السؤال: أثار أحد الصحفيين المرموقين زوبعة من القيل والقال، حول حكم الشريعة الإسلامية الغراء في توريث العصبة وهم أقارب الأب من الإخوة وأبناء الإخوة والأعمام وأبناء الأعمام ونحوهم مع بنات الميت من صلبه.

وتساءل الكاتب عن الحكمة والمصلحة من وراء هذا التشريع، مع أن كثيرًا من هؤلاء العصبات من إخوة وأعمام، قد يكونون أبعد ما يكون عن الميت المورث من الناحية الواقعية، فلا مودة ولا صلة ولا تزاور، حتي إذا مات الرجل، وترك ابنة أو اثنتين أو ثلاثًا، ظهر هؤلاء العصبة بعد اختفاء، وقربوا بعد ابتعاد، وطالبوا بنصيبهم في التركة، فهل هذا يتفق مع حكمة الشريعة التي أقامت أحكامها علي أساس تحقيق مصالح العباد في المعاش والمعاد؟

لقد أثار هذا الكلام بعض البلبلة لدي بعض الناس. لهذا نرجو بيان حكمة الشريعة في هذا الأمر. ولكم الأجر من الله والشكر من الناس.

ح . ع . ع

من القاهرة

 

جواب فضيلة الشيخ القرضاوي:

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد..

فمن مزايا الشريعة الإسلامية أن أحكامها متماسكة متكاملة ومتناسقة يأخذ بعضها بحجز بعض، ولا ينفصل بعضها عن بعض، فهي وحدة لا تتجزأ، ولا يجوز أخذ بعضها معزولاً عن البعض الآخر، ومن هنا قال الله تعالي لرسوله ولكل من يحكم في الأمة من بعده : (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك) (المائدة: 49). وأنكر أشد الإنكار علي بني إسرائيل أخذهم ببعض الكتاب دون بعض، بقوله: (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلي أشد العذاب) (البقرة: 85).

وعلي هذا الأساس كان تشريع ميراث (العصبة) في الإسلام.

وأصل هذا ثابت بالسنة الصحيحة المتفق عليها عن رسول الله -صلي الله عليه وسلم- أنه قال: "ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولي رجل ذكر".

 

والفرائض هي المقادير والأنصبة التي فرضها الله وقدرها في كتابه لأصحابها من الثمن، والربع، والنصف، والسدس، والثلث، والثلثين، ومن المعلوم أن هذه الفرائض قد لا تستغرق التركة في بعض الأحوال، كما إذا ترك الميت بنات لا ذكور معهن، فكيف يوزع الباقي، الذي سكت عنه القرآن؟

 

هنا جاء الحديث الصحيح، وحدد طريقة التوزيع والاستحقاق، وأنه "لأولي رجل ذكر"، وأولي الرجال الذكور هؤلاء هم الذين نسميهم "العصبة" وهو الذي يأخذ ما بقي بعد أصحاب الفروض من التركة، وينفرد بها إذا لم يوجد صاحب فرض.

 

ففي حالة ما إذا ترك الميت ابنتين أو ثلاثًا مثلاً، وأمّا وزوجة، فإن البنات لهن الثلثان والأم لها السدس والزوجة لها الثمن وهذه فرائض منصوص عليها في القرآن.

فإذا افترضنا المقام (أربعة وعشرين)، فمجموع هذه الفرائض يساوي (23/24)، ويبقي من التركة (واحد) علي (أربعة وعشرين)، وإذا لم توجد أم للميت يصبح الباقي (خمسة) علي (أربعة وعشرين)، وإذا لم توجد أم ولا زوجة يصبح الباقي (ثمانية) علي (أربعة وعشرين)، وهذا الباقي قل أو كثر، هو من نصيب العصبة: أولي رجل ذكر، فأولي الناس بالميت هو أقربهم.

 

وسر توريث العصبة يرجع إلي فلسفة الإسلام في نظام الأسرة فهي ليست الأسرة الضيقة المحصورة في الزوجين وأولادهما، كما هو معروف عند الغربيين وغيرهم، بل هي الأسرة الممتدة، أو الموسعة، التي يدخل فيها الأقارب والأرحام.

 

ولهذا وجدنا القرآن والسنة حافلين بتأكيد حق ذوي القربي وإيجاب صلتهم، وتحريم قطيعتهم.

وحسبنا أن نقرأ مثل هذه الآيات: (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا وبالوالدين إحسانًا وبذي القربي ...). (النساء: 36).

(وقضي ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانًا ........) إلي أن قال: (وآت ذا القربي حقه والمسكين وابن السبيل). (الإسراء: 23 -26).

(يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامي والمساكين ....). (البقرة: 215).

 

(كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقًا علي المتقين). (البقرة: 180).

(واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبًا). (النساء: 1).

(فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم. أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمي أبصارهم). (محمد: 22، 23).

 

ولم يدع الإسلام الأمر وصايا أخلاقية، ودعوة قائمة علي الترغيب والترهيب فحسب، بل تدخل بالتشريع لحماية الوصايا وتنفيذها: فشرع عدة أنظمة، تكفل بقاء النظام واستمراره كما يحب الله ورسوله، منها:

1 - نظام النفقات:

فمن حق القريب الفقير الذي لا كسب له ولا مورد، أن ينفق عليه قريبه الموسر، بما يحقق له كفايته.

وهذا النظام من دعائم التكافل الاجتماعي في الإسلام، علي معني أن الأسرة فيما بينها تتكافل، قبل أن يطلب من الغرباء أو المجتمع أو الدولة. (انظر: كتابنا: مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام، فصل نفقات الأقارب).

 

يقول تعالي: (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلي المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلي الوارث مثل ذلك). (البقرة: 233).

 

ومعني: (وعلي الوارث مثل ذلك) أي علي القريب الذي يرث من المولود له وهو أب المولود إذا مات، رزق الوالدات وكسوتهن بالمعروف، أي النفقة عليهن في حالة الرضاع. فكما أنه يرث فيغنم ينفق فيغرم، والغنم بالغرم.

 

2 - نظام الميراث:

فقد ورث الإسلام الأقارب بعضهم من بعض وفق نظام مرسوم وترتيب معلوم، يحجب الأقرب إلي الميت درجة من هو أبعد منه. يقول تعالي في سورة النساء التي بدأها بالوصية بتقوي الله والأرحام: (للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبًا مفروضًا). (النساء: 7).

 

والعدل يقتضي أن القريب الذي قد يكلف النفقة علي قريبه إذا عجز وأعسر، أن يكون له نصيب من ميراثه إذا مات ولا عاصب له، ليتقابل الغرم والغنم.

والبنت أو البنات اللاتي مات والدهن، وليس لهن إخوة في حاجة إلي ولاية العاصب وحمايته، إن كن ذوات مال، وإلي رعايته ونفقته إن لم يكن لهن مال. فاقتضت حكمة الشريعة أن يكون الرباط موصولاً وقويًا بين البنات وعمومتهم أو بني عمومتهم، لهذا السر.

 

3 - نظام العاقلة:

وتأكيدًا لهذا الرباط بين أفراد الأسرة الموسعة، شرع الإسلام نظام العاقلة في الديات.

فمن قتل قتيلاً خطأ أو شبه عمد، فإن دية المقتول في مال عصبته موزعة علي ثلاث سنوات لا في مال الجاني وحده، وفي هذا عدة فوائد:

1 - ألا يضيع دم هدرًا إذا عجز مال الجاني عن دفع الدية.

2 - مواساة الجاني والتخفيف عنه في تحمل آثار جريمة لم يتعمدها.

3 - اهتمام هذه الجماعات بتربية أبنائها ومراقبة سلوكهم حتي لا يتكرر منهم ارتكاب هذه الجرائم، ويكلفوهم ما لا يطيقون.

 

إن الذي جعل حكم ميراث العصبة مع البنات مستغربًا لدي بعض المسلمين، هو الواقع الرديء الذي نراه في الحياة الإسلامية اليوم بين الأقارب بعضهم وبعض، حتي إن الإخوة يعيشون في بلد واحد ولا يتواصلون. وربما تمر السنوات ولا يري بعضهم بعضًا، وقد يكون أحدهم عنيًا والآخر فقيرًا أو الآخرون فقراء، فلا يفكر فيهم، ولا ينالهم شيء من خيره.

 

وتنتقل هذه الجفوة أو القطيعة من الآباء إلي أولادهم، فلا يكادون يعرفون شيئًا عن أعمامهم أو أولاد أعمامهم، حتي إذا مات العم أبو البنات، وكان له تركة ومال يورث يظهر فجأة العم المختفي أو أولاد العم الذين لم يرهم أحد من قبل.

 

إن هذا الواقع مناقض لتعاليم الإسلام، وهو الذي جعل بعض الناس يتساءل: ما الذي جعل لهذا العم أو أبنائه حقًا، ولم يكن له أو لهم أي صلة بهم من قبل؟

إن سلوكنا نحن المسلمين كثيرًا ما يظلم به الإسلام. ولكن الحقيقة التي لا ريب فيها: أن الإسلام حجة علي المسلمين، وليس حجة علي الإسلام.

 

هدانا الله جميعًا سواء السبيل.