د. يوسف القرضاوي

جربنا في تاريخنا الكثير، وجربنا في حياتنا المعاصرة الكثير، رأينا العالم يتقارب، ورأينا المتباعدين  يقتربون، والمختلفين يتفقون، المختلفين دينياً، والمختلفين فكرياً، وأيديولوجياً، والمختلفين سياسياً.

النصارى اقترب بعضهم من بعض رغم اختلاف مذاهبهم، فكل مذهب كأنه دين مستقل.

العالم يتقارب، ونحن العرب والمسلمين – وحدنا – الذين نتباعد؟! هل هذا منطق؟ هل هذا عقل؟ هل هذا يجيزه الدين؟ أو تجيزه المصلحة؟ أو يجيزه أي منطق كان؟

إن كل منطق يفرض على هذه الأمة أن تتوحد، أن تنسى ما بينها. إن الذي يجري بين المسلمين شيء عجيب، إنها الدسائس والمؤامرات، إنه الكيد .. المكر الكبير، المكر الذي يمزق هذه الأمة من داخلها.

في كل بلد توجد خلافات، إذا كان هناك مسلمون وغير مسلمين، وجدت مسألة الأقليات الدينية، وإذا كان هناك مسلمون من عروق مختلفة ظهرت قضية الأقليات العرقية، وإذا كان هناك مسلمون من مذهب ومسلمون من مذهب آخر وجدت الخلافات المذهبية، إذا كانت هناك خلافات سياسية وأيديولوجية وجد الخلاف أو الصراع السياسي والأيديولوجي، وغذى هذا وذاك، لابد من أن يوجد نوع من التفريق والتمزيق بين هذه الأمة!

ونحن للأسف ننصاع ونستجيب لهؤلاء، ولا ندري ما يكاد لنا، وما يدبر لنا بليل.

إن على هذه الأمة أن تتفق، نحن العرب حوالي مائتي مليون والمسلمون حوالي ألف مليون، ونحن نرى تكتلات في العالم .. الصين ألف ومائة مليون، الكتل الكبيرة موجودة، فلماذا يراد بنا نحن أن  نظل ممزقين؟

إن علينا نحن المسلمين عامة، ونحن العرب خاصة، أن نستجيب لأمر الله، وأن نستجيب لداعي الحق، وداعي الخير ونتحد.

العرب يجمعهم الدين، وتجمعهم اللغة، ويجمعهم التاريخ، ويجمعهم المصير المشترك، وتجمعهم الآمال والآلام، يجمعهم هذا كله، ولكن أهم ما يجمعهم .. الشيء الذي يجمع الجميع: هو أن يتذكروا الله سبحانه وتعالى، أن يتقوا الله حق تقاته، ألا يموتوا إلا وهم مسلمون، ولن يموتوا على ذلك إلا إذا عاشوا مسلمين، أن يعيشوا بالإسلام وللإسلام وليموتوا عليه، فالإنسان إنما يموت على ما عاش عليه.

أما الذين أبعدوا الإسلام عن الساحة، وقالوا: اتركوا الإسلام حتى يتحد الجميع، لنتجه اتجاهاً علمانياً لا دينياً، حتى لا توجد طوائف مختلفة، فهؤلاء والله ضد كل منطق.

العلمانية كيف يمكن أن تجمع هذه الأمة، وقد رأينا بلاداً علمانية كالهند، ومع هذا تتقاتل الطوائف بعضها مع بعض.

العلمانية لا تحل العقدة ولا المشكلة، بل الذي يحل عقدة هذه الأمة: أن تعرف الله حق معرفته، وتتقي الله حق تقاته، وترجع إلى الإسلام.

ما عرفنا في التاريخ أن هذه الأمة انتصرت إلا بالعودة إلى الإسلام، فالإسلام يجمع ولا يفرق، ويبني ولا يهدم، ويقوى ولا يضعف، هذا هو الإسلام الذي ندعو إليه: إسلام القرآن والسنة، إسلام الصحابة والتابعين لهم بإحسان، الإسلام الذي انتصرت به هذه الأمة، وفتحت العالم، ورثت ممالك كسرى وقيصر، وأقامت دولة العدل والإحسان، وحضارة العلم والإيمان، وهذا الإسلام وحده هو الذي يجمعنا ولا يفرقنا.

يجب أن يعود الجميع إلى هذا الدين، المسلم وغير المسلم، ما يضر غير المسلم أن يتقي المسلم ربه، ويقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويحل الحلال ويحرم الحرام.

هل يضر غير المسلم أن يلتزم المسلم بدينه؟ لا والله، بل هذا ينفعه ولا يضره، بل هذا هو الضمان له، لأن الإسلام يبقى على عقيدته وعلى عبادته وعلى مشاعره، ولا يرضى بالاعتداء عليه في دم أو عرض أو مال.

إن الإسلام هو الضمان الوحيد لوحدة هذه الأمة، هو الضمان الذي يبقى عليها فلا تفترق ولا تتشتت ولا تتشرذم، ولا يعادي بعضها بعضا، ويقتل بعضها بعضاً (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون).

نسأل الله تبارك وتعالى أن يجمع كلمة هذه الأمة على الهدى، وقلوبها على التقى ونفوسها على الحب، وعزائمها على عمل الخير وخير العمل.