د. يوسف القرضاوي
الحرام في شريعة الإسلام يتسم بالشمول والاطراد، فليس هناك شيء حرام على العجمي حلال للعربي، وليس هناك شيء محظور على الأسود مباح للأبيض، وليس هناك جواز أو ترخيص ممنوح لطبقة أو طائفة من الناس، تقترف باسمه ما طوع لها الهوى، باسم أنهم كهنة أو أحبار أو ملوك أو نبلاء، بل ليس للمسلم خصوصية تجعل الحرام على غيره حلالا له.
كلا، إن الله رب الجميع، والشرع سيد الجميع، فما أحل الله بشريعته فهو حلال للناس كافة، وما حرم فهو حرام على الجميع إلى يوم القيامة. السَّرقة مثلا حرام، سواء أكان السارق مسلما أم غير مسلم، وسواء أكان المسروق منه مسلما أو غير مسلم، والجزاء لازم للسَّارق أيًّا كان نسبه أو مركزه، وهذا ما صنعه الرسول وما أعلنه: "وايم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها"(1) .
ولقد حدث في زمن الرسول أن ارتكبت سرقة حامت فيها الشبهة حول يهودي ومسلم، واستطاع بعض أقرباء المسلم أن يثيروا الغبار حول اليهودي ببعض القرائن، ويبعدوا التهمة عن صاحبهم المسلم ـ وهو في الواقع مرتكب السرقة ـ حتى همَّ النبي أن يخاصم عنه، اعتقادا ببراءته، فنزل الوحي الإلهي يفضح الخونة، ويبرئ اليهودي، ويعاتب الرسول، ويضع الحق في نصابه، وذلك قوله سبحانه: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِن اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106) وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا} (النساء:105 – 109) .
لقد زعمت اليهودية المحرَّفة أن الرِّبا حرام على اليهودي إذا أقرض أخاه اليهودي، أما غير اليهودي فلا بأس بإقراضه بالربا، هكذا يقول سفر تثنية الاشتراع (33: 19) "لا تقرض أخاك بربا فضة أو ربا طعام أو ربا شيء مما يقرض بربا، للأجنبي تقرض بربا، ولكن لأخيك لا تقرض بربا".
وقد حكى القرآن عنهم مثل هذه النزعة، حيث استباحوا الخيانة مع غير أبناء جنسهم وملتهم، ولم يروا في ذلك حرجًا ولا إثما. وفي ذلك يقول القرآن: {وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَامَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (آل عمران:75). نعم يقولون على الله الكذب؛ لأن شريعته لا تفرق بين قوم وقوم، وقد حرم الخيانة على لسان رسله وأنبيائه.
ويؤسفنا أن هذه النزعة الإسرائيلية نزعة همجية بدائية، لا تليق أن تنسب إلى دين سماوي، فإن الأخلاق الفاضلة؛ بل الأخلاق الحقة هي التي تتسم بالإطلاق والشمول، فلا تحل لهذا ما تحرم على ذاك. والفرق بيننا وبين البدائيين إنما هو اتساع الدائرة الخُلُقية، لا في وجودها وعدمها، فالأمانة مثلا كانت عندهم خصلة محمودة، ولكنها خاصة بأبناء القبيلة بعضهم مع بعض، فإذا خرج الأمر عن نطاق القبيلة أو العشيرة جازت الخيانة؛ بل استحبت أو وجبت.
قال صاحب "قصة الحضارة": (إن كل الجماعات البشرية تقريبا تكاد تتفق في عقيدة كل منها بأن سائر الجماعات أحط منها، فالهنود الأمريكيون يعدون أنفسهم شعب الله المختار، خلقهم "الروح الأعظم" خاصة ليكونوا مثالا يرتفع إليه البشر.
وقبيلة من القبائل الهندية تطلق على نفسها (الناس الذين لا ناس سواهم)، وأخرى تطلق على نفسها (الناس بين الناس). وقال الكاربيون: (نحن وحدنا الناس) ... ونتيجة ذلك أن الإنسان البدائي لم يكن يدور في خلده أن يعامل القبائل الأخرى؛ ملتزما نفس القيود الخلقية التي يلتزم في معاملته لبني قبيلته، فهو صراحة يرى أن وظيفة الأخلاق هي تقوية جماعته، وشد أزرها تجاه سائر الجماعات، فالأوامر الخلقية والمحرمات لا تنطبق إلا على أهل قبيلته، أما الآخرون فما لم يكونوا ضيوفه، فمباح له أن يذهب في معاداتهم إلى الحد المستطاع) .
.............
*من كتاب "الحلال والحرام في الإسلام" لفضيلة الشيخ.
(1) متفق عليه: رواه البخاري في فضائل الصحابة (3475)، ومسلم في الحدود (1688)، عن عائشة.