د. يوسف القرضاوي

مقدمة

للإسلام وسائل عدة لحماية البيئة , وتنميتها وتحسينها , وعلاج مشكلاتها التي أمسى العالم كله يشكو من آثارها . وهذه الوسائل كلها تتعلق بدور الإنسان في البيئة , إذ الطبيعة من حولنا بأرمسها وقمرها , وليلها ونهارها , وبحارها وصحاريها .. لا نستطيع أن نتحكم فيها , من ناحية , ولأنها لا مشكلة منها ولا خطر في ذاتها , إنما المشكلة تنبع من صلة الإنسان بها , ونظرته إليها , وتصرفه فيها , وتعامله معها . : (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) هذه الوسائل الإسلامية تتمثل في ما يلي:

تربية الناشئة

أولى هذه الوسائل هي التربية والتعليم , وخصوصاً للناشئة في الحضانات والمدارس , بمستوياتها المختلفة , حتى الجامعة . فمن الواجب غرس فكرة العناية بالبيئة والحفاظ عليها , والتعامل معها بـ (الإحسان) الذي أمر الله به , وكتبه على كل شيء , كما جاء في الحديث: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء" وبـ (الرفق) الذي يحبه الله تعالى في الأمر كله , وما دخل في شيء إلا زانه ولا نزع من شيء إلا شانه . وبالإعتدال الذي يجعل الإنسان ينتفع بخيرات البيئة بلا شح ولا إسراف , إنتفاع عباد الرحمن (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما) الفرقان: 67. وبشكران النعمة الذي يجب أن يتصف به كل مؤمن , فهو الذي يحفظها عليه , بل يزيدها وينميها , وعلى المؤمن أن يقول ما قال سليمان: (هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر؟ ومن شكر فإنما يشكر لنفسه , ومن كفر فإن ربي غني كريم) النمل: 40 . كما عليه أن يتعامل مع البيئة ومكوناتها بتقوى الله تعالى , وهي الشعور برقابته عز وجل ,وأنه لا يضيع عنده عمل عامل من ذكر أو أنثى , وأنه سبحانه سيجزي الذين أساؤوا بما عملوا , ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى . هذه المعاني يجب أن نغرسها في عقول أطفالنا وفي وجدانهم منذ نعومة أظفارهم , فإن التعليم في الصغر , كالنقش على الحجر , وهذه السن هي التي تتكون فيها العادات , وتكتسب الفضائل أو الرذائل , وقد قال الشاعر:
إن الغصون إذا قومتها اعتدلت    ولن تلين إذا قومتها الخشب

ومن اللازم هنا: أن يدخل جزء من(علم البيئة) وضرورة رعايتها والحفاظ عليها في المناهج والكتب الدراسية بالقدر الملائم , وبالأسلوب المناسب لسن الطالب ومداركه, وبالطريقة المشوقة التي تشده إلى هذا اللون من الثقافة , الذي يجب أن يرتبط بالدين , باعتباره المؤثر الأول في حياة الإنسان عامة والمسلم خاصة.

التوعية والتثقيف للكبار

والوسيلة الثانية هي: التوعية والتثقيف للكبار وللجماهير بصفة عامة , وذلك عن طريق المؤسسات الثقافية التي تعمل على الرقي بفكر الأمة , وتسموا بأذواقها واتجاهاتها العقلية والنفسية , وتصحح مفاهيمها الخاطئة , وتقوم أفكارها المنحرفة متعاونة مع أجهزة الإعلام الواعي الهادف , الذي يبني ولا يهدم , يصلح ولا يفسد , بحيث ينشئ تصوراً معرفياً بيئياً جديداً منبثقاً من التصور الإسلامي العام لله سبحانه وللإنسان وللكون وللحياة والوجود . فالثقافة هي التي تغير الأفكار والأذواق والميول وتكون اتجاهات الأفراد , خيرة كانت أم شريرة . كما لا بد أن يدخل البيئة , والحرص على سلامتها ونمائها , وأدائها لما يطلب منها على الوجه الأمثل.. في مناهج الإعلام مقروءاً , ومسموعاً , أو مرئياً, وأن تعد برامج ثقافية ملائمة, على شتى المستويات, بعضها أكاديمي يصلح للخاصة وبعضها جماهيري ينفع للعامة. بل لا بد أن تدخل هذه المعاني والمفاهيم البيئية ضمن الأعمال الدرامية من التمثيليات والمسلسلات ونحوها, لما فيها من تشويق, وما لها من تأثير بالغ في الناس. ولا بد للإعلام الديني أن يقوم بمهمته في التوعية والترشيد والتوجيه, المعتمد على القرآن والسنة, وهدي السلف الصالح, عن طريق خطبة الجمعة ودرس المسجد, والمحاضرات الدينية فلا ريب أن للمسجد تأثيره الكبير في عقول المسلمين وضمائرهم, إذا تهيأ له الخطيب الصالح الذي يفقه دينه ويفقه عصره.

رقابة الرأي العام

والوسيلة الثالثة,هي: رقابة الرأي العام, الذي يمثل(الضمير الجماعي) للأمة بمقتضى فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , التي ميز الله بها هذه الأمة (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) آل عمران: 110. وهو من الأوصاف الأساسية لمجتمع المؤمنين والمؤمنات , كما وصفه الله تعالى في كتابه, حيث قال: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض,يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر,ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله,أولئك سيرحمهم الله) التوبة: 71, فقدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الفرائض المعروفة: الصلاة والزكاة, ليشعر بأهميته في الدين, وبهذا يتكون الضمير الاجتماعي للأمة وتتقرر رقابة الرأي العام الواعي على أوضاعها,والسهر على استقامتها. ولا ريب أن إصلاح البيئة ورعايتها من المعروف , وأن إفسادها وتلويثها والإعتداء عليها من المنكر. ومعنى هذا: أن كل مسلم مسؤول مسؤولية تضامنية عن سلامة البيئة وصلاحها, وإذا رأى من يجور عليها بتلويث أو إتلاف أو إفساد , وجب عليه أن ينهاه عن ذلك بل المطلوب أساساً أن يغير هذا المنكر بقدر استطاعته , بيده إن كان ذا سلطة, فإن لم يستطع فبلسانه, فإن لم يستطع فبقلبه, وذلك أضعف الإيمان. وبهذا يحاصر المنكر والفساد حصاراً أدبياً, ويبقى في أضيق نطاق ممكن. ويدخل في هذا المجال: إنشاء(الجمعيات الأهلية) للحفاظ على البيئة, وهذا من التعاون على البر والتقوى,وهذه الجمعيات هي البديل الشعبي عن دور(المحتسب) في عصور الحضارة الإسلامية.

سلطة التشريع والعقاب

وتبقى الوسيلة الرابعة, وهي: التشريع وسلطة القانون, الذي يلزم ويعاقب من لا يلتزم , عن طريق ولي الأمر, وإلى ذلك أشار القرآن بقوله: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط, وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد) الحديد: 25 . فمن لم يصلحه الكتاب والميزان أصلحه الحديد ذو البأس الشديد . وفي الحديث الصحيح: "كلكم راع , وكلكم مسؤول عن رعيته فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته". ولقد قال الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه (إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن) فإذا كان القرآن ينمي حوافز الإيمان وينشئ الضمائر الحية, فإن السلطان يقف بالمرصاد لكل من يتجاوز الحدود. ولهذا كان لا بد من دخول الحفاظ على البيئة, ومعاقبة من يجور عليها, في التشريعات الملزمة للأمة. وعندنا من عمومات النصوص, ومن المصالح المرسلة, وسد الذرائع, ومن القواعد الفقهية ما يعيننا على إنشاء قانون للبيئة, وفق هذه القواعد الشرعية: لا ضرر ولا ضرار.. الضرر يزال.. والضرر يدفع بقدر الإمكان. يتحمل الضرر الأدنى لدفع الضرر الأعلى.. يرتكب أخف الضررين.. درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب, ما أدى إلى الحرام فهو حرام, الضرورات تبيح المحظورات, ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها. الحاجة تنزل منزلة الضرورة, ما بني على باطل فهو باطل, الأمور بمقاصدها, العادة محكمة, ما قارب الشيء يأخذ حكمه, النادر لا حكم له, للأكثر حكم الكل, إلى آخر تلك القواعد المعروفة التي ألفت فيها كتب وعلى الدولة أن تتخذ من الإجراءات الإدارية والاقتصادية, ما يحفظ البيئة, ويرمم ما خرب منها, ويصلح ما فسد, إلى جوار الإجراءات الوقائية, التي تمنع الفساد قبل وقوعه, إضافة إلى عقوبة من يعتدي على أي مكون من مكونات البيئة بأي صورة من الصور: بالتلويث أو بالإسراف في الاستهلاك, أو بالإخلال بالتوازن, أو غير ذلك من أشكال الإفساد في الأرض. ومن المعروف فقها: أن العقوبات نوعان: نصية كالحدود, واجتهادية كالتعزير, وهو عقوبة على كل معصية لا حد فيها ولا كفارة, ولا شك أن منها قضايا العدوان على البيئة. وعلى أولي الأمر الشرعيين واجبات كثيرة نحو حماية البيئة وتنميتها وإلزام الأفراد والشركات والمؤسسات بواجبهم نحوها, وإلزامهم بإزالة الأضرار الناشئة عن أعمالهم, وإصلاح المواقع التي تسببوا في تدهورها, ودفع تعويضات عن الأضرار التي يحدثونها في الطبيعة ولا يمكن إزالتها أو معالجتها. وعلى أولي الأمر كذلك إيقاف المشروعات المضرة بالبيئة, وإن كان فيها بعض النفع لأن العبرة بالأغلب فما كان إثمه أكبر من نفعه فهو محرم, وعليهم عقاب كل من يتعدى أو يقصر في تنفيذ العقود المتعلقة بالبيئة, لأن من أمن العقوبة أساء الأدب.

التعاون مع المؤسسات الإقليمية والعالمية

والوسيلة الخامسة هي: التعاون مع الجماعات والمؤسسات الأهلية والرسمية الإقليمية والدولية للحفاظ على البيئة, ومقاومة كل ما يهددها من الاستنزاف والتلوث والإفساد, والإخلال بالتوازن الطبيعي والكوني, وهو ما دعا أحد الباحثين أن يؤلف كتابا جعل عنوانه: (يا سكان الأرض اتحدوا) أي ضد الأخطار الكبرى التي تنذر البشرية بشر مستطير إذا لم يتداركهم الله برحمته ويسارعوا إلى العمل معا لسد الخلل, وترميم الخراب, وإصلاح الفساد ويد الله مع الجماعة. ولقد خاطب الله الناس جميعاً بقوله: (إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا) فاطر:6 , فعندنا يكون العدو واحدا, يجب أن يتحد الموقف ضده, وشيطاننا اليوم يتمثل في الذين يفسدون البيئة, ويخربونها بقصد أم بغير قصد, فهم أعداء الإنسانية جميعا, وعلينا أن نجند كل القوى لمقاومتهم, وردهم إلى رشدهم.

إلى أعلى