السؤال: صاحب الفضيلة الشيخ يوسف عبد الله القرضاوي ... المحترم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

إننا نتقدم إليكم بطلبنا هذا راجين منكم موافاتنا بالحكم الشرعي في هذه المسألة من مسائل الأحوال الشخصية.

أن رجلاً كان بينه من جهة وبين أبنائه وزوجته من جهة أخرى فجوة بسبب خلافات أسريه استمرت لعدة سنوات نتيجة لتصرفات خاطئة من الأولاد، وإصرارهم عليها دون اهتمام برأيه، ولم يجد من أمهم وهي زوجته ما يعينه على موقفه تجاههم بل كان يجد منها تراخيًا لذلك!

وبدأت الفجوة تزداد فيما بينه وبين زوجته دون أن يؤثر الأمر على حقوقها الشرعية، ثم عرض عليها الخيار بين أمرين: إما أن ينفصلا ويغني الله كلا من سعته، أو أن تبقى في عصمته وكل منهما بعيد عن الآخر ولها كامل حقوقها المادية. فاختارت البقاء في عصمته إلا أن الأمر استمر على الخطأ من قبلهم ولم يجد من أبنائه وزوجته ما يرضيه، وفي الفترة الأخيرة حصل عنده تأزم ومضايقة نفسية نتيجة لتصرفات خاطئة حدثت منهم أخيرًا، وعلى إثر هذه المضايقة وجه إلى أبنائه ثلاث رسائل:

الرسالة الأولى: وجهت إلى أكبر الأبناء سنًا وطالب الأب فيها من أنه أن يخبر أمه بأن ترسل له أي لزوجها رسالة اعتذار عما بدر منها من أخطاء سابقة تجاههه وأن لا تعود إلى مثلها مستقبلاً وتكون هذه الرسالة فيما بينه وبينها وتحت علم أبنائها فقط وفي حالة عدم وصول هذه الرسالة المطلوبة منها في يوم 9 شوال 1415 هـ فهي ليست في عصمته بعد من هذا التاريخ هكذا تحدد اللفظ في رسالته إلى الابن.

وكانت نيته في هذا الأمر كالتالي: ـ

1 ـ الاستجابة لمطلبه دون تراجع.

2 ـ كان ظنه أن الأمر لا محالة سوف يتحقق وأن طلبه مؤكد سوف يستجاب له.

3 ـ إذا لا قدر الله ولم يتحقق مطلبه هذا، كانت نيته لا مانع لديه من وقوع طلقة واحدة فقط ولم ينوِ قطع العلاقة نهائيًا مع الزوجة.

 

أما المطلب الثاني وهو في نفس الرسالة الأولى فقد وجهه إلى أبنائه وطلب منهم أن يرسلوا إليه اعتذار عما بدر منهم في حقه من أخطاء وقد حدد لهم موعدًا معينًا لوصول الرسالة منهم وهو يوم 9 شوال 1415 هـ وقال في حالة عدم وصول الرسالة منكم في يوم 9 شوال فسوف تكون أمكم (وهي زوجته) ليست في عصمتي من بعد هذا التاريخ هكذا كان اللفظ منه في رسالته للابن الأكبر.

وكانت نيته في هذا المطلب كالتالي:

1 ـ الاستجابة منهم لمطلبه هذا دون تراجع.

2 ـ كان ظنه أن طلبه مؤكدًا سوف يتحقق.

3 ـ إذا لا قدر الله ولم يتحقق هذا الطلب فلا مانع لديه من وقوع طلقة واحدة وليس قطع العلاقة نهائيًا مع الزوجة.

أما الرسالة الثانية فقد أرسلها إلى واحد من أبنائه وطلب منه أن يبلغ والدته أن لا تقوم بحضانة ابنه إلا بموافقة الزوج كما طلب منه أيضًا في نفس الرسالة أن لا يدخل بيت أبيه الذي تقيم فيه أمه وإخوانه الصغار لأنه لا يحسن التعامل معهم لمدة معينه إلا بموافقة الزوج (الأب) وفي حالة مخالفة هذين الأمرين وعدم الالتزام بهما فإن أمه وهي زوجته ليست في عصمته من يوم 9 شوال 1415 هـ هكذا كان اللفظ منه.

وكانت نيته في هذا الطلب كالتالي: ـ

1 ـ الاستجابة منهما معًا لمطالبه تلك دون تراجع.

2 ـ كان ظنه أن طلبيه سوف يتحققان بالتأكيد.

3 ـ إذا لا قدر الله ولم يتحقق هذان الطلبان فلا مانع لديه من وقوع طلقة واحدة وليس قطع العلاقة نهائيًا مع الزوجة.

وقد حررت الرسالتين معًا في يوم واحد ووقت واحد في 2 شوال 1415 هـ.

 

أما الرسالة الثالثة فقد وجهت لواحدٍ آخر من أبنائه وتشابهُ تمامًا في مطالبها للرسالة الثانية إلا أنه استخدم كلمة الفسخ عند المخالفة للأمرين معًا وهو دخول البيت وحضانة الأولاد حيث قال عند مخالفة الأمرين وعند عدم الالتزام بهما فإن أمك مفسوخة من عصمتي من تاريخ 8 شوال 1415 هـ علمًا أن هذه الرسالة حررت في يوم 4 شوال 1415 هـ.

وكانت نيته في هذه الرسالة:

1 ـ الاستجابة منهما معًا لمطالبة دون تراجع.

2 ـ كان ظنه أن طلباه سوف يتحققان لا محالة.

3 ـ إذا لا قدر الله ولم يتحقق هذا الطلبان فلا مانع لديه من وقوع طلقة واحدة وليس قطعًا نهائيًا للعلاقة مع الزوجة.

وكانت نيته لجميع المطالب وقوع طلقة واحدة حتى لو تحقق مطلب أو اثنان أو ثلاثة وبقي المطلب الأخير ولم يتحقق فالطلقة لا مانع من وقوعها.

علمًا أنه جاء الموعد المحدد لكل طلب ولكن لم يتحقق أي مطلب من تلك المطالب الأربعة.

 

وقد سبق أن عرضت هذه المسألة على عدة دوائر للإفتاء أفتى فيها من كبار علماء المسلمين إلا أن آرائهم كانت مختلفة كالتالي: ـ

1 ـ من يرى بوقوع طلقات ثلاث بائنات ولا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره وذلك لعدم مجيء الجواب منها ومنهم أي الزوجة والأولاد وقد وقع الشرط فوقع المشروط.

2 ـ من يرى بوقوع طلقتين يحل للزوج المراجعة فيها أثناء العدة وعند انتهائها لا تحل له إلا بعقد جديد يشترط فيه المهر والولي والرضا واستندوا من جانبهم في بيان هذا الحكم على أن الصور التي علّق عليها الطلاق تعود إلى صورتين: ـ

الصورة الأولى: تعليق الطلاق على عدم تقديم الاعتذار من الزوجة والأبناء.

الصورة الثانية: تعليق الطلاق على عدم حضانة أبناء ابنه إلا بإذن الزوج وعندها لم يتحقق المعلق عليه وقع بكل تعليق طلقة واحدة باعتبار نيته التي حددت اللفظ الكنائي ... (ليست في عصمتي ومفسوخة من عصمتي).

3 ـ من يرى بوقوع طلقة واحدة بائنة بينونة صغرى لا يحل للزوج فيها مراجعة زوجته أثناء العدة أو بعدها إلا بعقد جديد بشرط المهر والولي والرضا لأن على المبانة كنايةً لا تقع طلقة بائنة مكنية أخرى.

4 . من يرى أن تكرار الطلاق في وقت واحد يحسب طلقة واحدة ففي هذه المسألة يرون وقوع طلقتين الأولى عن المطالب الثلاثة في يوم 9 شوال 1415 هـ والثانية عن كلمة مفسوخة من عصمتي في يوم 8 شوال 1415 هـ وتعد الطلقتين رجعيتين في هذه الحالة.

فنود من سيادتكم بيان الحكم الشرعي في حكم العلاقة الزوجيه في هذه المسالة بعد الأحوال المذكورة.

كما نود من سيادتكم ثانيًا بيان الحكم الشرعي في هذه المسألة في حالة كون الزوجة لم تبلغ تفصيليًا بشأن ما طلب منها أو أنها بُلغت في البعض دون الآخر من قبل من أرسل لإبلاغها من أبنائها.

وهل يعد اللفظ الكتابي في حكم به مشافهة.

أفيدونا جزاكم الله خيرًا

جواب فضيلة الشيخ:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته... وبعد:

إجابة على الاستفتاء المذكور حول الطلاق المعلق بتلك الصيغة المذكورة في السؤال.

فإن المذهب الذي أعتمده وأدين الله تعالى به، وأفتي به منذ سنين طويلة هو: أن الطلاق المعلق الذي يراد به الحمل على شيء معين، أو المنع منه ليس هو الطلاق الذي شرعه الله تعالى لقطع العلاقة الزوجية بالفراق، عند تعذر الوفاق، وإنما يعامل معاملة اليمين، فإذا لم يحدث ما علق به كان فيه كفارة يمين (إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم).

وهذا هو مذهب بعض السلف الذي رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه الإمام ابن القيم. وهو الذي أختاره وأرجحه، وأرى أنه الأوفق بروح الإسلام. وهو الذي عليه كثير من أهل العلم والفتوى في عصرنا.

والطلاق الذي وقع فيه السؤال من هذا النوع، حيث طلب الزوج في أولى رسائله من أبنائه أو من أكبرهم أن تعتذر أمهم له عما بدر منها برسالة تكتبها إليه، وإلا اعتبرت مطلقة أو على حد تعبيره: ليست في عصمته. كما طلب من أبنائه عامة في نفس الرسالة: أن يعتذروا إليه كتابة في موعد حدد غايته، وإن لم يفعلوا إلى الموعد المذكور تكون أمهم ليست في عصمته.

وفي الرسالة الثانية طلب من أحد أبنائه ألا تقوم والدته بحضانة ابنها إلا بموافقته، كما طلب من الابن ألا يدخل بيت أبيه الذي تقيم فيه أمه وإخوته الصغار، إلا بموافقة الأب لمدة معينة. (مع أن الأب مخطئ في ذلك، لما في هذا المنع من عقوق الأم، وقطع الرحم بين الإخوة، وخصوصًا إذا طالت المدة، والأب مطالب بأن يعين أبناءه على البر والصلة). ووجه مثلها إلى ابن آخر بالأمرين معًا، ورتب على عدم الاستجابة لطلبه: أن الأم تكون في التاريخ المحدد ليست في عصمته، وفي رسالة الابن الآخر: مفسوخة من عصمته. وهذه الكلمات يكنى بها عن الطلاق. فهي ليست من صريح الطلاق، وإنما من كنايته.

وقد أكد السائل أن نيته في هذه الطلبات كلها من أبنائه وزوجته: الاستجابة منهم لمطالبه تلك دون تراجع ـ وأنه كان يعتقد أن طلباته سوف تتحقق بالتأكيد. وإن لم يكن لديه مانع ـ في حالة عدم الاستجابة على فرض وقوعها ـ من وقوع طلقة واحدة.

فالواضح أن الأب كان يضغط بهذه الرسائل ـ وما تتضمنه من صيغ للطلاق الكنائي ـ على أبنائه وعلى زوجته ليستجيبوا لمطالبه، مما يرجح أن طلاقه مقصود منه اليمين، ويؤيد ما ذهب إليه ابن تيمية ومن وافقه: أن فيه كفارة يمين.

والعلماء الذين أفتوا بوقوع هذا الطلاق طلقة أو اثنتين أو ثلاثا، إنما أفتوا بناء على مذاهبهم الفقهية التي التزموها، وكل عالم حر فيما يلتزمه إذا قام لديه الدليل على صحة التزامه. ولكني لا ألتزم إلا ما ألزمني الله تعالى به في كتابه وعلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولم يلزمني الله أن أكون حنفيًا أو مالكيًا أو غيرهما.

وأنا من المضيقين في إيقاع الطلاق، وهو اتجاه الإمام البخاري في صحيحه، وهو الذي تؤيده الأدلة الجزئية والمقاصد الكلية للشريعة.

ويبدو لي أن عليه ثلاث كفارات، بعدد الأيمان التي ذكرها، أو حلف عليها، وهي: اعتذار زوجته وأولاده عما بدر منهم، وعدم حضانة طفله إلا بموافقته، وعدم دخول ابنيه بيت أمهما إلا بإذنه.

هذا وبالله التوفيق.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.