السؤال: ما حكم المبيت بمنى ليالي منى أي ليالي أيام التشريق، وخصوصًا مع كثرة الحجيج في هذه السنين، فلم تعد منى تتسع لمليونين أو أكثر كل عام، فهل يُجزئ عن الحاج أن يرمي جمراته كل يوم، ولكنه يبيت في مكة أو جدة؟

الفتوى:

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد..

بات الرسول صلى الله عليه وسلم بمنى ليالي أيام التشريق، وكان مبيته بها أمرًا طبيعيًا؛ لأنه لم يكن له ولا لأصحابه بيوت في مكة، وهو محتاج إلى البقاء في منى من أجل رمي الجمرات، فهو يبيت في المكان الذي يسهل عليه الرمي منه، ومن كان يشق عليه المبيت بمنى، أو كانت له حاجة أو مصلحة في عدم المبيت بمنى؛ فلا حرج عليه في ذلك. إذ لا دليل يدل على الوجوب، وهذا قول الحسن البصري وعبد الله بن عباس، ورواية في المذهب الحنبلي.

يقول سماحة الشيخ القرضاوي:

قال ابن قدامه في "المغني": السنة لمن أفاض يوم النحر أن يرجع إلى منى؛ لما روى ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم أفاض يوم النحر، ثم رجع فصلى الظهر بمنى. (متفق عليه)، وقالت عائشة: أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر يومه حين صلى الظهر، ثم رجع إلى منى، فمكث بها ليالي أيام التشريق. (رواه أبو داود)

قال ابن قدامه: وظاهر كلام "الخرقي": أن المبيت بمنى ليالي منى: واجب "لقوله: ولا يبيت بمكة ليالي منى"، وهو إحدى الروايتين عن أحمد. وقال ابن عباس:لا يبيتن أحد من وراء العقبة ليلاً. وهو قول عروة وإبراهيم ومجاهد وعطاء. وروي ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وهو قول مالك والشافعي.

والثانية: ليس بواجب. رُوي ذلك عن الحسن، ورُوي عن ابن عباس: إذا رميت الجمرة فبت حيث شئت.

قال: ولأنه قد حل من حجه، (أي تحلل التحلل النهائي) فلم يجب عليه المبيت بموضع معين، كليلة الحصبة (1) (التي بعد أيام التشريق) ا.هـ

ولا شك أن الرسول صلى الله عليه وسلم بات بمنى ليالي أيام التشريق، وكان مبيته بها أمرًا طبيعيًا؛ لأنه لم يكن له ولا لأصحابه بيوت في مكة، وهو محتاج إلى البقاء في منى من أجل رمي الجمرات، فهو يبيت في المكان الذي يسهل عليه الرمي منه. ومن هنا كان المبيت بمنى أسهل عليه وعلى أصحابه، ليظلّوا معًا في تجمع إسلامي فريد، بعد أداء المناسك، يرمون الجمرات، ويذكرون الله في أيام معدودات، ويأكلون ويشربون ويتمتعون بما أحل الله لهم من أشياء كانت محظورة عليهم؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: "أيام منى (أو أيام التشريق) أيام أكل وشرب وذكر لله تعالى" (2).

فمن لم يكن  له حاجة ولا مصلحة في ترك المبيت بمنى؛ فيُسن له أن يبقى بها تأسّيًا بالنبي صلى الله عليه وسلم. وهو تأسّ مطلوب طلب الاستحباب، وليس طلب الوجوب فيما أرى.

ومَن كان يشق عليه المبيت بمنى، أو كانت له حاجة أو مصلحة في عدم المبيت بمنى؛ فلا حرج عليه في ذلك. إذ لا دليل يدل على الوجوب. وقوله صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني مناسككم" لا يدل على أن كل أفعال الحج واجبة، ففيها الأركان والواجبات والمستحبات. والحديث أشبه بحديث "صلوا كما رأيتموني أصلي" ومع هذا يوجد في الصلاة ما هو فرض، وما هو واجب، وما هو مستحب.

ومما لا ينازع فيه أحد: أن في مناسك الحج أمورًا كثيرة من باب المستحبات، مثل الاغتسال للإحرام، وصلاة ركعتين له، والتلبية ورفع الصوت بها، والأدعية والأذكار في الحج، وتقبيل الحجر الأسود أو استلامه أو الإشارة إليه.

وفي كتب الحنابلة ما يشد أزر القائلين بالتيسير في أمر المبيت بمنى، وإجازة المبيت بمكة وما حولها، خصوصًا مع كثرة الحجاج، وضيق منى بهم، رغم تيسيرات الدولة السعودية.

قال المرداوي في "الإنصاف" فيمن ترك المبيت بمنى في لياليها: "الصحيح من المذهب: أن عليه دمًا. نقله حنبل، وعليه أكثر الأصحاب.

وعنه: يتصدق بشيء. نقله الجماعة عن أحمد. قاله القاضي.

وعنه: لا شيء عليه. واختاره أبو بكر.

قال: وهي مبنية على أن المبيت بمنى ليس بواجب. (3)

وقال ابن قدامه في "المغنى": فإنْ ترك المبيت بمنى، فعن أحمد: لا شيء عليه، وقد أساء. وهو قول أصحاب الرأي (أبي حنيفة وأصحابه).

وعنه: يُطعم شيئًا. وخففه. (أي اعتبر الأمر خفيفًا سهلاً). ثم قال: قد قال بعضهم: ليس عليه، وقال إبراهيم: عليه دم. وضحك، ثم قال: دم بمرّة، شدّدتموه! قلت: ليس إلا أن يُطعم شيئا؟ قال: نعم يطعم شيئًا: تمرًا أو نحوه.

قال: فعلى هذا أي شيء تصدق به أجزأه، ولا فرق بين ليلة وأكثر؛ لأنه لا تقدير فيه.

وعنه: في الليالي الثلاث دم (4).

وقال الإمام أبو محمد ابن حزم في "المحلى": ومَن لم يبت ليالي منى بمنى فقد أساء، ولا شيء عليه، إلا الرعاء وأهل سقاية العباس، فلا نكره لهم المبيت في غير منى؛ بل للرعاء أن يرموا يومًا ويدعوا يومًا.

واستدل بما رواه من طريق أبي داود عن أبي البداح بن عدي عن أبيه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص للرعاء أن يرموا يومًا ويدعوا يومًا".

قال: فصح بهذا الخبر أن الرمي في كل يوم من أيام منى ليس فرضًا.

ومِن طريق مسلم عن ابن عمر قال: "إن العباس بن عبد المطلب استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل سقايته أن يبيت بمكة ليالي منى، فأذن له".

قال أبو محمد: فأهل السقاية مأذون لهم من أجل السقاية، وبات عليه السلام بمنى ولم يأمر بالمبيت بها، فالمبيت بها سنة وليس فرضًا؛ لأن الفرض إنما هو أمره صلى الله عليه وسلم فقط.

فإن قيل: إن إذنه للرعاء وترخيصة لهم وإذنه للعباس: دليل على أن غيرهم بخلافهم؟

قلنا: لا، وإنما كان يكون هذا لو تقدم منه عليه السلام أمر بالمبيت والرمي، فكان يكون هؤلاء مستثنين من سائر من أمروا، وأما إذا لم يتقدم منه أمر عليه السلام، فنحن ندري أن هؤلاء مأذون لهم، وليس غيرهم مأمورًا بذلك ولا منهيًا، فهم على الإباحة.

روينا عن عمر بن الخطاب: "لا يبيتنّ أحد من وراء العقبة أيام منى" وصح هذا عنه رضي الله عنه، وعن ابن عباس مثل هذا، وعن ابن عمر أنه كره المبيت بغير منى أيام منى، ولم يجعل واحد منهم في ذلك فدية أصلاً.

ومِن طريق سعيد بن منصور عن ابن عباس قال: لا بأس لمن كان له متاع بمكة أن يبيت بها ليالي منى.

ومِن طريق ابن أبي شيبة عن عكرمة عن ابن عباس قال: إذا رميت الجمار فبت حيث شئت.

وعن عطاء قال: لا بأس أن يبيت بمكة ليالي منى في ضيعته.

وعن مجاهد: لا بأس بأن يكون أول الليل بمكة وآخره بمنى أو أول الليل بمنى وآخره بمكة ـ وروينا من طريق ابن أبي شيبة عن عطاء أنه كان يقول: من بات ليالي منى بمكة تصدق بدرهم أو نحوه. وعن إبراهيم قال: إذا بات دون العقبة أهرق دمًا.

وقال أبو حنيفة: بمثل قولنا. (أي ليس عليه شيء)، وقال سفيان: يُطعم شيئا، وقال مالك: مَن بات ليلة من ليالي منى بغير منى أو أكثر ليلته فعليه دم، فإن بات الأقل من ليلته فلا شيء عليه.

وقال الشافعي: مَن بات ليلة من ليالي التشريق في غير منى فليتصدق بمدّ، فإن بات ليلتين، فمدان، فإن بات ثلاثًا فدم ـ ورُوي عنه: في ليلة ثلث دم، وفي ليلتين ثلثا دم، وفي ثلاث ليال دم!

قال أبو محمد: هذه الأقوال لا دليل على صحتها، يعني الصدقة بدرهم أو بإطعام شيء أو بإيجاب دم، أو بمد، أو مدين، أو ثلث دم، أو ثلثي دم، أو الفرق بين المبيت أكثر الليل، أو أقله، وما كان هكذا فالقول به لا يجوز، وما نعلم لمالك، ولا للشافعي في أقوالهم هذه سلفًا أصلاً، لا من صاحب، ولا من تابع (5).

وبهذا نرى أن في أمر المبيت بمنى ليالي أيام التشريق سعة، وحسبنا قول ابن عباس: إذا رميت الجمرة فبت حيث شئت.

وعندنا من أقوال التابعين من لم ير في الأمر شيئًا.

ولدينا من أقوال الأئمة المتبوعين (ومنهم أبو حنيفة وأصحابه ورواية عن أحمد) ما يفتح لنا الباب واسعًا.

ومنهم من طلب التصدق باليسير، ومن لم يطلب شيئًا.

وكل هذا فيمن ترك المبيت بلا عذر ولا حاجة، ولكن الوضع في زمنا لم يعد كذلك، فقد ضاقت منى بحجاجها، وهي واد محصور. فمن هنا كان هناك عذر عام للكثيرين أن يبيتوا بمكة وما حولها، من أجل تخفيف الزحام عن منى.

وأسوة هؤلاء ما رخص به رسول الله صلى الله عليه وسلم للرعاء أن يبيتوا بمكة، وكذلك للعباس من أجل السقاية؛ وذلك لأعذارهم الظاهرة، والله يريد بعباده اليسر ولا يريد بهم العسر.

والله أعلم

.....

(1) المغني لابن قدامه جـ 5/324 طبعة هجر.

(2) رواه أحمد ومسلم عن ثبته ورواه أحمد وابن ماجه والطحاوي عن أبي هريرة.

(3) انظر:الإنصاف حـ 4/47 بتحقيق محمد حامد الفقي. مطبعة السنة المحمدية.

(4) المغنى حـ5/325 طبعة هجر، بتحقيق الزكى والحلو.

(5) المحلى لابن حزم حـ7/220.