مقدمة

في بداية المحاضرة انتهز د. القرضاوي فرصة شهر رمضان ليهنئ الحضور بالشهر الفضيل وقال: إن شهر رمضان هو شهر القرآن كان النبي صلى الله عليه وسلم يتدارس فيه القرآن مع جبريل أمين الوحي، ينـزل عليه في كل رمضان كما روى ابن عباس فيدارسه القرآن، وقال: ليس المهم أن نتلو القرآن ولكن المهم التدارس وجاء في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام مسلم أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله ليتلون كتاب الله تعالى ويتدارسونه بينهم إلا غشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله في ملأ عنده" ودعا المسلمين لتلاوة كتاب الله ومدارسته بينهم في ليالي شهر رمضان المبارك.

وذكر فضيلته أن القرآن نور تهتدي به العقول والقلوب ودستور ينظم حياة الجماعات والشعوب أنزله الله نوراً كما جاء في قوله تعالى: (يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً) وقال عز وجل: (فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا) وقال عن الصحابة (واتبعوا النور الذي أنزل معه) وقال: (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين * يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه).
واستشهد بقول الرافعي أديب العربية: هو نور من الكلام وكلام من النور.
ويقول البوصيري:

الله أكبـر إن ديـن محمـــد  **  وكتابه أقوى وأقوم قيـلا

لا تذكروا الكتب والسوالف عنده  **  طلع الصباح فأطفأ القنديلا

جواب على الأسئلة الخالدة

وتابع فضيلته قائلاً: إن الله أنزل القرآن إلينا لتهتدي به عقولنا وقلوبنا وليجيب على الأسئلة الخالدة التي حيرت الإنسان من قديم منذ بدأ يفكر في أمر نفسه وأمر مصيره وهي: من أين جئت؟ وإلى أين سأذهب؟ ولماذا جئت؟ ولماذا أعيش بين الحياة والموت؟
واستعرض د. القرضاوي إجابات القرآن على تلك الأسئلة التي حيرت الإنسان من قديم فقال: "أما من أين جئت فقد جاء بك الله الذي خلقك (يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم * الذي خلقك فسواك فعدلك * في أي صورة ما شاء ركبك).
وأول ما نزل من القرآن قوله تعالى (اقرأ باسم ربك الذي خلق) فالخالقية لله والإنسان مطالب بأن يؤمن بأن هناك رباً خالقه.
وأما إلى أين؟ فجوابه: إلى الخلود والإنسان لم يخلَق ليعيش أياماً وسنوات ثم ينتهي كما يقول الماديون إن هي إلا أرحام تدفع وأرض تبلع ولا شيء بعد ذلك "نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر".
القرآن يقول للإنسان أنك خلقت للأبد وإنما تنتقل بالموت من دار إلى دار، فالموت ليس نهاية المطاف وإنما هو بداية رحلة جديدة ولذلك قال عز وجل (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً).
وأما سؤال لماذا خلقت؟ وما هو هدف الحياة فالجواب عليه: إن الإنسان مخلوق لمهمة وضحها القرآن هي في ثلاثة أهداف:
-عبادة الله (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون).
-خلافة الله في الأرض (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة).
-عمارة الأرض (هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها) أي طلب منكم أن تعمروا الأرض.
وأوضح الشيخ القرضاوي أن الأهداف التي خلق الله الإنسان من أجلها أهداف متكاملة ومتلازمة، فالإنسان بعمارة الأرض يقوم بحق الخلافة وهو بالعمارة والخلافة يقوم بحق العبادة لله وتلك كلها عبادة الله في الأرض. وقال أن القرآن بإجاباته الصريحة عن الأسئلة الخالدة في حياة الإنسان صنع للإنسان عقله المؤمن الذي لا يحتار ولا يضل سبيلا .. يعرف غايته ويعرف طريقه، بعيداً عن حيرة الماديين وريبة وشك الملحدين الذين لا يعرفون لحياتهم هدفاً ولا غاية ولا طريقاً. وأشار فضيلته إلى أن القرآن يبني عقيدة الإنسان على أساس عقلاني يقيني صحيح لا على هوى ولا على تقليد أعمى.

دستور إلهي

وانتقل د. القرضاوي إلى الحديث عن القرآن كدستور ينظم حياة الجماعات والشعوب فقال: إن القرآن جاء لينظم علاقة الإنسان بخالقه وعلاقة الإنسان بمجتمعه ودولته وعلاقة المجتمعات بعضها ببعض وعلاقة الدولة الإسلامية بغيرها من الدول والأمم.
واستعرض فضيلته الخصائص التي ميزت القرآن كدستور إلهي عن غيره من الدساتير الوضعية المؤقتة فقال: إن القرآن دستور شامل يبين كل شيء قال تعالى: (ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين) فهو يبين كل شيء بعلم وحكمة وقدرة رب كل شيء.
وأوضح أن كون القرآن تبياناً لكل شيء لا يعني أنه يفصل الجزئيات ولكنه يضع القواعد الكلية والأحكام الأساسية التي تحتاج إليها الحياة ويفتقر إليها الفرد وتفتقر إليها الجماعة وتحتاج إليها الإنسانية.
وتأتي الخصائص التي تميز القرآن هي اليسر والإبانة فهو كتاب مبين (تلك آيات القرآن وكتاب مبين) ولكي يكون القرآن ذا بيان ووضوح يسره الله عز وجل للفهم والحفظ قال تعالى: (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر).
واستطرد الشيخ في بيان مظاهر تيسير القرآن في الفهم والحفظ فأشار إلى أنه لا يوجد كتاب في الدنيا يحفظه الملايين كما هو الحال مع القرآن، فالأناجيل لا يحفظها أحد حتى أكبر علماء المسيحية وقساوستها، والدساتير الوضعية لا يحفظها أحد، في حين يحفظ أطفال المسلمين القرآن الكريم رغم اختلاف ألسنتهم عرباً وعجماً.
والخصيصة الثالثة للقرآن كدستور إلهي إنه يمثل العدل المطلق عدل الله في أرض الله على عباد الله لم يضع طبقة معينة لتتحيز ضد طبقة لم يضعه الأغنياء ليتحيزوا ضد الفقراء ولم يضعه الرجال ليتحيزوا ضد النساء، ولم يضعه البيض لينتصروا على السود ولم يضعه الأقوياء ليبطشوا بالضعفاء وإنما وضعه رب الناس ملك الناس فكان يمثل العدل الإلهي.
وفي معرض حديثه عن عدل القرآن ذكر الشيخ القرضاوي أن ذلك العدل جاء للمسلمين ولغير المسلمين وأشار إلى أن 9 آيات نزلت من السماء لتنصف يهوديا اتهمته جماعة من المسلمين ظلماً بالسرقة وكاد النبي صلى الله عليه وسلم أن يحكم ضده فنـزل قول الله تعالى (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيماً ..) إلى آخر الآيات.
وقارن بين عدل الله وعدل البشر فقال: إن العدل الإلهي مطلق لا ينحاز لأحد وعدل البشرية نسبي تحكمه الأهواء والميول والرغبات فتخرجه عن العدل.
وآخر خصائص القرآن التي تحدث عنها د. القرضاوي هي: العموم والخلود والأبدية وفي ذلك المعنى أكد فضيلته أن القرآن دستور خالد ليس دستوراً لعام أو عامين ولا لقرن أو قرنين ولكنه دستور الأبد جاء للبشر في كل زمان ومكان، وهو رحمة للعالمين من حيث الامتداد المكاني وهو خالد من حيث الامتداد الزماني.
وقال: إن القرآن رسالة امتدت طولاً حتى شملت الزمن وامتدت عرضاً حتى انتظمت آفاق الأمم وامتدت عمقاً حتى استوعبت شؤون الدنيا والآخرة.

واجبنا نحو القرآن

وخلص د. القرضاوي مما تقدم إلى أن القرآن دستور أنعم الله به على أمة الإسلام فيجب علينا أن نحمد الله عليه وأن نشكر الله على هذه النعمة والشكر يكون بالعمل بالقرآن والعمل للقرآن وأن نكون من أهل القرآن.
واستطرد فضيلته موضحاً الفرق بين العمل بالقرآن والتبرك به فقال: إن بركة القرآن في اتباعه والعمل به وتلا قوله تعالى (وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون).
وذكر أنه ليس مهماً أن نقرأ القرآن على الأموات ولكن أن يحكم القرآن الأحياء وليس بركة القرآن في أن نعلقه "تميمة" وإنما لنقضي به في المحاكم بين الناس.
وطالب المسلمين بأن يعطوا للقرآن حقه كما أعطته أمتنا في أول أمرها، وقال أن القرآن هو الذي غير أمة العرب من رعاة للغنم إلى سادة للأمم وبوأهم منـزلة الأستاذية للبشرية كلها.