السؤال: نحن طالبات ندرس في الجامعة، تعودنا أن يدخل علينا أساتذتنا، فيلقوا علينا تحية الإسلام، فنرد عليهم بأحسن منها، أو بمثلها كما أمرنا الله في كتابه: (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها) (النساء :86) إذ كنا نعتقد أن هذه الآية الكريمة ليست للرجال وحدهم.
ولكن واحدًا من أساتذتنا الأفاضل خالف هذه العادة، فلم يسلم علينا مرة قط.
وقد سألته إحدانا بصراحة: لماذا لا تلقي السلام علينا يا دكتور؟ فأجابها بأن التسليم على النساء غير جائز شرعًا، وأن صوت المرأة عورة!
هذا مع أنه بحكم تدريسه لنا، يكلمنا ونكلمه، ويسألنا ونجيبه، ونسأله ويجيبنا، ونناقشه في كثير من المسائل، دون أن يعترض على شيء من ذلك، فلماذا كان السلام وحده هو الممنوع ؟ وهل صحيح أن صوت المرأة عورة، ولو كان في رد السلام، ونحو ذلك من القول المعروف، ومع مراعاة الأدب المطلوب للمسلمة في خطابها للرجال غير المحارم ؟.
إننا نتوق إلى معرفة الحكم الشرعي هنا، سواء كان لنا أم علينا، ولكن المهم هو الدليل المقنع الذي تنشرح له الصدور، ويرتفع عنده الجدل.كما هو العهد بكم دائمًا، نفع الله بعلمكم المسلمين.
طالبات بجامعة قطر.
جواب فضيلة الشيخ القرضاوي:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد..
من نظر إلى النصوص العامة التي أمرت بإفشاء السلام، وجدها لم تفرق بين رجل وامرأة، مثل الأحاديث الكثيرة التي دعت إلى " إطعام الطعام وإفشاء السلام، وصلة الأرحام، والصلاة بالليل والناس نيام " وفي الصحيح: " والذي نفسي بيده لن تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولن تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أدلكم على شيء إن فعلتموه تحاببتم ؟ أفشوا السلام بينكم " رواه مسلم.
ومن ذلك قوله تعالى: (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها). (النساء: 86).
والأصل في خطاب الشارع أنه للرجال والنساء جميعًا، إلا ما خصه الدليل.
فلو أن رجلاً مسلمًا حيا امرأة مسلمة لكان عليها بنص القرآن أن ترد على تحيته بأحسن منها، أو على الأقل بمثلها.
ولو أن امرأة حيت رجلاً لكان عليه أن يحييها بأحسن منها، أو يردها بمثلها ما دامت هذه النصوص عامة مطلقة، ولم يرد ما يخصصها أو يقيدها.
فكيف وقد جاء ما يؤيدها، ويؤكدها من النصوص الخاصة، التي بينت شرعية تسليم الرجال على النساء، والنساء على الرجال.
ففي صحيح البخاري: أن أم هانيء ابنة أبي طالب ابنة عمه قالت: ذهبت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، عام الفتح، فوجدته يغتسل وفاطمة ابنته تستره، فسلمت عليه، فقال "من هذه" ؟ فقلت أنا أم هانيء بنت أبي طالب، فقال: " مرحبًا بأم هانيء " الحديث (صحيح البخاري، باب أمان النساء وجوارهن من كتاب "الجهاد" من الجامع الصحيح).وقد رواه مسلم أيضًا، فهو حديث متفق عليه.
وعقد الإمام البخاري في صحيحه بابًا بعنوان: " باب تسليم الرجال على النساء، والنساء على الرجال ".
قال الحافظ ابن حجر: أشار بهذه الترجمة يقصد العنوان إلى رد ما أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن يحيى بن أبي كثير: بلغني أنه يكره أن يسلم الرجال على النساء، والنساء على الرجال.
وذكر في الباب حديثين يؤخذ الجواز منهما:
الأول: حديث سهل: كانت لنا عجوز ترسل إلى بضاعة نخل بالمدينة فتأخذ من أصول السَّلْق، فتطرحه في قِدْر، وتكركر أي تطحن حبات من شعير، فإذا صلينا الجمعة، انصرفنا ونسلم عليها، فتقدمه إلينا.
الثاني: حديث عائشة قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " يا عائشة، هذا جبريل يقرأ عليك السلام " (اعترض بأن الملائكة ليسوا رجالاً، وأجيب بأن جبريل كان يأتي كثيرًا في صورة رجل)، قلت: وعليه السلام ورحمة الله.
قال الحافظ: وورد فيه حديث ليس على شرطه يعني البخاري وهو حديث أسماء بنت يزيد: " مر علينا النبي -صلى الله عليه وسلم- في نسوة فسلم علينا " (الحديث رواه أبو داود في الأدب برقم (5204) والترمذي في الاستئذان (2698) وابن ماجة في الأدب (3701) والدارمي: باب في السلام على النساء 2/ 189)، حسنه الترمذي، وليس على شرط البخاري، فاكتفى بما هو على شرطه.
وله شاهد من حديث جابر عند أحمد. (فتح الباري ج11/34، ط.السلفية).
وعن بعض الصحابة: يسلم الرجال على النساء، ولا يسلم النساء على الرجال (رواه أبو نعيم عن عمرو بن حريث موقوفًا عليه بسند جيد كما في " الفتح "). ولكن يرده حديث أم هانيء السابق في سلامها على النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم الفتح، ولم يكن محرمًا لها، بل كان ابن عمها، وقد أراد يومًا أن يتزوجها.
كما روى الإمام أحمد في مسنده: أن معاذًا قدم إلى اليمن، فلقيته امرأة من خولان معها بنون لها اثنا عشر ،.. وفيه :" فقامت فسلمت على معاذ " (مسند أحمد 5/239).الحديث، وفي سنده شهر بن حوشب، وفيه مقال، ولكنه يصلح للاستئناس به، وإن لم يصلح حجة وحده، وقد حسن حديثه الترمذي. (وصححه في عصرنا الشيخ شاكر رحمه الله في تخريجه للمسند).
وقد روى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جاء إلى بعض النسوة، فسلم عليهن، وقال: " أنا رسول رسول الله إليكن..." الحديث.
هذا ما دل عليه هدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصحابته في شأن التسليم على النساء، أو تسليمهن على الرجال.
ولكن كثيرًا من العلماء قيدوا جواز ذلك بأمن الفتنة.
قال الحليمي: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- للعصمة مأمونًا من الفتنة، فمن وثق من نفسه بالسلامة، فليسلم، وإلا فالصمت أسلم.
وقال المهلب: سلام الرجال على النساء، والنساء على الرجال جائز إذا أمنت الفتنة.
وفرق المالكية بين الشابة والعجوز، سدًا للذريعة.
وبعض العلماء أضاف إلى الشباب الجمال، فإن كانت جميلة يخاف الافتتان بها، لم يشرع السلام ابتداءً ولا وجوبًا.. ومنع منه ربيعة مطلقًا.
وقال الكوفيون أبو حنيفة وأصحابه ـ: لا يشرع للنساء ابتداء السلام على الرجال، لأنهن منعن من الأذان والإقامة والجهر بالقراءة، إلا على المحرم، فيجوز لها السلام على محرمها. (ذكر هذه الأقوال الحافظ في الفتح 11/34).
وحجة الآخرين حديث سهل الذي ذكرناه عند البخاري، فإن الرجال من الصحابة الذين كانوا يزورونها وتطعمهم، لم يكونوا من محارمها.
وهذه الاجتهادات كلها إنما دفع إليها زيادة التخوف والتحوط، ولم يلزم بها نص صحيح صريح.
ولم يكن جل أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورضي الله عنهم وتابعيهم بإحسان، يتخوفون كل هذا التخوف، ويحتاطون كل هذا الاحتياط.
ومن نظر إلى ما نقل عنهم في المصادر التي عنيت بذلك، يجد أن جمًا غفيرًا منهم كان لا يرى بأسًا بالسلام على النساء، وخصوصًا إذا دخل الرجل عليهن زائرًا، أو معالجًا أو معلمًا أو نحو ذلك، بخلاف المرأة التي تلقى الرجل في الطريق العام، فهنا لا يحسن السلام عليها، ما لم يكن بينه وبينها صلة وثيقة من نسب أو رحم أو مصاهرة أو نحو ذلك.
وحسبي أن أسجل هنا ما رواه الحافظ أبو بكر بن أبي شيبة في مصنفه فيما روي عن السلف من السلام على النساء.
فبعد أن ذكر حديث أسماء بنت يزيد الذي ذكرناه من قبل :" مر علينا النبي -صلى الله عليه وسلم- في نسوة فسلم علينا ".
روى بسنده عن جرير: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مر على نسوة فسلم عليهن. (أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 8/38 من رواية أحمد وأبي يعلي والطبراني).
وروي عن مجاهد: أن ابن عمر مر على امرأة فسلم عليها.
وعن مجاهد أيضًا: أن عمر مر على نسوة فسلم عليهن.
وعن ابن عيينة عن أبي ذر قال: " سألت عطاءً عن السلام على النساء فقال: إن كن شواب فلا".
وعن ابن عون قال: قلت لمحمد: أي ابن سيرين ـ: أسلم على المرأة ؟ قال لا أعلم به بأسًا.
وعن الحسن أنه كان لا يرى أن يسلم الرجل على المرأة، إلا أن يدخل عليها في بيتها، فيسلم عليها.
وعن عبيد الله قال: كان عمرو بن ميمون يسلم على النساء والصبيان.
وعن عمرو بن عثمان قال: رأيت موسى بن طلحة مر على نسوة جلوس فسلم عليهن.
وعن شعبة قال: سألت الحكم وحمادًا عن السلام على النساء فكرهه على الشابة والعجوز، وقال الحكم: كان شريح يسلم على كل أحد، قلت: النساء ؟ قال: على كل أحد.
وأقوى ما يستند إليه المانعون هنا هو " خوف الفتنة " التي ينبغي أن يتوقاها المسلم ما استطاع استبراءً لدينه وعرضه.
وهذا مرده إلى ضمير المسلم وتقديره، وعليه أن يستفتي قلبه.
وفي قضيتنا المسئول عنها هنا، نرى الأمر مغايرًا:.
فالسلام على مجموعة من الفتيات والنساء غير السلام على واحدة.
والسلام في قاعة الدرس بما لها من وقار وما يحوطها من جدية، غير السلام في الطريق ونحوه.
والسلام من أستاذ لتلميذاته كثيرًا ما يكون في سن الأب، وربما في سن الجد غير السلام من شخص عادي.
ويؤكد هذا أن الأستاذ الذي يتورع عن إلقاء السلام، لا يفتأ يسأل الطالبات ويسألنه، ويجاوبهن ويجاوبنه، فلا معنى لإجازة هذا كله، وحظر السلام وحده وذكر خوف الفتنة هنا لا معنى له، لأن السلام ليس أكثر من الكلام والحوار والنقاش خلال الدرس والمحاضرة.
وإذا كان ترك إلقاء السلام يوحشهن ويؤذيهن إيذاء أدبيًا، فالأولى أن يسلم، تطييبًا للقلوب، ومنعًا للأذى.
أما ما قيل من أن صوت المرأة عورة، فلا أجد له وجها، ولم يقل به إمام معتبر.
كيف والله تعالى يقول في شأن نساء النبي: (وإذا سألتموهن متاعًا فاسألوهن من وراء حجاب). (الأحزاب: 53).
ومعنى هذا أنهن يجبن من سألهن من وراء الحجاب، وكذلك كانت تفعل عائشة وأمهات المؤمنين، يجبن السائلين ويروين لهم الأحاديث والسير.. مع أن عليهن من التشديد والتغليظ ما ليس على غيرهن. وكم من نساء سألن وتحدثن في مجلس النبي -صلى الله عليه وسلم-. وكم من وقائع ومواقف لا تعد في عصر النبوة والصحابة تحدث فيها النساء إلى الرجال، سؤالاً وجوابًا، وأخذًا وردًا، وسلامًا وكلامًا، ولم يقل أحد للمرأة: اصمتي فإن صوتك عورة.