في بيان يعتبر نموذجا لأدب الخلاف بين كبار العلماء أعلن فقيه الصحوة الإسلامية والداعية الإسلامي الكبير د. يوسف القرضاوي أمس رأيه في مقابلة شيخ الأزهر د. محمد سيد طنطاوي للحاخام الإسرائيلي "لاو".

عبر القرضاوي عن مخالفته لشيخ الأزهر فيما حدث وأبدى عجبه وأسفه من ردود الشيخ على من خالفوه، وتمنى لو اتسع صدر د. طنطاوي لمخالفيه من المسلمين، كما اتسع صدره لمقابلة الحاخام اليهودي.

وأكد أنه يختلف مع شيخ الأزهر في الرأي والمنهج والأسلوب ولكن لا يقبل المساس بشخصه أو بقدره بكلمة أو صورة تخرج عن أدب احترام العلماء.

وعلق فضيلته على ما قاله شيخ الأزهر في قناة الجزيرة من أن لقاءه بالحاخام اليهودي كان حوارا بين مسلم ويهودي وقال أن النزاع مع اليهود سياسي لا ديني وأنه لا معنى للحوار بين شيخ وحاخام. جاء ذلك في أول تعليق لـ د. القرضاوي على المقابلة التي أثارت ردود فعل واسعة في أوساط العلماء والمفكرين وجمهور المسلمين طوال الأسبوعين الماضيين. وفيما يلي نص البيان الذي أصدره فضيلة د. القرضاوي:

كنت في رحلة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ولقيت أعدادا من المسلمين هناك في مؤتمرات ومحاضرات، وفي كل منها ووجهت بسؤال من المستمعين يقول: ما رأيك في مقابلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر لحاخام إسرائيل الأعظم؟ ولم أجب عن هذا السؤال بشيء، لأني لا أعلم ماذا حدث بالضبط، والمفتي إذا استفتي في واقعة معينة يجب أن يحيط بتفاصيلها، حتى تكون فتواه صحيحة، وهذا هو الذي يميز بين الفتوى في واقعة خاصة وتقرير الحكم النظري في كتاب يصنف.

ولما عدت إلى الدوحة من رحلتي بدأت اقرأ بعض ما كتب عن هذه المقابلة التاريخية التي أحدثت ضجة هائلة في العالم العربي والإسلامي، والتي يرى فيها الكثيرون من أهل الفكر والعلم أن الصهاينة استطاعوا أن يغزوا الأزهر ـ معقل الإسلام في عقر داره، في الوقت الذي تجمع كل قوى الأمة الإسلامية والوطنية على رفض (التطبيع) الذي تدعو إليه إسرائيل وتحرص عليه، وتجهد كل جهدها في جعله حقيقة واقعة.

وحين قرأت ما قرأت عن هذه المقابلة، وخصوصا ما كتبه أخي الباحث المدقق الدكتور محمد سليم العوا وردود الإمام الأكبر على تساؤلات الناس وانتقاداتهم من شتى الاتجاهات، عجبت وأسفت، وحين شاهدت وسمعت لقاء شيخ الأزهر مع مندوب قناة الجزيرة في قطر الدكتور فيصل القاسم ازددت عجبا وأسفا!

فالقضية من الوضوح بمكان، ولكن حين يلبس الشيطان على الناس، تشتبه عليهم الدروب، يغيب الحق الأبلج، وينطق الباطل اللجلج.

أدب الخلاف

وأود أن أنبه أن بيني وبين الإمام الأكبر الشيخ طنطاوي مودة قديمة يعرفها، وليس بيني وبينه من الناحية الشخصية أي شيء، إنما هو خلاف في الرأي والمنهج والأسلوب، وقد رددت عليه من قبل في موقفه من الربا وفوائد البنوك.

ورغم إني أخالف الشيخ هنا وقد خالفته من قبل في قضية الربا فإني لا أقبل أن يمس شخصه أو ينال من قدره، بكلمة نابية، أو صورة (كاريكاتيرية) خارجة عن الأدب الشرعي الواجب في حق علمائنا، ولا سيما أنه يتبوأ أكبر وأعرق منصب علمي وديني في العالم الإسلامي. وقد تعلمنا من أدب النبوة: ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويوقر كبيرنا، ويعرف لعالمنا حقه.

وكنت أود من الشيخ الذي اتسع صدره لمقابلة حاخام إسرائيل التي هي العدو الأكبر للمسلمين، أن يتسع صدره لمخالفيه، ولا يوسعهم ذما وشتما، ويصفهم بأقبح الأوصاف من الجبن والعجز والذل والسفه والجهل والسلبية، إلى آخر هذا القاموس، الذي لا يليق بمن كان في منصب الإمام الأكبر أن يستخدمه وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن سب الإنسان والحيوان والجماد وقال: "ما بعثت سبابا ولا لعانا".

ولم يعف من ذلك بعض من سبقوه من شيوخ الأزهر الذين لقوا ربهم وأفضوا إلى ما قدموا فوصفهم بما لا يليق من مثله في مثلهم.

التشكيك في رفض التطبيع

ومن أعجب ما قرأت وسمعت: تشكيك الشيخ فيما أجمعت عليه الأمة من رفض التطبيع وقوله ما معنى التطبيع؟ إنها كلمة "جوفاء" لا معنى لها.

ولم يستطع الأخ فيصل القاسم للأسف أن يشرح له معنى التطبيع الذي تحرص عليه إسرائيل ويرفضه جمهور أمتنا وهو أن تكون العلاقات بيننا وبين إسرائيل ومؤسساتها ورجالها طبيعية كأن ليس بيننا وبينهم مشكلة يزوروننا ونزورهم، ويستقبلوننا ونستقبلهم ويبيعون لنا ونبيع لهم فلا مقاطعة اقتصادية ولا اجتماعية ولا ثقافية وهذا هو السلاح الباقي في أيدينا نحن العرب والمسلمين.

وهم يسعون بكل قوة لكسر هذا الحاجز الحصين بينهم وبين العرب والمسلمين بأي ثمن وبأي صورة، وبأي وسيلة.

ومما يذكر للشعب المصري بالفخر: أنه رفض تطبيع العلاقات مع الصهاينة برغم اتفاقية كامب ديفيد التي عقدتها حكومة الرئيس السادات رحمه الله وكان من بنودها تطبيع العلاقات فكان الإسرائيليون يأتون لزيارة مصر ولكن الشعب المصري لا يذهب إلى إسرائيل ولا يشتري منه ولا يروج لهم شيئا ولا تزال القوى الشعبية من الأحزاب والنقابات مصرة على موقفها المشرف.

أهمية المقاطعة

إن المقاطعة أسلوب فعال، استخدمه الناس قديما وحديثا في مواجهة خصومهم.

وقد عرفنا في تاريخ السيرة النبوية كيف قاطع مشركو قريش النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه، ومن انضم إليهم ـ عصبية ـ من بني هاشم وبني المطلب، مقاطعة اقتصادية واجتماعية وحصروهم في شعب لا يبيعون لهم ولا يبتاعون منهم ولا يزوجونهم ولا يتزوجون منهم وقد كانت هذه المقاطعة من أشد ما نزل بالمسلمين من بلاء ثلاث سنين.

وعرف المسلمون أسلوب المقاطعة بوصفه عقوبة لمن ارتكب ذنبا أو اقترف بدعة أو أساء الأدب حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بمقاطعة الثلاثة الذين خالفوا في غزوة تبوك فكانوا يسلمون على الناس فلا يردون عليهم السلام حتى أقاربهم وألصق الناس بهم إلى أن تاب الله عليهم ونزل فيهم قرآن يصف حالتهم النفسية فقال تعالى: (وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت ضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه) (التوبة: 118).

وألف الحافظ السيوطي رسالة سماها "الزجر بالهجر" ذكر فيها أمثلة عديدة من هذا اللون، فإذا كان هذا بين المسلمين بعضهم وبعض فكيف يكون الأمر بينهم وبين من يعاديهم أو يحاربهم ويتحداهم ويعتدي على مقدساتهم ويغتصب أرضهم ويزداد كل يوم عتوا واستكبارا؟

إن المقاطعة بكل صورها ورفض التطبيع مع القوم سلاح مهم من أسلحة الحرب الطويلة بيننا وبين إسرائيل ينبغي أن نحافظ عليه وأن نبقيه مشحوذا صارما، لا أن نسعى إلى فله وكسره.

من هنا كانت خطورة زيارة الحاخام للإمام الأكبر أنها كسرت الحاجز وفلت السلاح وأضعفت المقاومة الصلبة والمقاطعة الحاسمة.

لا حوار مع اليهود

ولقد قال شيخ الأزهر: ما المانع من لقاء رجل دين برجل دين آخر يهودي أو نصراني للحوار في أمور دينية؟

ونقول للشيخ: أي حوار ديني بيننا وبين القوم هل النزاع القائم بيننا وبينهم نزاع على أمور العقيدة حتى نحاورهم في أمور الألوهية والنبوة والآخرة أو النزاع على قضية أخرى غير العقيدة هي قضية اغتصاب الأرض وتشريد أهلها.