د. يوسف القرضاوي
(كانت هذه الفتوى جوابًا عن سؤال تقدمت به المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية في الكويت، في إحدى ندواتها التي تجمع بين الفقهاء والأطباء لدراسة بعض القضايا بغية الوصول إلى الرأي الشرعي الأمثل في شأنها).
الحمد لله.. والصلاة والسلام على رسول الله.. وبعد:
من واجب الفقيه المسلم أن يقف أمام هذه القضايا المعروضة، ليقرر عدة حقائق أهمها:
أن حياة الجنين في نظر الشريعة الإسلامية حياة محترمة، باعتباره كائنا حيًا يجب المحافظة عليه، حتى إن الشريعة تجيز للحامل أن تفطر في رمضان، وقد توجب ذلك عليها، إذا خافت على حملها من الصيام.. ومن هنا حرمت الشريعة الاعتداء عليه، ولو كان الاعتداء من أبويه، بل ولو جاء ذلك من أمه التي حملته وهنا على وهن.
حتى في حالة الحمل الحرام ما جاء عن طريق الزنى لا يجوز لها أن تسقطه، لأنه كائن إنساني حي لا ذنب له،(ولا تزر وازرة وزر أخرى). (الإسراء: 15).
وقد رأينا الشرع يوجب تأخير القصاص من المرأة الحامل المحكوم عليها بالقصاص، ومثلها المحكوم عليها بالرجم حفاظًا على جنينها، كما في قصة الغامدية المروية في الصحيح، لأن الشرع جعل لولى الأمر سبيلا عليها ولم يجعل له سبيلا على ما في بطنها.
كما رأينا الشريعة توجب دية كاملة على من ضرب بطن امرأة حامل، فألقت جنينا حيًا، ثم مات من الضربة، نقل ابن المنذر إجماع أهل العلم على ذلك. (انظر: المغنى مع الشرح الكبير 9 / 550).
وإن نزل ميتًا ففيه غرة، وتقدر بنصف عشر الدية.
كما رأيناها تفرض على الضارب مع الدية أو الغرة كفارة، وهى: تحرير رقبة مؤمنة، فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، بل تفرضها هنا سواء كان الجنين حيًا أو ميتًا.
قال ابن قدامة: هذا قول أكثر أهل العلم، ويروى ذلك عن عمر رضى الله عنه.
واستدلوا بقوله تعالى: (ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة، وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليمًا حكيمًا). (النساء: 92).
قالوا: وإذا شربت الحامل دواء، فألقت به جنينًا، فعليها غرة، لا ترث منها شيئًا، وعليها عتق رقبة. وذلك لأنها أسقطت الجنين بفعلها وجنايتها، فلزمها ضمانه بالغرة، ولا ترث منها شيئًا، لأن القاتل لا يرث المقتول، وتكون الغرة لسائر ورثته. وأما عتق الرقبة فهو كفارة لجنايتها.
وكذلك لو كان المسقط للجنين أباه، فعليه غرة لا يرث منها شيئًا، ويعتق رقبة (المغنى مع الشرح الكبير 6 / 556، 557)، فإن لم يجد صام شهرين متتابعين توبة من الله.
وأكثر من ذلك ما قاله ابن حزم في "المحلى" في قتل الجنين بعد نفخ الروح فيه أي بعد مائة وعشرين ليلة، كما صح بذلك الحديث، فهو يعتبره جناية قتل عمد كاملة موجبة لكل آثارها من القصاص وغيره قال:
(فإن قال قائل: فما تقولون فيمن تعمدت قتل جنينها وقد تجاوزت مائة ليلة وعشرين ليلة بيقين فقتلته، أو تعمد أجنبي قتله في بطنها فقتله، فمن قولنا: أن القود يعنى القصاص واجب في ذلك ولابد، ولا غرة في ذلك حينئذ، إلا أن يعفى عنه، فتجب الغرة فقط، لأنها دية، ولا كفارة في ذلك، لأنه عمد، وإنما وجب القود، لأنه قاتل نفس مؤمنة عمدًا، فهو نفس بنفس، وأهله بين خيرتين: إما القود، وإما الدية، أو المفاداة، كما حكم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيمن قتل مؤمنا وبالله تعالى التوفيق).
وقال ابن حزم فيمن شربت دواء فأسقطت حملها:
(إن كان لم ينفخ فيه الروح فالغرة عليها، وإن كان قد نفخ فيه الروح فإن كانت لم تعمد قتله فالغرة أيضًا على عاقلتها، والكفارة عليها، وإن كانت عمدت قتله فالقود عليها أو المفاداة في مالها). (المحلى جـ 11).
وابن حزم يعتبر الجنين إذا نفخت فيه الروح شخصًا من الناس، حتى إنه يوجب إخراج زكاة الفطر عنه، أما الحنابلة فيرون ذلك مستحبًا لا واجبًا.
وهذا كله يرينا إلى أي حد تهتم الشريعة بالجنين، وتأكيد حرمته، وخصوصًا بعد المرحلة التي جاء الحديث بتسميتها مرحلة "النفخ في الروح"، وهذا من أمور الغيب، التي نسلم بها إذ صح بها النص، ولا نطيل البحث في كنهها(وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً). (الإسراء: 85).
وأحسب أن ذلك شيء غير مجرد الحياة الحيوانية المعهودة، وإن فهم ذلك الشراح والفقهاء، فالحقيقة التي أثبتها العلم الآن بيقين: أن الحياة أسبق من ذلك. ولكن لعلها دون الحياة الإنسانية التي عبر عنها الحديث بــ "النفخ في الروح" وإليها الإشارة بقوله تعالى: (ثم سواه ونفخ فيه من روحه). (السجدة: 59).
على أن من الأحاديث الصحاح ما خالف حديث ابن مسعود الذي ذكر فيه إرسال الملك لنفخ الروح بعد ثلاث أربعينات.
فقد روى مسلم في صحيحه حديث حذيفة بن أسيد قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة، بعث الله إليها ملكًا، فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها، ثم قال: يا رب أذكر أم أنثى؟ فيقضى ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب، أجله؟ فيقول ربك ما شاء، ويكتب الملك. ثم يقول: يا رب، رزقه؟ فيقضى ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يخرج الملك بالصحيفة، فلا يزيد على ما أمر ولا ينقص". (رواه مسلم في: كتاب القدر من صحيحه "باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه"، حديث 2645).
فهذا الحديث جعل بعث الملك وتصويره للنطفة بعد ستة أسابيع اثنتين وأربعين ليلة (العجيب أن علم الأجنة والتشريح بعد تقدمهما اليوم يثبتان أن الجنين بعد هذه المدة (42 ليلة) يدخل مرحلة جديدة ونشأة أخرى).ـ لا بعد مائة وعشرين ليلة، كما في حديث ابن مسعود المعروف، وجمع بعض العلماء بين الحديثين باحتمال تعدد إرسال الملك، فمرة في ابتداء الأربعين الثانية، وأخرى في انتهاء الأربعين الثالثة لنفخ الروح. (فتح الباري 14 /284،ط.الحلبي).
ومن هنا أجمع فقهاء المسلمين على حرمة إجهاض الجنين بعد نفخ الروح فيه، لم يخالف في ذلك أحد من السلف أو الخلف. (فهم بعض الشافعية كما في حاشية الشرواني على بن قاسم 9 / 41 أن أبا حنيفة يجيز الإجهاض بعد نفخ الروح، وهو غلط عليه وعلى مذهبه بيقين. وكتب المذهب الحنفي حافلة بما يخالف ذلك).
أما مرحلة ما قبل نفخ الروح، فمن الفقهاء من أجاز الإجهاض حينئذ إذا دعت إليه حاجة، على اعتبار أن الحياة لم تدب فيه بعد، فهو في نظرهم مجرد سائل، أو علقة من دم، أو مضغة من لحم!
ويقول بعض إخواننا من علماء الطب والتشريح تعليقًا على أقوال من أجازوا من الفقهاء إسقاط الجنين قبل نفخ الروح: إن هذا الحكم من هؤلاء العلماء الأجلاء مبنى على معارف زمنهم.
ولو عرف هؤلاء ما عرفنا من حقائق علم الأجنة اليوم عن هذا الكائن الحي المتميز، الذي يحمل خصائص أبويه وأسرته وفصيلته ونوعه، لغيروا حكمهم وفتواهم، تبعًا لتغير العلة، فإن الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا.
ومن لطف الله بعباده أن علماء الأجنة والتشريح أنفسهم اختلفوا كما اختلف الفقهاء في تقييم حياة الجنين في مراحله الأولى: قبل الـ 42 يومًا وقبل الـ 120 يومًا.
وكان اختلافهم هذا مؤيدًا قويًا لاختلاف الفقهاء في جنين ما قبل الأربعين وما قبل الأربعينات الثلاثة.
ولعل هذا من رحمة الله بالناس ليظل للأعذار والضرورات الحقيقية موضعها.
ولا بأس أن نذكر هنا بعض ما قاله الفقهاء في هذا المجال:
قال شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" بعد كلام طويل عن "العزل" واختلاف العلماء في جوازه ومنعه، ومال في نهايته إلى ترجيح الجواز، وعدم نهوض أدلة المانعين: قال:
(وينتزع من حكم العزل حكم معالجة المرأة إسقاط النطفة قبل نفخ الروح، فمن قال بالمنع هنا، ففي هذه أولى، ومن قال بالجواز يمكن أن يلتحق به هذا. ويمكن أن يفرق بأنه أشد، لأن العزل لم يقع فيه تعاطى السبب، ومعالجة السقط تقع بعد تعاطى السبب). (فتح الباري 11 / 222 ط. الحلبي).
ومن الفقهاء من فرق بين الحمل قبل الأربعين والحمل بعد الأربعين. فأجاز الإسقاط قبل الأربعين لا بعدها. ولعل محور هذه التفرقة هو حديث مسلم الذي ذكرناه. ففي "نهاية المحتاج" من كتب الشافعية، ذكر اختلاف أهل العلم في النطفة قبل تمام الأربعين على قولين:
(قيل: لا يثبت لها حكم السقط والوأد.
وقيل: لها حرمة، ولا يباح إفسادها، ولا التسبب في إخراجها بعد استقرارها في الرحم). (نهاية المحتاج للرملي 8 / 416 ط. الحلبي).
ومنهم من فرق بين مرحلة تخلق الجنين ومرحلة ما قبل تخلقه، فرخص في الإجهاض قبل التخلق دون ما بعده.
وفى "النوادر" من كتب الحنفية: (امرأة عالجت في إسقاط ولدها، لا تأثم ما لم يستبن شيء من خلقه). (انظر: البحر الرائق لابن نجيم 8 / 233 ط. دار المعرفة، بيروت).
وفى كتبهم سألوا: هل يباح الإسقاط بعد الحبل؟ وأجابوا: يباح ما لم يتخلق شيء منه.
ثم في غير موضع قالوا: ولا يتخلق إلا بعد مائة وعشرين يومًا.
قال محقق الحنفية الكمال بن الهمام: (وهذا يقتضي أنهم أرادوا بالتخليق نفخ الروح، وإلا فهو غلط، لأن التخليق يتحقق بالمشاهدة قبل هذه المدة). (فتح القدير 2 / 495 ط. بولاق).
وكلام هذا العلامة صحيح، يقره العلم في عصرنا.
وإطلاقهم يفيد عدم توقف جواز الإسقاط على إذن الزوج، وهو ما صرح به في "الدر المختار" بقوله: وقالوا: يباح إسقاط الولد قبل أربعة أشهر ولو بلا إذن الزوج.
ومن الحنفية من رفض الإباحة المطلقة وقال: لا أقول بالحل، إذ المحرم لو كسر بيض الصيد ضمنه، لأنه أصل الصيد، فلما كان يؤاخذ بالجزاء، فلا أقل من أن يلحقها إثم هنا إذا أسقطت بغير عذر.
ومنهم من قال: يكره، فإن الماء بعدما وقع في الرحم مآله الحياة، فيكون له حكم الحياة، كبيضة صيد الحرم.
ولذا قال أهل التحقيق منهم: (فإباحة الإسقاط محمولة على حالة العذر، أو أنها لا تأثم إثم القتل). (الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه 2 / 380 ط. بولاق).
على أن الكثيرين من العلماء خالفوا هؤلاء، ولم يجيزوا الإجهاض ولو قبل نفخ الروح.
ذلك أن هناك طائفة من العلماء تمنع العزل وهو قذف السائل المنوي خارج فرج المرأة وتعتبره لونا من "الوأد الخفي" كما جاء ذلك في بعض الأحاديث، وذلك لما فيه من منع لأسباب الحياة أن تأخذ سبيلها إلى الوجود والظهور... فهؤلاء يمنعون الإجهاض ويحرمونه بطريق الأولى. فإن أسباب الحياة هنا قد انعقدت بالفعل حين التقى الحيوان المنوي الذكرى بالبييضة الأنثوية، في تزاوج وتلاقح جعل منهما كائنا جديدًا يحمل من الخصائص الوراثية ما لا يعلمه إلا الله تعالى.
على أن هناك من العلماء من أجاز العزل لمسوغات وأسباب تتعلق بالأم أو بالوليد السابق، أو بقدرة الأسرة على حسن التربية، أو غير ذلك .. ولكنهم مع هذا لم يجيزوا الإجهاض ونظموه مع الوأد في سلك واحد، وإن اختلفت مرتبتا الجناية.
ومن هؤلاء الإمام الغزالي، فقد رأيناه رغم إجازته للعزل لمسوغات معتبرة عنده يفرق بوضوح بين منع الحمل بالعزل وبين إسقاطه بعد وجوده فيقول:
(وليس هذا أي المنع بالعزل كالإجهاض والوأد، لأن ذلك جناية على وجود حاصل، والوجود له مراتب، وأول مراتب الوجود أن تقع النطفة في الرحم، وتختلط بماء المرأة، وتستعد لقبول الحياة، وإفساد ذلك جناية، فإن صارت مضغة وعلقة، كانت الجناية أفحش، وإن نفخ فيه الروح واستوت الخلقة ازدادت الجناية تفاحشًا، ومنتهى التفاحش في الجناية هي بعد الانفصال حيًا). (إحياء علوم الدين، ربع العادات، كتاب النكاح ص 737 طـ الشعب). اهـ.
ونلاحظ أن الغزالي رحمه الله يعتبر الإجهاض جناية على وجود بشرى حاصل، مع أنه يعبر عن التقاء نطفة الرجل بماء المرأة بأنه "استعداد لقبول الحياة".
فكيف لو عرف ما عرفناه اليوم بأن الحياة قد وجدت بالفعل منذ تم هذا اللقاء؟.
ولهذا نقول: إن الأصل في الإجهاض هو الحرمة. وإن كانت الحرمة تكبر وتعظم كلما استقرت حياة الجنين.
فهو في الأربعين الأولى أخف حرمة، فقد يجوز لبعض الأعذار المعتبرة، وبعد الأربعين تكون الحرمة أقوى، فلا يجوز إلا لأعذار أقوى يقدرها أهل الفقه، وتتأكد الحرمة وتتضاعف بعد مائة وعشرين يومًا، حيث يدخل في المرحلة التي سماها الحديث "النفخ في الروح".
وفى هذه الحالة لا يجوز الإجهاض إلا في حالة الضرورة القصوى، بشرط أن تثبت الضرورة لا أن تتوهم، وإذا ثبتت فما أبيح للضرورة يقدرها بقدرها.
ورأيي أن الضرورة هنا تتجلى في صورة واحدة، وهى: ما إذا كان في بقاء الجنين خطر على حياة الأم، لأن الأم هي الأصل في حياة الجنين، والجنين فرع، فلا يضحى بالأصل من أجل الفرع، وهذا منطق يوافق عليه مع الشرع الخلق والطب والقانون. على أن من الفقهاء من رفض ذلك، ولم يقبل الجناية على الحي بحال. ففي كتب الحنفية:
(امرأة حامل اعترض الولد في بطنها ولا يمكن "إخراجه" إلا بقطعه أرباعًا. ولو لم يفعل ذلك يخاف على أمه من الموت.. قالوا: إن كان الولد ميتًا فلا بأس به، وإن كان حيًا لا يجوز، لأن إحياء نفس بقتل نفس أخرى لم يرد في الشرع). (البحر الرائق لابن نجيم 8 / 233).
ولكن الشرع ورد بارتكاب أخف الضررين، وأهون المفسدتين..
وأضاف بعض المعاصرين إلى الصورة المذكورة، صورة أخرى، وهى:
أن يثبت بطريقة علمية مؤكدة أن الجنين وفقًا لسنن الله تعالى سيتعرض لتشوهات خطيرة تجعل حياته عذابًا عليه وعلى أهله، وفقًا لقاعدة: "الضرر يدفع بقدر الإمكان" وينبغي أن يقرر ذلك فريق طبي لا طبيب واحد.
والراجح أن الجنين بعد استكمال أربعة أشهر إنسان حي كامل. فالجناية عليه كالجناية على طفل مولود.
ومن لطف الله أن الجنين المصاب بتشوهات خطيرة لا يعيش بعد الولادة، في العادة، كما هو مشاهد، وكما قرر أهل الاختصاص أنفسهم.
على أن الأطباء كثيرًا ما يخطئون التشخيص.
وأذكر هنا واقعة كنت أحد أطرافها، وقعت منذ بضع سنوات، فقد استفتاني صديق يقيم في ديار الغرب: أن الأطباء، قرروا أن الجنين في بطن امرأته الحامل لخمسة أشهر سينزل مشوها وقال: إنهم يرجحون ذلك ولا يوقنون. وكانت فتواي له أن يتوكل على الله، ويدع زمام الأمر إليه سبحانه، فلعل ظنهم يخيب، ولم أشعر بعد أشهر إلا وبطاقة تصل إلى من أوربا تحمل صورة مولود جميل، كتب أبوه على لسانه هذه العبارات المؤثرة:
عمى العزيز: أشكرك بعد الله تعالى على أن أنقذتني من مشارط الجراحين، فقد كانت فتواك سبب حياتي، فلن أنسى لك هذا الجميل ما حييت.
بيد أن تشوهات الجنين ينبغي أن تعتبر إذا ثبتت بالفعل قبل الأشهر الأربعة، ومرحلة نفخ الروح.
على أنه ليس من التشويه المعتبر أن يصاب الجنين بعد ولادته بمثل العمى أو الصمم أو البكم، فهذه عاهات عرفها الناس طوال حياة البشرية وعاشوا بها، ولم تمنعهم من المشاركة في تحمل أعبائها، وعرف الناس عباقرة من ذوى العاهات لازالت أسماؤهم حاضرة في ذاكرة التاريخ.
ولا يجوز لنا أن نعتقد أن العلم سيغير بإمكاناته ووسائله من طبيعة الحياة البشرية التي أقامها الله على الابتلاء (إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه) (الإنسان: 2) . (لقد خلقنا الإنسان في كبد). (البلد: 4).
ولقد ساهم العلم وساهمت التكنولوجيا في عصرنا بتعليم المعوقين تعليمًا بلغ حدًا كبيرًا من النجاح، كما ساهما في تيسير الحياة لهم، واستطاع كثير منهم أن يشاركوا في أعباء الحياة كغيرهم من الأسوياء، وخاصة أن الله تعالى قد اقتضت سنته أن يعوضهم بمواهب وقدرات أخرى غير عادية.
والله يقول الحق، وهو يهدى السبيل.