السؤال: أرجو أن توضحوا لنا معنى هذه الآية الكريمة: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} (النمل:34)

جواب فضيلة الشيخ:

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

بعض الناس يفهمون هذه الآية خطأ. فهم يفهمون منها أن أي ملك يدخل بلدًا حتى ولو من مملكته يفسدها، ويجعل أعزة أهلها أذلة، وهذا خطأ، وليس هو المراد.

هذه الآية جاءت في قصة بلقيس ملكة سبأ، التي ذكرها القرآن في سورة النمل، وهذه الملكة، حينما جاء الهدهد وأخبر سليمان عن أمرها {إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} (النمل:23) فأرسل إليها سيدنا سليمان رسالة بدأها بقوله: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} (النمل:30-31)، وجمعت هذه الملكة قومها لتشاورهم وقالت لهم: {مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ} (النمل:32) قالوا: {قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُوْلُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ * قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} (النمل:33-34).

فهذه الكلمة حكاها القرآن على لسان ملكة سبأ، تحكي لقومها عن أثر دخول الملوك الأجانب الفاتحين المتغلبين في بلد ما، حيث تكون النتيجة أنهم يفسدونها ويذلون أهلها..

وفي الواقع، هذا تلخيص لما يفعله أي استعمار في أي بلد: إفساد البلاد، وإذلال العباد، وذلك شأنهم باستمرار (وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ)، وليس معنى هذا أن أي ملك يدخل بلدًا يفسدها، فإن بلقيس نفسها ملكة، وإنما المقصود كما بينا إذا دخلوها للدنيا متغلبين مستعمرين.

والمُلك قد يكون خيرًا وقد يكون شرًا، فإذا كان بيد الأخيار والمصلحين كان أداة خير وإصلاح، وإذا كان في يد الأشرار والمفسدين كان أداة شر وإفساد، والقرآن ذكر لنا بعض الملوك الصالحين، وذكر لنا في مقابلهم المفسدين الظالمين.

ذكر لنا "طالوت" {إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُواْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} (البقرة:247)

وذكر لنا ملك داوود {فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء} (البقرة:251).

وذكر لنا ملك سليمان، قال في دعائه لله: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي} (ص:35)

وذكر لنا يوسف الذي قال: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ} (يوسف:101)

وذكر لنا ذا القرنين في سورة الكهف {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} (الكهف:84)، وهذا الملك الذي فتح الفتوح في المغرب والمشرق وبنى السد وقال: {مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ} (الكهف:95) فلما أنجز بناءه قال: {هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاء} (الكهف:98).

فقد يكون الملك أو رئيس الدولة صالحًا، فيكون من أفضل الناس، فقد جاء في الحديث "ليوم من إمام عادل؛ خير من عبادة ستين سنة" (رواه الطبراني بإسناد حسن من حديث ابن عباس رضي الله عنهما) فإنه يقضي من المصالح ويفرج من الكربات ويزيل من المظالم ما لا يفعله في عبادة ستين سنة.

يقابل هذا في القرآن ذكر ملوك ظالمين، كالنمرود {الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (البقرة:258).

ومثله فرعون الذي طغى وبغى {فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} (النازعات:23-24)، وقال: {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي} (القصص:38)، وسبب هذا الطغيان غروره بالملك قال: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} (الزخرف:51).

ومثله ذلك الملك الذي ذكره القرآن الكريم في سورة الكهف، وقد كان يغتصب أموال الناس بغير حق {وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} (الكهف:79) فهؤلاء هم المذمومون.

أما المُلك في ذاته والحكم في ذاته، فليس شرًا، إنما قد يكون صالحًا للرجل الصالح كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في المال: "نعم المال الصالح للمرء الصالح" (رواه أحمد).

كذلك نعم الحكم الصالح للرجل الصالح، وهو شر في يد الرجل الفاسد لأنه سيكون في يده أداة شر وفساد في الحياة كلها. هذا ما تيسر بيانه في تفسير الآية الكريمة التي وردت في السؤال.

والله أعلم