د. يوسف القرضاوي
الثروة التي يستغلها التاجر في تجارته، لا تخلو أن تتخذ صورة أو أكثر من الصور الثلاث الآتية:
1- فإما أن تكون الثروة التجارية في صورة: عروض وبضائع اشتراها التاجر بثمن ما، ولم تُبَع بعد.
2- أو تكون في صورة: نقود حاضرة يحوزها في يده فعلاً، أو تحت تصرفه كالتي يضعها في "البنوك" لحسابه.
3- أو تكون في صورة: ديون له على بعض العملاء أو غيرهم، مما تقتضيه طبيعة التجارة والتعامل، ولا شك أن من هذه الديون ما هو ميئوس منه، ومنها ما هو مرجو الحصول.
ولا ننسى هنا: أن التاجر كما يكون له ديون على الآخرين قلَّما يخلو أن يكون هو أيضًا مدينًا للآخرين.
فكيف يُخرج التاجر المسلم زكاة هذه الثروة بمختلف صورها؟
وللإجابة عن ذلك نذكر هنا بعض ما جاء عن أئمة التابعين في ذلك كما رواها أبو عبيد (صفحة 426) .
قال ميمون بن مهران: إذا حلَت عليك الزكاة فانظر ما كان عندك من نقد أو عرض فقوِّمه قيمة النقد، وما كان من دَيْن في ملآة (الملآة: الغني واليسر فمعنى الكلمة ما كان من دين على غني مليء قادر على الدفع) فاحسبه ثم اطرح منه ما كان عليك من الدَيْن، ثم زكِّ ما بقي.
وقال الحسن البصري: إذا حضر الشهر الذي وقَّت الرجل أن يؤدي فيه زكاته: أدى عن كل مال له (يعني من النقد) وكل ما ابتاع من التجارة، وكل دين إلا ما كان منه ضمارًا لا يرجوه.
وقال إبراهيم النخعي: يقوِّم الرجل متاعه إذا كان للتجارة، إذا حلّت عليه الزكاة فيزكيه مع ماله (الأموال ص426) .
ومن أقوال هؤلاء الأئمة، يتضح لنا: أن على التاجر المسلم -إذا حلَّ موعد الزكاة- أن يضم ماله بعضه إلى بعض، رأس المال والأرباح والمدخرات، والديون المرجوة، فيقوم بجرد تجارته، ويقوِّم قيمة البضائع إلى ما لديه من نقود -سواء أستغلَّها في التجارة أم لم يستغلها-إلى ما له من ديون مرجوة القضاء، غير ميئوس منها، ويُخرج من ذلك كله ربع العُشر (2.5بالمائة)، وأما الدَيْن الذي انقطع الرجاء فيه، فقد رجحنا - من قبل - الرأي القائل بأن لا زكاة فيه، إلا إذا قبضه، فيزكيه لعام واحد (وهذا هو رأي مالك في الديون كلها) بناء على اختيارنا تزكية المال المستفاد عند قبضه إذا بلغ نصابًا، وأما ما عليه من ديون فإنه يطرحها من جملة ماله، ثم يزكّى ما بقي.
التاجر المحتكر والتاجر المدير
هذا هو رأي جمهور الفقهاء، وانفرد مالك عن الجمهور برأي فرَّق فيه بين صنفين من التجار: فالتاجر "المدير" وهو الذي يبيع ويشتري بالسعر الحاضر، ولا ينضبط له وقت في البيع والشراء (كتجار البقالة والخردوات والأقمشة والأدوات وغيرهم من أصحاب الحوانيت والطوَّافين بالسلع) (انظر بلغة السالك: 1/224، ونقل الصاوي في الحاشية عن ابن عاشر: الظاهر أن أرباب الصنائع، كالحاكة والدباغين مديرون وقد نص في المدونة على أن أصحاب الأسفار الذين يجهزون الأمتعة إلى البلدان مديرون ...المرجع نفسه ص 224-225) يرى مالك مع الجمهور: أن يزكّى عروضه وسلعه على رأس كل حول وإن خالف في اشتراط النصاب في أول الحول كما ذكرنا قبل.
وأما التاجر الآخر وهو الذي يشتري السلعة ويتربص بها رجاء ارتفاع السعر ويسميه "المحتكر" كالذين يشترون العقار وأراضى البناء ونحوها، ويتربصون بها مدة من الزمن، ويرصدون الأسواق، حتى ترتفع أسعارها، فيبيعوا، فيرى مالك: أن الزكاة لا يتكرر وجوبها عليه بتكرار الأعوام، بل إذا باع السلعة زكّاها لسنة واحدة، وإن بقيت عنده أعوامًا.
ويحسن أن أسوق عبارة ابن رشد التي ذكرها في بيان مذهبه، قال: "إن مالكًا قال: إذا باع العرض: زكّاه لسنة واحدة، كالحال في الدَّيْن، وذلك عنده -أي مالك- في التاجر الذي تنضبط له أوقات شراء عروضه، وأما الذين لا ينضبط لهم وقت ما يبيعونه ويشترونه، وهم الذين يخصون باسم "المدير" فحكم هؤلاء -عند مالك- إذا حال عليهم الحول من يوم ابتداء تجارتهم: أن يقوم ما بيده من عروض، ثم يضم إلى ذلك ما بيده من العَيْن (النقود) وما له من الدَّيْن الذي يرتجي قبضه -إن لم يكن عليه دَيْن مثله- وذلك بخلاف قوله في دَيْن غير المدير، فإذا بلغ ما اجتمع عنده من ذلك نصابًا: أدى زكاته (اشترط بعض المالكية -بل هو المشهور في المذهب- أن ينص للتاجر مقدار من النقود ولو درهمًا في أي وقت من السنة وروى بعضهم عدم الاشتراط ...انظر شرح الرسالة للعلاَّمة زروق:1/325، والمراد بالنص: بيع المتاع بنقد) .
"وقال الجمهور (الشافعي وأبو حنيفة وأحمد والثوري والأوزاعي وغيرهم): المدير وغير المدير حكمها واحد، وأنه من اشترى عرضًا للتجارة فحال عليه الحول قوَّمه وزكّاه" (بداية المجتهد لابن رشد: 1/260-261- طبع الاستقامة بالقاهرة).
وقد عقب ابن رشد على رأي مالك بقوله: "وهذا بأن يكون شرعًا زائدًا أشبه منه بأن يكون شرعًا مستنبطًا من شرع ثابت، ومثل هذا هو الذي يعرِّفونه بالقياس المرسل، وهو الذي لا يستند إلى أصل منصوص عليه في الشرع، إلا ما يعقل من المصلحة الشرعية فيه، ومالك -رحمه الله- يعتبر المصالح، وإن لم تستند إلى أصول منصوص عليها".
واختلف قول المالكية في التاجر المدير إذا بارت سلعته وكسدت بضاعته: هل يصير محتكرا، فلا يزكّى إلا ما باعه بالفعل، أم يظل مديرًا، فيقوِّم عروضه كل عام ويزكيها، قال سحنون: يصير محتكرًا، خلافًا لابن القاسم، وبماذا يُحد البوار؟ هل يُحد بعامين أو بالعُرف؟ قولان، لسحنون وعبد الملك (انظر: شرح الرسالة... المرجع السابق).
والحق أن رأي الجمهور، أقوى دليلاً من رأي مالك، فإن الاعتبار الذي قام على أساسه إيجاب الزكاة في عُروض التجارة: أنها مال مرصد للنماء مثل النقود، سواء أنمت بالفعل أم لم تنم، بل سواء ربحت أم خسرت؛ والتاجر -مديرًا كان أو غير مدير- قد مَلَك نصابًا ناميًا فوجب أن يزكِّيه.
ومع هذا؛ قد يكون لرأي مالك وسحنون مجال يؤخذ به فيه، وذلك في أحوال الكساد والبوار، الذي يصيب بعض السلع في بعض السنين، حتى لتمر الأعوام، ولا يباع منها إلا القليل، فمن التيسير والتخفيف على مَن هذه حاله ألا تؤخذ منه الزكاة إلا عما يبيعه فعلاً، على أن يُعفى عما مضى عليه من أعوام الكساد، وذلك لأن ما أصابه ليس باختياره ولا من صنع يده.
العروض الثابتة لا تزكى
والمعتبر في رأس مال التجارة الذي يجب تزكيته: هو المال السائل، أو رأس المال المتداول، أما المباني والأثاث الثابت للمحلات التجارية ونحوه مما لا يُباع ولا يحرك: فلا يُحتسب عند التقويم، ولا تُخْرَج عنه الزكاة، فقد ذكر الفقهاء: أن المراد بعرض التجارة هو ما يُعد للبيع والشراء لأجل الربح (مطالب أولي النهى: 2/96) بدليل حديث سمرة الذي ذكرناه في أول هذا الفصل: "كان صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نخرج الصدقة مما نعده للبيع".
ولهذا قالوا: لا تقوَّم الأواني التي توضع فيها سلع التجارة ولا الأقفاص والموازين، ولا الآلات، كالمنوال، والمنشار، والقدوم، والمحراث، ولا دولاب العمل اللازم للتجارة؛ لبقاء عينها فأشبهت عروض القنية (المصدر نفسه وانظر فتح القدير: 1/527، وبلغة السالك: 1/235، وشرح الأزهار:1/479-480) أي الممتلكات الشخصية التي لا تُعد للنماء.
وفصَّل بعضهم فقالوا: في الأواني التي توضع فيها عروض التجارة كقوارير العطارين، والغرائر والأكياس التي يستعملها تاجر الحبوب، والسُرج واللُّجم التي يستعملها تاجر الخيل، ونحوها -إن أريد بيعها مع هذه الأشياء فهي مال تجارة تقوَّم معها، وإن لم يرد بيعها -بل تباع العروض وتبقى هي للاستعمال- فلا تقوَّم، شأنها شأن العروض المقتناة (مطالب أولي النهى:2/96) .
بأي سعر تُقوَّم سلع التجارة عند إخراج الزكاة
وبعد طرح الأثاث الثابت ونحوه، مما لا يُعَد للبيع، يجب تقويم السلع والبضائع التي حال عليها الحَوْل، ووجبت فيها الزكاة.
ولكن بأي سعر يقوِّمها التاجر، أو المصَدِّق إذا كانت الحكومة الإسلامية هي التي تأخذ الزكاة؟
(أ) المشهور: أن تقوَّم بالسعر الحالي الذي تباع به السلعة في السوق عند وجوب الزكاة بها، وقد جاء عن جابر بن زيد من التابعين في عرض يراد به التجارة: قوِّمه بنحو من ثمنه يوم حلّت فيه الزكاة، ثم أخْرِج زكاته (الأموال ص426) وهذا قول معظم الفقهاء.
(ب) وكان ابن عباس يقول: لا بأس بالتربص حتى يبيع، والزكاة واجبة عليه (المصدر نفسه) ، والمقصود بالتربص هو الانتظار حتى يتم البيع فعلاً، للتأكد من أن التقويم يتم على أساس السعر الحقيقي الذي تباع به السلعة.
(ج) وذكر ابن رشد: أن بعض الفقهاء قالوا: يزكي الثمن الذي اشترى به السلعة لا قيمتها (بداية المجتهد:1/260) ولم يُسمِّ ابن رشد من قال بهذا ولا دليله.
ولا يخلو الأمر من حالتين: إما هبوط الأسعار، فيتضرر التاجر من تقويم السلع بثمن ما اشتُريت به، وإما أن ترتفع، فتؤخذ الزكاة -على هذا القول- من رأس المال، دون الربح.
والمعهود في الزكاة أنها تؤخذ من رأس المال ونمائه معًا، كما في زكاة المواشي.؛ ولهذا كان القول الراجح هو ما عليه الجمهور، من تقويم السلعة عند الحول بسعر السوق، والمراد: سعر الجملة؛ لأنه الذي يمكن أن تباع به عند الحاجة بيسر فيما أرى.
هل يخرج التاجر زكاته من عَيْن السلعة أم من قيمتها؟
بعد تقويم السلع التجارية، كما ذكرنا، بقي أن نعرف: مم يخرج التاجر زكاته؟ هل يجوز أن يخرجها جزءًا من البضاعة التي عنده، أم يخرجها نقودًا بقيمة الواجب؟
في ذلك عدة أقوال:
فيرى أبو حنيفة والشافعي -في أحد أقواله-: أن التاجر مُخيَّر بين إخراج الزكاة من قيمة السلعة، وبين الإخراج من عَيْنها؛ فإذا كان تاجر ثياب يجوز أن يخرج من الثياب نفسها، كما يجوز أن يُخرج من قيمتها نقودًا؛ وذلك أن السلعة تجب فيها الزكاة فجاز إخراجها من عينها، كسائر الأموال (المغني:3/31).
وهناك قول ثان للشافعي: أنه يجب الإخراج من العين، ولا يجوز من القيمة (الروضة النووي:2/273).
وقال المزني : إن زكاة العروض من أعيانها لا من أثمانها (بداية المجتهد: 2 / 260).
وقال أحمد والشافعي -في القول الآخر- بوجوب إخراج الزكاة من قيمة السلع لا من عينها؛ لأن النصاب في التجارة معتبر بالقيمة، فكانت الزكاة منها كالعَيْن في سائر الأموال (المغني:2/31، والروضة -المرجع المذكور). قال في المغني: ولا نسلِّم أن الزكاة وجبت في المال، وإنما وجبت في قيمته (المغني - المرجع نفسه).
وهذا الرأي الأخير هو الذي أرجحه نظرًا لمصلحة الفقير، فإنه يستطيع بالقيمة أن يشترى ما يلزم له، أما عَيْن السلعة فقد لا تنفعه، فقد يكون في غنى عنها، فيحتاج إلى بيعها بثمن بخس، وهذا الرأي هو المتبع، إذا كانت الحكومة هي التي تجمع الزكاة وتصرفها؛ لأن ذلك هو الأليق والأيسر.
ويمكن العمل بالرأي الأول في حال واحدة بصفة استثنائية: أن يكون التاجر هو الذي يخرج زكاته بنفسه، ويعلم أن الفقير في حاجة إلى عَيْن السلعة، فقد تحققت منفعته بها، والمسألة دائرة على اعتبار المصلحة وليس فيها نص.
وبعد أن رجَّحتُ هذا رأيت لشيخ الإسلام ابن تيمية في فتاواه ما يؤيد هذا الترجيح؛ فقد سئل عن التاجر: هل يجوز أن يخرج قيمة ما وجب عليه من بعض الأصناف عنده؟ فذكر في الجواب عن ذلك أقوالاً:
1 - يجوز مطلقًا.
2 - لا يجوز مطلقا.
3- يجوز في بعض الصور للحاجة أو المصلحة الراجحة.
قال: وهذا القول هو أعدل الأقوال؛ فإن كان آخذ الزكاة يريد أن يشتري بها كسوة، فاشترى رب المال له بها كسوة وأعطاه، فقد أحسن إليه وأما إذا قوَّم هو الثياب التي عنده وأعطاها، فقد يقوٍّمها بأكثر من السعر، وقد يأخذ الثياب مَن لا يحتاج إليها، بل يبيعها، فيغرم أجرة المنادي (الدلال) وربما خسرت فيكون في ذلك ضرر على الفقراء" (فتاوى ابن تيمية:1/299) .
........................
* عن كتاب فقه الزكاة - الجزء الأول لفضيلة العلامة، ربيع الآخر سنة 1406 هـ ديسمبر سنة 1985م، الطبعة 16، وهذا الكتاب عمل على تجميع ما تبعثر عن (الزكاة ) في المصادر الأصلية، محاولا تمحيص ما ورد فيها من خلافات كثيرة بغية الوصول إلى أرجح الآرآء وفق الأدلة الشرعية وعلى ضوء حاجة المسلمين ومصلحتهم في هذا العصر، ومحاولة إبداء الرأي فيما جد من مسائل وأحداث متعلقة بالموضوع، وتصحيح ما شاع من أفكار خاطئة حول الزكاة، وقد ترجم هذا الكتاب لعدة لغات إسلامية وعالمية.