السؤال: من الأشياء التي تخفف من الحوادث.. قضية التخفيف من أعداد حجاج التطوع، والسؤال: أيهما أفضل، حج التطوع أم أن ينفق هذا الراغب في حج التطوع هذا المبلغ لإطعام مسكين أو لإغاثة ملهوف أو في مشروعات الخير والدعوة إلى الله؟

جواب فضيلة الشيخ:

 الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد..

لا يشك عالم يعرف أولويات الإسلام ويعرف ما حقه التقديم وما حقه التأخير؛ الشيء الذي أنادي به منذ سنوات، وهو ما أسميه "فقه الأولويات"، يجب أن نعلم أن الإسلام في تكاليفه ليس على مستوى واحد، هناك مراتب للأعمال، النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث المتفق عليه: "الإيمان بضع وسبعون شعبة: أعلاها: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق"..

إذن هناك أدنى وهناك أعلى، وهناك في الوسط شيء، والله تعالى يقول: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ} (التوبة:19) فالأشياء ليست متساوية، نريد أن نُفَقِّه المسلمين هذا الفقه.

لقد رأيت من قديم ـ وأنا صبي ـ أناسًا يظلمون العمال الذين يعملون عندهم ولا يعطونهم الأجر العادل، ويظلمون المستأجرين الذين يستأجرون أرضهم وعقاراتهم، ورأيت أناسًا من قديم في قريتي فلاحين يشتغلون عند البيه الفلاني أو مستأجرين للأرض، والأرض تأكلها الدودة وهو لا يسامحهم في فلس واحد، ثم يأتي ليحج للمرة الثالثة أو العاشرة أو يذهب العمرة في رجب أو في رمضان، يا أخي أدِّ لهؤلاء حقوقهم أفضل من أن تتطوع بالحج أو بالعمرة!

العلماء قالوا: إن الله لا يقبل النافلة حتى تؤدى الفريضة، ومن شغله الفرض عن النفل فهو معذور، ومن شغله النفل عن الفرض فهو مغرور، فنحن في حاجة إلى هذا الفقه، وقد جاء عن سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، ما نقل عنه الإمام الغزالي في الإحياء أنه قال: في آخر الزمان يكثر الحج بلا سبب، يهون عليهم السفر ويبسط لهم في الرزق فيهوي بأحدهم بعيره بين الرمال والقفار، يضرب في الأرض للحج وجاره إلى جنبه مأسور لا يواسيه.

هذا مع أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: "ليس منا"، وفي رواية: "ليس بمؤمن من بات شبعان وجاره إلى جنبه جائع"، فكيف ساغ لهذا أن يذهب للحج الرمال والقفار، تاركًا جاره يأسره الجوع أو الفقر أو الحاجة لا يواسى؟!

جاء رجل إلى بشر بن الحارث الشهير ـ عند المتصوفه والزُهَّاد ـ ببشر الحافي وكان من زُهاد الأمة وربّانيِّيها، جاءه رجل وقال له يا أبا نصر إني أردت الحج وجئتك أستوصيك فهل توصيني بشيء؟ قال له: كم أعددت من النفقة للحج؟ قال: ألفي درهم، وألف درهم في ذلك الوقت مبلغ طائل فالدرهم كان قوة شرائية كبيرة، فقال له: هل تريد الحج تزهُدًا أو اشتياقًا إلى البيت أم ابتغاء مرضاة الله؟ قال: والله ابتغاء مرضاة الله، قال: هل أدُلك على ما تحقق به مرضاة الله وأنت في بلدك ومنزلك؟ إذا دللتك على شيء من هذا تفعل؟ قال: أفعل.

قال: تذهب تعطي هذا المبلغ لعشرة أنفس، فقير ترمِّم فقره، ويتيم تقضي حاجته، ومدين تقضي عنه دينه، ومُعيل تخفِّف عنه أعباء عياله.. وعد له عشرة من الناس وقال: ولو أعطيتها واحدًا تسدُ بها حاجته فهو أفضل، أي تكفيه وتحل مشكلته بالألفي درهم هذه، فقال له: يا أبا نصر السفر في قلبي أقوى، فقال له: إن المال إذا جُمِع من وسخ التجارات والشبهات أبت النفس إلا أن تقضيه في شهوتها!

يعني أن النفس تشتهي أن تروح للحج لمتعتها ولذتها الخاصة، وليس لابتغاء مرضاة الرب، مع أن هناك ما هو أفضل وما هو أنفع للمسلمين، أي أن هناك هوىً خفيًا يدفع النفس إلى هذا النوع من الحج، وهو ما يخشاه المخلصون: أن تضل أعمالهم وهم لا يشعرون.

وأنا أرى هذا من عدم الفقه، يعني لو أن المسلم فقِه أنه حينما يُطعم جائعًا، أو يداوي مريضًا، أو يؤوي مشردًا، أو يكفل يتيمًا، أو يقضي حاجة أرملة، أو يبني مدرسة لمجموعة إسلامية في آسيا أو أفريقيا أو مسجدًا، أو يساهم في مشروع ذي بال، أو يعاون إخوانه المجاهدين في فلسطين أو كشمير، لو عرف أن هذا أفضل عند الله لكان المفروض أن يشعر بالنشوة واللذة الروحية أكثر مما أنه يشعر به حين يحرِم ويطوف بالبيت ويقول "لبيك اللهم لبيك".

فهذا قطعًا للأسف دليل على قصور الفقه، فقه الأولويات، فلو أن المسلمين فقهوا هذا لاستطعنا بالأكثرية التي تذهب للتطوع أن نأخذ مليارات كل سنة، وهذه المليارات لو وُجِدت جهة تنظمها تقول: نريد أن نعمل صندوقًا اسمه صندوق بديل الحج، من يريد ثوابًا أكثر من الحج.

الشيخ بشر الحارث الحافي قال للرجل، لو ذهبت وأعطيتها لعشرة أنفس هذه أفضل من مئة حجة بعد حجة الإسلام، فنحن نريد أن يحدث هذا الوعي في الأمة، لو أن جهة جاءت تنشئ فعلًا: صندوق بدائل الحج، أن الذين لا يريدون أن يحجوا يقولون والله أنا سأدفع عشرة آلاف ريال لصندوق بدائل الحج لمصالح المسلمين في العالم، وبعض الأخوة الذين يحجون حجًا خمسة نجوم بـ20ألفا وبـ30ألفا، هذه المبالغ كلها لو دفعت لسدت مسدًا، سدت ثغرة في حياة المسلمين وفي حاجات المسلمين.