-السؤال: أصدرت مجلة (الدكتور) القاهرية ملحقا لعدد إبريل سنة 1960م بقلم الدكتور أحمد محمد كمال، يتضمن إرشادات صحية وطبية لحجاج بيت الله الحرام، وقد جاء فيما يختص بمياه الشرب حديث عن ماء زمزم قال فيه: "كثيرون -إن لم يكن كل الحجاج- عندهم عقيدة: أن شرب قليل من هذه المياه إما جزء من مراسم الحج، أو يشربونها للتبرك.
وقسما برب الكعبة لو أعطيت مال قارون لشرب ملعقة صغيرة منها لرفضت رفضا باتا، وفعلا رفضت عندما كرمني المولى عز وجل بزيارة بيته المحرم في أوائل هذا العام، وليعلم كل حاج أن التحاليل التي عملت على هذه المياه أثبتت أنها ملوثة تلوثا شديدا كيميائيا وبكتريولوجيا مما يجعلها غير مأمونة صحيا، وأغلب الظن عندي أن مياه مجارير منازل مكة تتسرب عبر مسام طبقات الأرض إلى البئر، في رأيي أن انخفاض موقع البئر، ووجود المنازل على هضبة مرتفعة، مما يساعد على سهولة هذا التسرب.
ويصح أيضا أن بقاء البئر مفتوحة ترفع مياهها بدلو من عهد إنشائها إلى عهد قريب جدا قد عرضها للتلوث.. إلى أن قال: والرأي عندي أن خير حل لمنع خطر مياه زمزم هو العمل على تطهيرها بالكلورين أو بأي طريقة يجد الأخصائيون أنها كافية".
جواب العلامة الدكتور يوسف القرضاوي:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومن اتبعه إلى يوم الدين، وبعد :
هذا أهم ما جاء في مقال الدكتور. وقد أحدث ضجة كبيرة في المجلات والصحف السعودية فحملت على المقال وكاتبه حملة شعواء، واتهمته في دينه وعقيدته، واستشهدت بأحاديث وآثار في ماء زمزم، وما فيه من بركة. ولا شك أن للموضوع خطورته، فهو يتصل بالمشاعر الدينية للمسلمين. لما لزمزم في أذهانهم ووجدانهم من ارتباط بالبلد الحرام والبيت الحرام، والحج إليه، حتى صار من المتعارف أن يدعو لأخيه بالشرب أو الوضوء "من ماء زمزم" فإنما يدعو له بالحج.
من الوجهة الدينية
والمسألة من الوجهة الطبية تحتاج إلى جهات رسمية مأمونة تقوم بتحليل الماء ثم تقرر رأيها فيه. أما من الوجهة الدينية فلا بد من الإجابة على هذه الأسئلة ليتضح الأمر ويزول الإشكال.
هل لماء زمزم قدسية خاصة في الدين؟ وهل الشرب منه واجب أو مستحب للحجاج؟ وهل يشرع الشرب منه وإن ثبت تلوثه كما يقول الدكتور؟ وهل يستحيل دينيا أن يصيب ماء زمزم تلوث بسبب من الأسباب؟
وللإجابة عن هذه الأسئلة نضع هنا الأحاديث الواردة في ماء زمزم، ونبين قيمتها العلمية من حيث ثبوتها ودلالتها، عند خبراء الحديث، العارفين بالأسانيد والمتون:
-
عقد البخاري في كتاب الحج من صحيحه بابا فيما جاء في ماء زمزم، فلم يورد في فضلها أو بركتها إلا حديث شق صدره عليه السلام وغسله من ماء زمزم، وحديث آخر فيه أنه شرب منه، وليس في الحديثين ما يدل دلالة صريحة على فضل أو بركة. وهذا ما نص عليه الحافظ ابن حجر في (الفتح) حين شرحه للحديث، قال: "كأنه لم يثبت عنده في فضلها حديث على شرطه صريحا". وفي باب سقاية الحاج روى عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء إلى السقاية فاستسقى، فقال العباس: "يا فضل اذهب إلى أمك، فأت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشراب من عندها. فقال صلى الله عليه وسلم: اسقني. قال: يا رسول الله، إنهم يجعلون أيديهم فيه. قال: اسقني. فشرب منه. ثم أتى زمزم وهم يسقون ويعملون فيها، فقال: اعملوا فإنكم على عمل صالح. ثم قال: لولا أن تغلبوا لنزلت حتى أضع الحبل على هذه، يعني عاتقه، وأشار إلى عاتقه".
في هذا الحديث نجد العباس -وقد كان يشرف على السقاية- أراد أن يسقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ماء آخر يجيء به ابنه الفضل من البيت، وحجته في ذلك أنهم يجعلون أيديهم فيه، ولكن الرسول الكريم أبى إلا أن يكون أسوة للمؤمنين فلا يتميز عليهم، بل يشرب مما يشربون، ولم يكن النبي يرى في الماء ضررا أو يتوقعه، وإلا كان له موقف آخر، إنما هو لون من التقزز أظهره العباس، وكان عليه الصلاة والسلام أقوى على نفسه، وأشد في عزمه من أحاسيس المقززين، كما كان تواضعه يأبى عليه أن ينفرد بشيء عن سائر المسلمين. وفي رواية للطبراني في هذا الحديث أن العباس قال له: إن هذا قد مرث (أي أصابته الأيدي) أفلا أسقيك من بيوتنا؟ قال: "لا، ولكن اسقني مما يشرب منه الناس".
هل في هذا الحديث شيء من قدسية زمزم؟ لا. كل ما فيه ما قاله ابن حجر فيه الترغيب في سقي الماء، خصوصا ماء زمزم، وفيه تواضع النبي صلى الله عليه وسلم وكراهة التقذر والتكره للمأكولات والمشروبات، وأن الأصل في الأشياء الطهارة، لتناوله صلى الله عليه وسلم من الشراب الذي غمست فيه الأيدي.
-
أما صحيح مسلم فأبرز ما ورد فيه عن زمزم حديث أبي ذر: "أنها طعام طعم" ومعنى "طعام طعم" أي يشبع من تناوله.
-
وروى أحمد وابن ماجه عن جابر حديث: "ماء زمزم لما شرب له". قال صيارفة الحديث: وفي إسناده عبد الله بن المؤمل، وقد تفرد به، وهو ضعيف وأعله ابن القطان به. وقد رواه البيهقي من طريق آخر عن جابر. وفيها سويد بن سعيد، وهو ضعيف جدا، قال فيه يحيى بن معين: "لو كان لي فرس ورمح لغزوت سويدا" وذلك لما يرى من خطره على الحديث. وروايته للمناكير.
-
روى الدارقطني عن ابن عباس حديث: "ماء زمزم لما شرب له، إن شربته تستشفي شفاك الله، وإن شربته لشبع أشبعك الله، وإن شربته لقطع ظمأ قطعه الله… الحديث" والصحيح أن هذا الحديث من قول ابن عباس نفسه، وليس مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقد خطأ الحافظ في (التلخيص) الراوي الذي رفع الحديث إلى الرسول، وحكم على روايته بالشذوذ، ومخالفة الحفاظ الثقات. وإذا كان هذا قول ابن عباس رضي الله عنهما، فهو مجرد رأي شخصي رآه، لا يلزمنا اتباعه، ولا الإيمان به معه، ولا حجة في أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم.
-
روى البزار عن أبي ذر حديث: "ماء زمزم طعام طعم وشفاء سقم" وصحح المنذري إسناده ورواه كذلك الطيالسي في مسنده.
ولعل هذا هو الحديث الفذ الذي يمكن أن يستند إليه في شأن زمزم ومائها وأنه طعام وشفاء، ولكن هل يعني هذا الحديث حمايتها من الخضوع للقوانين العامة في الكون، وهل ينفي أن يعرض لها التلوث بسبب ما، وفق سنن الله المطردة؟ وإذا أثبت التحليل العلمي الصحيح أن ماءها قد اعتراه تلوث يخشى ضرره على الشاربين، فهل نكذب نتيجة العلم اعتقادا منا أنه ينافي هذا الحديث؟ والحديث ليس قطعي الدلالة ولا الثبوت، وبخاصة أن كلمة "شفاء سقم" لم ترد في أحد الصحيحين ولا في كتاب من كتب السنة المعتمدة.
وقد قال الله عن العسل: (فيه شفاء للناس) ولا يمنع ذلك أن يصيبه التلوث.
الشرب من زمزم ليس واجبا ولا سنة من سنن الحج
وهناك أمران لابد أن نقررهما في هذا المقام:
أولهما: أن الشرب من ماء زمزم ليس من مناسك الحج أو سنته في أي مذهب من المذاهب المعروفة لدى المسلمين، بل قد نقل أن عبد الله بن عمر لم يكن يشرب من ماء السقاية في الحج -مع شدة تمسكه بالسنن واتباعه للآثار- وق علل هذا منه بأنه خشى أن يظن الناس أن ذلك من تمام الحج.
وقد استدل بعضهم على استحباب الشرب من ماء زمزم بأحاديث شربه عليه السلام منها. ودفع هذه آخرون بأن الشرب أمر جبلي، فلا يدل على الاستحباب إذ لا تأسى في الأمور الجبلية.
والأمر الثاني: أن هذا الذي قررنا إنما هو لذات العلم، أما زمزم فيكفي ارتباطها في أنفسنا بذكريات عزيزة تمتد إلى أبوينا إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام.
ولم يثبت عندي بطريق موثوق به أن ماءها قد تلوث فعلا، وعلى السلطات الصحية في (السعودية) والبلاد الإسلامية أن تتضافر على حماية هذه البئر من كل ما يشوبها، وقاية للصحة، وتجنبا للشكوك والشبهات حول شيء تهفو إليه قلوب المسلمين.
وأحب أن يطمئن الغيورون على دينهم، فإن الإسلام أرسخ قدما، وأثبت أصولا من أن تنال منه مقالة تنشر، أو كتاب يؤلف، أو حملات توجه. إنه الحقيقة التي تزول الدنيا وهي باقية (ويأبى الله إلا أن يتم نوره).