله, أي أن كل من جاوز سن الطفولة سنه من رجل أو إمرأه مجند في جيش اسرائيل, كل إسرائيلي جندي في الجيش, إما بالفعل وإما بالقوة, أي هو جندي احتياط, يمكن أن يستدعى في أي وقت للحرب, وهذه حقيقة ماثلة للعيان وليست مجرد دعوى تحتاج إلى برهان وهؤلاء الذين يسمونهم (مدنيين) هم في حقيقة أمرهم (عساكر) في جيش بني صهيون بالفعل أو القوة, وخصوصا سكان (المستوطنات) منهم التي أقاموها بالعنف وأنشأوها قلاعا للعدوان .

ثانيا": إن المجتمع الإسرائيلي له خصوصية تميزه عن غيرة من سائر المجتمعات البشرية فهو بالنسبة لأهل فلسطين (مجتمع غزاة) قدموا من خارج المنطقة – من روسيا أو من أمريكا أو من أروبا أو من بلاد الشرق ليحتلوا وطنا ليس لهم ويطردوا شعبه منه,  أي ليحتلوا فلسطين ويستعمروها ويطردوا أهلها, ويخرجوهم من ديارهم بالإرهاب المسلح ويشتتوهم في آفاق الأرض ويحلو محلهم في ديارهم, وأموالهم, ومن حق المغزو أن يحارب غزاته بكل ما يستطيع من وسائل ليخرجهم من داره, و يردهم إلى ديارهم التي جاؤا منها, ولا عليه أن يصيب دفاعه رجالهم أو نسائهم, كبارهم أو صغارهم, فهذا الجهاد (جهاد اضطرار) كما يسمية الفقهاء لا جهاد اختيار, جهاد دفع لا جهاد طلب, ومن سقط من الأطفال و البراء فليس مقصودا, إنما سقط تبعا لا قصدا, ولضرورة الحرب, ومرور الزمن لا يسقط عن الصهاينه صفة الغزاة المحتلين المستعمرين, فإن مضي السنين لا يغير الحقائق, ولا يحل الحرام, ولا يبرر الجريمة, ولا يعطي الإغتصاب صيغة الملكية المشروعة بحال, فهؤلاء الذين يسمون (المدنيين) لم يفارقهم وصفهم الحقيقي: وصف الغزاة البغاة الطغاة الظالمين .(ألا لعنة الله على الظالمين).

ثالثا": يؤكد هذا أن الشريعة الإسلامية التي هي مرجعنا الأوحد في شؤوننا كلها تصف غير المسلمين بأحد وصفين لا ثالث لهما, وهما : مسالم و محارب . فأما المسالم فالمطلوب منا ان نبره ونقسط إليه, وأما المحارب فمطلوب منا أن نحاربه, ونقابل عدوانه بمثلة كما قال تعالى (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلنكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين, واقتلوهم حيث ثقفتموهم واخرجوهم من حيث اخرجوكم و الفتنة أشد من القتل , ولاتقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه ,فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين ) سورة البقرة 190-193.

وهؤلاء هم الذين يسميهم الفقهاء (الحربيين), ولهم في الفقة أحكامهم الخاصة بهم .

ومن المقرر شرعا أن (الحربي) لم يعد معصوم الدم والمال فقد أسقط بحربه وعدوانه على المسلمين عصمة دمه وماله .

رابعا": يؤكد ذلك أن فقهاء المسلمين اتفقوا أو اتفق جمهورهم على جواز قتل المسلمين تترس بهم الجيش المهاجم للمسلمين, أي إتخذ العدو منهم فروسا ودروعا بشرية يحتمي بها, ويضعها في المقدمة, ليكونوا أول من تصيبهم بنيران المسلمين أو سهامهم وحرابهم . فأجاز الفقهاء للمسلمين المدافعين أن يقتلوا هؤلاء المسلمين البرآء, الذين أكرهوا على أن يوضعوا في مقدمة جيش عدوهم لأنهم أسرى عنده أو أقلية ضعيفة أو غير ذلك إذ لم يكن لهم بد من ذلك, وإلا دخل عليهم الجيش الغازي وأهلك حرثهم ونسلهم فكان لابد من التضحية بالبعض مقابل المحافظة على الكل, وهو من باب (فقه الموازنات) بين المصالح و المفاسد بعضها وبعض .

فإذا جاز قتل المسلمين الأبرياء المكرهين للحفاظ على جماعة المسلمين الكبرى فإن يجوز قتل غير المسلمين, لتحرير أرض المسلمين من محتليها الظالمين أحق وأولى .

خامسا": إن الحرب المعاصره تجند المجتمع كله, بكل فئاته وطوائفه ليشارك في الحرب ويساعد على إستمرارها و إمدادها بالوقود اللازم من الطاقات المادية و البشرية, حتى تنتصر الدولة المحاربة على عدوها, وكل مواطن في المجتمع عليه دور يؤدية في إمداد المعركة, وهو في مكانه, فالجبهة الداخلية كلها بما فيها من حرفيين و عمال صناع تقف وراء الجيش المحارب وإن لم تحمل السلاح . ولذا يقول الخبراء : إن الكيان الصهيوني في الحقيقة (إسرائيل) كله جيش .

سادسا": إن الأحكام نوعان : أحكام في حالة السعة و الاختيار, وأحكام في حاله الضيق والاضطرار, و المسلم يجوز له في حالة الاضطرار ما لا يجوز له في حالة الاختيار ولهذا حرم الله تعالى في كتابة في أربع آيات الميتة و الدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله ثم قال: (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم ) سورة البقرة 173

ومن هذا أخذ الفقهاء قاعدة : الضرورات تبيح المحظورات, وأخوتنا في فلسطين في حاله ضرورة لا شك فيها, بل هي ضرورة ماسة وقاهرة للقيام بهذة العمليات الاستشهادية لإقلاق أعدائهم وغاصبي أرضهم , وبث الرعب في قلوبهم, حتى لا يهنا لهم عيش ولا يقر لهم قرار فيعزموا على الرحيل ويعودوا من حيث جاءوا ولولا ذلك لكان عليهم أن يستسلموا لما تفرضه عليهم الدولة الصهيونية من مذله وهوان يفقدهم كل شئ ولا تكاد تعطيهم شيئا .

أعطوهم عشر معشار ما لدى إسرائيل من دبابات ومجنزرات, وصواريخ وطائرات, وسفن آليات, ليقاتلوا بها .وسيدعون حينئذ هذه العمليات الاستشهادية , وإلا فليس لهم من سلاح يؤذي خصمهم, ويقض مضجعهم ويحرمهم لذة الأمن وشعور الاستقرار إلا هذه (القنابل البشرية), أن (يقنبل) الفتى أو الفتاة نفسه ويفجرها في عدوه فهذا هو السلاح الذي لا يستطيع عدوه وإن أمدته أمريكا بالمليارات وبأقوى الأسلحة أن يملكه, فهو سلاح متفرد ملكه الله تعالى لأهل الإيمان وحدهم وهو لون من العدل الإلهي في الأرض لا يدركه إلا أولو الأبصار, فهو سلاح الضعيف المغلوب في مواجهة القوي المتجبر (وما يعلم جنود ربك إلا هو) سورة المدثر31.