السؤال: إن يوم الجمعة أفـضل أيام الأسبوع ـ ما في ذلك شك ـ وفيه فرضت الصلاة "جماعة" وقت الظهر. ولبيان هذا الفـضل، ورفع شأنه، وتخليد ذكره، سميت السورة الثانية والستون من القرآن باسمه" سورة الجمعة ". كما ورد في السنة النبوية أحاديث كثيرة ـ في الصحيحين وغيرهما ـ تؤكد هذا الفـضل، وتشيعه، وتشيد به.
ولما ليوم الجمعة من فـضل، جند إبليس اللعين جنده، ليوسوسوا للناس ـ عامتهم وخاصتهم ـ ويلبسوا عليهم أمورهم، ويزينوا لهم وضع أشياء، وعبادات، في مكان عبادات أخرى شرعت يوم الجمعة، وقد فعلوا ـ عن غفلة ـ وبذلك قد دخلوا تحت مـضمون الآية الكريمة الواردة في سورة الكهف برقم: 401 .
وهل يجوز القول ـ على سبيل الاستئناس: إذا كان يوم الجمعة أكثر الأيام تعرضًا للبدع، فإن أكثر الناس تعرضًا للبلاء: الأنبياء والرسل؟
إن البدع التي أحدثها الناس يوم الجمعة، أصلها ـ في الحقيقة ـ عبادات، يتقرب بها إلى الله تعالى ـ ولا خلاف في ذلك ـ وما صارت "بدعًا" إلا لكونها وضعت في غير موضعها زمانًا، ومكانًا... ومثال ذلك:
أولاً: قراءة القرآن الكريم بمكبر الصوت، الذي يـضبط في آخر درجة القوة، وقد صار ـ وبهذه الصورة ـ من شعارات الجمعة، إن لم أقل من سننها، مع أن رفع الصوت بالقراءة في المسجد غير جائز لوجود الـضرر...
ثانيًا: درس الوعـظ والإرشـاد قبيل الخطبتين، فإنه ـ وإن كان عبادة، ومفيدًا ـ فإنه ليس بمشروع في هذا الوقت، إذ الوقت: وقت نافـلة، وتـلاوة، وذكر، وصلاة على نبي الرحمة... ثم إن السلف الصالح ـ المشهود لهم بالفلاح والصلاح ـ لم يفعلوه، مع وجود المقتـضي لفعله، وهم من هم: أفقه بالحال، وأعرف بالمقال، فما يسعنا إلا الاقتداء بهم، واتباعهم فيما فعلوه، وفيما تركوه...
ثالثًا: بدع كثيرة، أحدثها الناس يوم الجمعة، ذكر بعـضها العلامة ابن الحاج في كتابه "المدخل" الجزء الثاني من صفحة 302 إلى صفحة 282، منها ما يوجد في كل المساجد على مستوى المعمورة بصفة عامة، ومنها ما يوجد في جلها، ومنها ما يوجد في هذا، ولا يوجد في غيره.. ولا يوجد مسجد سالم من البدع...
رابعًا: أما البدعة "الجديدة" التي أضيفت إلى هذه "البدع" ـ بدون ترحيب ـ فقد انفردت بها الجزائر، وفي عاصمتها ـ البيـضاء ـ ولدت، وأزعم أن الذي يئدها لا يسأل ـ وأيم الله ـ بأي ذنب قتلت، بل يثاب يوم تجزي كل نفس بما كسبت، ويسر يوم تبيض وجوه، وتسود وجوه، وهي " عبارة عن خطبة ثالثة في شكل" بلاغ في صفحتين اثنتين من الحجم الكبير !
ذلك ما وقع بمسجد عبد الحميد بن باديس في بلدية الجزائر الوسطى بالعاصمة، يوم فاتح سبتمبر 1989م فقد وقـع الإعلان عن هــذا البلاغ ـ الذي اسميه خطبة ثالثة ـ بعد فراغ الواعظ من الدرس، حيث أخذ أحدهم" مكبر الصوت" وتوجه إلى المصلين قائلاً: أيها المؤمنون، لا تنفـضوا بعد الصلاة، والزموا مواضعكم، فإن "بلاغًا" سيلقي على مسامعكم! وفعلا ألقى هذا البلاغ، وهو وإن كانت له قيمته، ليس هذا محله، وإنما محله:
ـ في غير هذا الوقت من يوم الجمعة .
ـ ومحله الطبيعي: الصحف، والمجلات، والندوات ...
ـ وأيـضًا: يسلم لأهل الشأن، الذين بيدهم الحل والعقد، كوزارتي : التعليم العالي، والتربية والتكوين... مثلاً: يسلمه وفد يتكون من شخصيات بارزة..
هــذا، ولا يفوتني أن أؤكـد : أني مـع مـضمـون " البلاغ " مائة في المائة، ولكن أعلن ــ بقوة ــ معارضتي للطريقة التي تم التبليغ بها... محافظة على ما درج عليه السلف الصالح.
والذي يراجع" سورة الجمعة يجد آية من آياتها، ترشد المصلين إلى الانصراف فور انقـضاء الصلاة مباشرة، ولا يمكثون في المسجد، ولو للنافلة، ومن أراد" الراتبة " ففي بيته!
كما لا يفوتني ـ أيـضًا ـ القول: إن الغالب على ظني، أن ما وقع كان عن " غفلة " والعلماء يؤتون من هذا الباب، وجل من لا يخطئ.
ألا توافقونني أن هذه بدعة تستوجب المقارنة والإنكار؟؟
جواب فضيلة الشيخ:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، (وبعد)
ليست البدعة يا أخي كل ما استحدث بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بإطلاق، فقد استحدث المسلمون أشياء كثيرة لم تكن في عهده صلى الله عليه وسلم، ولم تُعَدّ بدعة، مثل استحداث عثمان أذانًا آخر يوم الجمعة بالزوراء لما كثر الناس، واتسعت المدينة.
ومثل استحداثهم العلوم المختلفة وتدريسها في المساجد، مثل: علم الفقه، وعلم أصول الفقه، وعلم النحو والصرف، وعلوم اللغة والبلاغة، وكلها علوم لم تكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما اقتضاها التطور، وفرضتها الحاجة، ولم تخرج عن مقاصد الشريعة، بل هي لخدمتها وتدور حول محورها .
فما كان من الأعمال في إطار مقاصد الشريعة، لا يعد في البدعة المذمومة، وإن كانت صورته الجزئية لم تعهد في عهد النبوة، إذ لم تكن الحاجة إليه قائمة.
ومن ذلك: إلقاء بيان أو بلاغ للناس في قضية تهمهم بعد الفراغ من صلاة الجمعة، كما كان يفعل الإخوة في مساجد غزة وغيرها من مدن فلسطين في بداية حركة الانتفاضة الإسلامية، حيث كانت بلاغاتهم وبياناتهم ونداءاتهم تنطلق من بيوت الله، وتنادي بها المآذن، ولهذا سميت في أول الأمر: ثورة المساجد.
والمسجد هو محور النشاط في الحياة الإسلامية، وقد كان في عهد النبوة دار الدعوة ومركز الدولة، كما بينت ذلك في كتابي "العبادة في الإسلام". فيه تلقى الدروس والمواعظ، ومنه تنطلق كتائب الجهاد، وفيه يَلقى الرسول صلى الله عليه وسلم الوفود والسفراء، وفيه يعلن النكاح، بل فيه يلعب الحبشة بحرابهم ويؤدون رقصاتهم المعروفة في يوم من أيام الأعياد، والرسول يشجعهم، ويساعد زوجه عائشة حتى تنظر إليهم.
فلم لا يكون المسجد موضوعًا لإلقاء البلاغات الإسلامية، التي لا ينكر الأخ السائل شيئًا من مضمونها، بل يقول: إنه مع المضمون مائة في المائة (100%)؟
وما المانع من إلقاء درس في المسجد بعد الجمعة، لشرح بعض ما جاء في الخطبة مما لم يتسع له وقتها وهو محدود، أو للإجابة عن بعض الأسئلة التي تعن لبعض المصلين في أمور الدين والحياة؟
وأنا شخصيًا ممن أتخذ هذا المنهج من قديم، منذ كنت أخطب الجمعة في جامع الزمالك بالقاهرة في الخمسينيات. فبعد صلاة الجمعة وركعتي السنة، أعقد حلقة للإجابة عن الأسئلة حول الخطبة أو غيرها وكانت حلقة نافعة، شعر الناس بالاستفادة منه، وحرصوا عليها.
ولا زلت أفعل ذلك ما بين حين وآخر في المسجد الذي أصلى فيه بالدوحة، كلما اتسع لي الوقت، وساعدت الصحة والظروف .
وقوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ} (الجمعة: 10)؛ يدل على أن الانتشار وابتغاء الكسب بعد الصلاة أمر جائز ومباح، وليس واجبا، إذ الرأي الصحيح أن الأمر بعد الحظر يقتضي الإباحة ولا يقتضي الوجوب، كما في قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ} (المائدة: 2)، وقوله عن النساء في المحيض : {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} (البقرة: 222)، وهنا كذلك، فقد حرم الله البيع وما في حكمه من ابتغاء الكسب عند النداء ليوم الجمعة، فإذا قضيت الصلاة رفع الحظر، وعاد الأمر كما كان .
والحديث الذي رواه أبو داود والترمذي والنسائي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن تناشد الأشعار في المساجد، وعن البيع والشراء فيه، وأن يتحلق الناس فيه يوم الجمعة قبل الصلاة" وحسنه الترمذي، ذكروا فيه أن التقييد بـ " قبل الصلاة " يدل على جوازه بعدها للعلم والذكر.
وكذلك الدرس قبل الجمعة، قد تدعو إليه الحاجة، أو توجبـه المصلحــة المتوخــاة من ورائه.
ومن ذلك: أن كثيرًا من البلاد غير العربية يخطبون الجمعة فيها باللغة العربية، وجمهور الحاضرين ــ وإن لم يكن كلهم ــ لا يعرفون العربية، فلا يستفيدون من الخطبة شيئًا يذكر، ولهذا تكون في العادة قصيرة موجزة؛ ومن ثم يكملون هذا النقص بدرس باللغة المحلية، قبل الجمعة، يحضره من لا عذر لديه ممن يريد أن يتفقه في دينه .
وقريب من هذا ما يحدث في الجزائر وبعض البلاد في المغرب وإفريقيا، حيث كثير من الخطباء الرسميين لا ينقعون اللغة بخطبهم، ولا ينتظر الناس بعد الصلاة فكان درس الجمعة عوضًا عن ضعف الخطبة، وخصوصًا إذا كان من يلقي الدرس ممن لا يستطيع أن يؤدي الخطبة؛ لأنه غير مستوطن أو نحو ذلك .
طبيعي أن هذا ليس هو الوضع الأمثل، والواجب أن تكون الخطبة كافية شافية، ولكن هذا هو الواقع، وكثيرًا ما نضطر عن النزول من المثل الأعلى إلى الواقع الأدنى، والإسلام يجيز ذلك وفقا لقاعدة الضرورات وأحكامها.
بقي الحديث الذي ذكرناه عن عمرو بن شعيب، والخلاف فيه معروف، ومع تسليمنا بحسنه كما ذكر الترمذي، فهو لا يدل على أكثر من الكراهة، والكراهة تزول بأدنى حاجة أو مصلحة. قال الترمذي: وقد كـره قوم من أهـل العـلم البيع والشراء في المسجد، وبه يقول أحمد وإسحاق.
وقد روي عن بعض أهل العلم من التابعين الرخصة في البيع والشراء في المسجد، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في غير حديث رخصة إنشاد الشعر في المسجد. (الترمذي ـ كتاب الصلاة، حديث رقم 322).
على أنهم بينوا العلة في النهي عن التحلق قبل الصلاة، فذكر صاحب " تحفة الأحـوذي " أنه ربما قطع الصفوف، مع كونهم مأمورين بالتبكير يوم الجمعة والتراص في الصفوف، الأول فالأول، ولأنه يخالف هيئة اجتماع المصلين. (تحفة الأحوذي 2/272 ط، المدني بالقاهرة).
وكذلك ذكر الإمام ابن العربي في "عارضة الأحوذي في شرح الترمذي": أنه إنما نهى عن التحلق يوم الجمعة؛ لأنهم ينبغي لهم أن يكونوا صفوفا يستقبلون الإمام في الخطبة، ويعتدلون خلفه في الصلاة ا.هـ (انظر عارضة الأحوذي 2/119 ط، دار العلوم للجميع بيروت الصورة عن الطبعة المصرية) أي والتحلق ينافي هذا لأنهم يكونون دوائر متعددة، غير متجهة إلى القبلة، ولا متراصة تراص صفوف الصلاة، وهذا غير وضع المصلين، وهم مصطفون مستقبلو القبلة، متهيئون للصلاة عندما يحين وقتها.
وأخذ العلماء من النهي عن التحلق قبل الجمعة، أن التحلق بعدها مشروع ولا حرج فيه، كما نبه على ذلك الإمام الخطابي في "معالم السنن".
والله الموفق والهادي إلى الصواب.