السؤال: ورد في القرآن الكريم والحديث الشريف تحريم الخمر، ولكنه لم يرد فيهما تحريم أنواع مختلفة من المسكرات الجامدة (كالحشيش، والهيروين)، فما حكم الشرع في تعاطى هذه الأشياء، علمًا بأن بعض المسلمين يتناولها بحجة أن الدين لم يحرمها؟
جواب فضيلة الشيخ القرضاوي:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
الحشيش والهيروين وغيرهما من الجامدات والمائعات التي تعرف باسم "المخدرات" هي من الأشياء التي حرمها الشرع بلا خلاف بين علماء المسلمين.
والدليل على حرمتها ما يأتي :
أ - أنها داخلة في مسمَّى "الخمر" بناء على ما قاله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه: "الخمر ما خامر العقل" (متفق عليه موقوفًا على عمر كما في اللؤلؤ والمرجان (1905) ورواه أيضًا أبو داود (3669) والنسائي في الأشربة). أي ما لابسه وغطاه وأخرجه عن طبيعته المميزة الحاكمة. وهذه الأشياء تؤثر في حكم العقل على الأشياء، فيخلط ويخبط ويتصور البعيد قريبًا، والقريب بعيدًا، ومن ثم يقع كثير من حوادث السير نتيجة هذا التأثير.
ب - أنها إن لم تدخل في مسمى "الخمر" أو "السكر" فهي محرمة من جهة أنها "مفتر" فقد روى أبو داود عن أم سلمة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- "نهى عن كل مسكر ومفتر". (أبو داود في كتاب الأشربة 3686). والمفتر: هو ما يحدث في الجسم الفتور والخَدَر. والنهى هنا للتحريم لأنه هو الأصل في النهى، ولأنه قرن بين المسكر - المحرَّم بالإجماع - والمفتر.
جـ - أنها لو لم تدخل في المسكر والمفتر لدخلت في جنس "الخبائث" والمضار ومن المقرر شرعًا: أن التحريم في الإسلام يتبع الخبث والضرر، كما قال تعالى في وصفه لرسوله عليه الصلاة والسلام في كتب أهل الكتاب {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} (الأعراف:157)، وقال صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار" (رواه أحمد وابن ماجة عن ابن عباس، وابن ماجة عن عبادة . وصححوه بمجموع طرقه).
وكل ما أضر بالإنسان تناوله فهو حرام؛ لقوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} (النساء:29)، {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (البقرة:195)، والدليل على ذلك أن الحكومات جميعًا تحارب هذه المخدرات، وتعاقب بأشد العقوبات متناوليها أو مروجيها، حتى الحكومات التي تبيح الخمر والمسكرات، بل إن بعض الدول تعاقب المُتَّجرِين فيها بالإعدام، وهو الحق؛ لأنهم يقتلون الشعوب ليكسبوا الثروة، فهم أحق بالقصاص ممن يقتل فردًا أو فردين!
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى عما يجب على آكل الحشيشة؟ ومن ادعى أن أكلها جائز حلال مباح؟ فأجاب: (أكل هذه الحشيش الصلبة حرام، وهى من أخبث الخبائث المحرمة، وسواء أكل منها قليلاً أو كثيرًا؛ لكن الكثير المسكر منها حرام باتفاق المسلمين، ومن استحل ذلك فهو كافر يستتاب، فإن تاب وإلا قتل كافرًا مرتدًا؛ لا يغسل، ولا يصلى عليه ولا يدفن بين المسلمين.
وحكم المرتد شر من اليهودي والنصراني، سواء اعتقد أن ذلك يحل للعامة أو للخاصة الذين يزعمون أنها لقمة الفكر والذكر، وأنها تحرك العزم الساكن إلى أشرف الأماكن، وأنهم لذلك يستعملونها. وقد كان بعض السلف ظن أن الخمر تباح للخاصة، متأولاً قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ} (المائدة:93).
فلما رُفع أمرهم إلى عمر بن الخطاب وتشاور الصحابة فيهم، اتفق عمر وعلى وغيرهما من علماء الصحابة رضى الله عنهم على أنهم إن أقروا بالتحريم جلدوا، وإن أصروا على الاستحلال قتلوا. وهكذا حشيشة العشب من اعتقد تحريمها وتناولها فإنه يجلد الحد ثمانين سوطًا، أو أربعين. هذا هو الصواب.
وقد توقف بعض الفقهاء في الجلد؛ لأنه ظن أنها مزيلة للعقل، غير مسكرة، كالبنج ونحوه مما يغطى العقل من غير سكر، فإن جميع ذلك حرام باتفاق المسلمين: إن كان مسكرًا ففيه جلد الخمر، وإن لم يكن مسكرًا ففيه التعزير بما دون ذلك. ومن اعتقد حل ذلك كفر وقتل.
والصحيح أن الحشيشة مسكرة كالشراب؛ فإن آكليها ينتشون بها، ويكثرون تناولها، بخلاف البنج وغيره، فإنه لا ينتشى، ولا يشتهى. وقاعدة الشريعة أن ما تشتهيه النفوس من المحرمات كالخمر والزنا ففيه الحد، وما لا تشتهيه كالميتة ففيه التعزير.
"والحشيشة" مما يشتهيها آكلوها ويمتنعون عن تركها ؛ ونصوص التحريم في الكتاب والسنة على ما يتناولها كما يتناول غير ذلك، وإنما ظهر في الناس أكلها قريبًا من نحو ظهور التتار؛ فإنها خرجت، وخرج معها سيف التتار) (مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 34/213، 214). يعنى أن خروج التتار كان عقوبة من الله على ظهور المنكرات في الأمة ومنها هذه الحشيشة الملعونة.
وفى مقام آخر قال: (ومن الناس من يقول: إنها تغير العقل فلا تسكر كالبنج؛ وليس كذلك بل تورث نشوة ولذة وطربًا كالخمر، وهذا هو الداعي إلى تناولها، وقليلها يدعو إلى كثيرها كالشراب المسكر، والمعتاد لها يصعب عليه فطامه عنها أكثر من الخمر؛ فضررها من بعض الوجوه أعظم من الخمر؛ ولهذا قال الفقهاء: إنه يجب فيها الحد، كما يجب في الخمر. وأما قول القائل: إن هذه ما فيها آية ولا حديث: فهذا من جهله؛ فإن القرآن والحديث فيهما كلمات جامعة هي قواعد عامة، وقضايا كلية، تتناول كل ما دخل فيها، فهو مذكور في القرآن والحديث باسمه العام. وإلا فلا يمكن ذكر كل شيء باسمه الخاص). (المصدر السابق ص 206-207)
وبهذا نتبين أن الحشيش والأفيون والهيروين وغيرها من المخدرات - وخصوصًا الأنواع الخطرة والتي يسمونها اليوم السموم البيضاء - محرمة أشد التحريم بإجماع المسلمين، وهى من الكبائر الموبقات، ومتناولها يستحق العقوبة، أما مروجها أو المتاجر بها، فينبغي أن تكون عقوبته الموت؛ لأنه يتاجر بأرواح الأمة من أجل أن يثرى، فهو أولى من ينفذ فيه قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة:179).
وعقوبة التعزير عند المحققين من الفقهاء يمكن أن تصل إلى القتل حسب المفسدة التي يعاقب عليها المجرم.
على أن هؤلاء يكونون عصابات قادرة بمالها ونفوذها على مقاومة كل من يقف في سبيلهم، فهم داخلون في صنف {الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا فسادًا} (المائدة:33).
بل هم في واقع الأمر أشد إجرامًا وإفسادًا من قطاع الطريق، فلا غرو أن يعاقبوا بعقوبتهم {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}. (المائدة:33).