د. يوسف القرضاوي
بحث هذا الموضوع في إحدى الندوات التي تعقدها "المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية" في الكويت، والتي تجمع عادة بين نخبة من علماء الفقه وأخرى من علماء الطب، وبعد البحث والدراسة صدرت الفتوى بأنه يشرع للزوجين أحدهما أو كليهما، أن يستفيدا من إمكانات العلم المتاحة اليوم للمساعدة في تحقيق الإنجاب، بشرط أن يكون "الحيوان المنوي" من الزوج، و"البييضة" من الزوجة، ولا يدخل أي طرف ثالث بينهما، وهو ما عرف عند الناس باسم "أطفال الأنابيب".
فلو كانت النطفة "أي الحيوان المنوي" من رجل غير الزوج، معروف أو مجهول، كان ذلك حراما بلا شك، وكذلك لو كانت "البييضة" من امرأة أخرى غير الزوجة، منع ذلك بلا ريب.
ومثلها لو كانت "البييضة" من الزوجة، ولكن "الرحم" من امرأة أخرى، فهذه الصورة أيضا غير جائزة.
إذ السؤال المحيّر هنا: من تكون هي الأم؟ أهي صاحبة البييضة التي تحمل الخصائص الوراثية "الجينات" أم هي التي عانت من الحمل والطلق والولادة، وهنا على وهن، حملته كرها، ووضعته كرها؟ وحتى ولو كانت المرأة الأخرى ضرّتها، أي زوجة رجلها نفسه، فهو أيضا لا يجوز؛ لضياع حقيقة الأمومة بين الزوجتين، فأيهما الأم حقيقة؟ من الذي سينسب الطفل إليها: صاحبة البييضة أم صاحبة الرحم؟
والفقهاء أنفسهم اختلفوا في ذلك إذا وقع بالفعل، فمنهم من قال: هي صاحبة البييضة، وأنا أقرب إليهم، ومنهم من قال: هي التي حملت وولدت. وظاهر القرآن مع هؤلاء، لقوله تعالى: {إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم} (المجادلة:2) .
على كل حال، فجميع الفقهاء يمنعون ذلك، ولا يجيزونه، وإذا كانت بعض النساء قد ابتليت بأنها لا تنتج البييضات، فشأنها شأن المرأة التي لا رحم لها، أو الرجل الذي لا ينتج حيوانات منوية أو ينتجها ميتة أو شبه ميتة، فهؤلاء هم الذين ابتلوا بالعقم الذي ذكره الله تعالى في كتابه حين قال: {لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء، يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور. أو يزوجهم ذكرانا وإناثا، ويجعل من يشاء عقيما، إنه عليم قدير} (الشورى:49،50) فهناك من شاء الله تعالى أن يجعله عقيما، ولا راد لمشيئته عز وجل، ولا دواء لهذا إلا الصبر على بلاء الله، والرضا بقضاء الله، وممارسة الأبوة والأمومة في كفالة اليتامى، ورعاية اللقطاء، وفي هذا أجر جزيل، وثواب عظيم، كما في الحديث الصحيح:"أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين" (1) وأشار بأصبعيه: السبابة والوسطى.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا.
................
* من كتاب "فتاوى معاصرة" لفضيلة العلامة.
(1) رواه البخاري عن: سهل بن سعد، و مسلم عن: أبي هريرة.