د. يوسف القرضاوي
في حديث ابن عمر السابق الذي رواه الجماعة: "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فرض زكاة الفطر من رمضان على كل حر أو عبد ذكر أو أنثى من المسلمين".
وروى البخاري عنه قال: "فرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زكاة الفطر، صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير، على العبد والحر، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين".
وعن أبي هريرة في زكاة الفطر: "على كل حر وعبد، ذكر وأنثى، صغير أو كبير، فقير أو غني". (رواه أحمد والشيخان والنسائي وهو الحديث رقم (186) من كتاب الزكاة. من الفتح الرباني: 9/139) وهذا من كلام أبي هريرة، ولكن مثله لا يقال بالرأي.
وهذه الأحاديث تدلنا على أن هذه الزكاة فريضة عامة على الرؤوس والأشخاص من المسلمين لا فرق بين حر وعبد، ولا بين ذكر وأنثى، ولا بين صغير وكبير بل لا فرق بين غني وفقير، ولا بين حضري وبدوي، وقال الزهري وربيعة والليث: إن زكاة الفطر تختص بالحضر، ولا تجب على أهل البادية، وظاهر الأحاديث يرد عليهم، فالصواب ما عليه الجمهور (نيل الأوطار: 4/181).
وروى ابن حزم هذا القول عن عطاء، ورد عليه بأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يخص أعرابيًا ولا بدويًا من غيرهم، فلم يجز تخصيص أحد من المسلمين (المحلى: 6/131).
هل تجب على الزوجة والصغير؟
وظاهر قوله: "ذكر أو أنثى" يشهد لما ذهب إليه أبو حنيفة: أنها تجب على المرأة سواء أكان لها زوج أم لا، وأنها تجب على الزوجة في نفسها، ويلزمها إخراجها من مالها، وهو مذهب الظاهرية (الفتح الرباني وشرحه: 9/140 وهو الحديث رقم (187) من كتاب الزكاة فيه).
وعند الأئمة الثلاثة والليث وإسحاق: أن الزوج يلزم إخراج زكاة الفطر عن زوجته؛ لأنها تابعة للنفقة. قال الحافظ: وفيه نظر؛ لأنهم قالوا: إن أعسر وكانت الزوجة أمة وجبت فطرتها على السيد، بخلاف النفقة، فافترقا، واتفقوا على أن المسلم لا يخرج عن زوجته الكافرة، مع أن نفقتها تلزمه، وإنما احتج الشافعي بما رواه من طريق محمد بن على الباقر مرسلاً: "أدوا صدقة الفطر عمن تمونون" (وأخرجه البيهقي: 4/161 من هذا الوجه فزاد في إسناده ذكر على وهو منقطع، وقال ابن حزم: في هذا المكان عجب عجيب، وهو أن الشافعي لا يقول بالمرسل، ثم أخذ ههنا بأنتن مرسل في العالم؛ من رواية ابن أبي يحيى؛ (المحلى: 6/137)، وأخرجه البيهقي من حديث ابن عمر: "ممن تمونون" وإسناده غير قوي كما قال (4/161) وأخرجه أيضًا عنه الدارقطني (نيل الأوطار: 4/181)، وأخرج البيهقي أيضًا عن على: من جرت عليه نفقتك فأطعم عنه، وفيه عبد الأعلى غير قوي كما قال البيهقي، ولكن يقوى بما قبله. قال في البحر: وهو توقيف (2/119)، وانظر: نصب الراية: 2/413).
ومثل هذا لا يحتج به لضعفه، وكان يلزم الشافعي ومن وافقه -كما قال ابن التركماني (الجوهر النقي مع السنن الكبرى: 4/160)- الإخراج عن أجيره ورقيقه الكافر؛ لأنه يمونهما.
وهكذا قال الإمامية: إن زكاة الفطر عن نفسه وعن كل من يعول (فقه الإمام جعفر: 2/103 - 104).
وقال الليث: يخرجها عن أجيره الذي ليست أجرته معلومة، فإن كانت أجرته معلومة فلا يلزمه إخراجها عنه (المحلى: 6/127).
أما الزيدية فاقتصروا على كل من تلزمه نفقته بقرابة أو زوجية أو رق (البحر: 2/199).
وقوله "صغير أو كبير" يدل على وجوبها على الصغير في ماله إن كان له مال، ويخرجها الولي منه كزكاة الأموال. فإن لم يكن له مال، فإن فطرته تجب على من تلزمه نفقته، وإلى هذا ذهب الجمهور.
وقال محمد بن الحسن: هي على الأب مطلقًا، فإن لم يكن له أب فلا شيء عليه (المرجع السابق ص 135، وانظر: نيل الأوطار: 4/180 - 181، والمحلى: 6/137).
وعن سعيد بن المسيب والحسن البصري: لا تجب إلا على من صام ؛ لأنها وجبت تطهيرًا، والصبي ليس محتاجًا إلى تطهير، لعدم الإثم في حقه.
بدليل حديث ابن عباس قال: فرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث.
وأجيب بأن ذكر التطهير خرج مخرج الغالب (المصادر السابقة). كما أن بعض الأحاديث ذكرت حكمة أخرى لإيجاب هذه الزكاة، وأنها "طعمة للمساكين" وكما جاء في حديث: "أغنوهم في هذا اليوم".
فإذا كانت هذه الزكاة تطهيرًا من جانب، فهي طعمة وإغناء من جانب آخر، وهذه حكمة تنطبق على الصغير، كما تنطبق على الكبير.
هل تجب عن الجنين؟
أما الجنين، فجمهور الفقهاء على أن زكاة الفطر لا تجب عنه.
وقال ابن حزم: إذا أكمل الجنين في بطن أمه مائة وعشرين يومًا قبل انصداع الفجر من ليلة الفطر، وجب أن تؤدى عنه صدقة الفطر. لما صح في الحديث أنه ينفخ فيه الروح حينئذ.
واحتج ابن حزم بأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- فرض صدقة الفطر على الصغير والكبير، والجنين يقع عليه اسم "صغير" فكل حكم وجب على الصغير فهو واجب عليه.
وروى ابن حزم عن عثمان بن عفان: أنه كان يعطى صدقة الفطر عن الصغير والكبير والحمل.
وعن أبي قلابة قال: كان يعجبهم أن يعطوا زكاة الفطر عن الصغير والكبير حتى عن الحمل في بطن أمه. قال ابن حزم، وأبو قلابة أدرك الصحابة وصحبهم وروى عنهم.
وعن سليمان بن يسار: أنه سئل عن الحمل أيزكي عنه؟ قال نعم.
قال: ولا يعرف لعثمان في هذا مخالف من الصحابة (المحلى: 6/132).
والحق أن كل ما ذكره ابن حزم لا دليل فيه على وجوب التزكية عن الحمل، ومن التعسف أن يقال: إن كلمة "صغير" في الحديث تشمل الحمل. كما أن ما روى عن عثمان وغيره لا يدل على أكثر من الاستحباب، ومن تطوع خيرًا فهو خير له.
وقد ذكر الشوكاني: أن ابن المنذر نقل الإجماع على أنها لا تجب عن الجنين، وكان أحمد يستحبه ولا يوجبه (نيل الأوطار: 4/181).
هل يشترط لها النصاب؟
وقول ابن عمر في حديثه: "كل حر أو عبد" يشمل الغني والفقير الذي لا يملك نصابًا، كما صرح به أبو هريرة في حديثه: "غني أو فقير" وإلى ذلك ذهب الأئمة الثلاثة والجمهور، ولم يشترطوا لوجوبها إلا الإسلام وأن يكون مقدار هذه الزكاة الواجبة فاضلاً عن قوته وقوت من تلزمه نفقته يوم العيد وليلته وفاضلاً عن مسكنه وأثاثه وحوائجه الأصلية.
قال الشوكاني: وهذا هو الحق؛ لأن النصوص أطلقت ولم تخص غنيًا ولا فقيرًا، ولا مجال للاجتهاد في تعيين المقدار الذي يعتبر أن يكون مخرج الفطرة مالكًا له، ولا سيما والعلة التي شرعت لها الفطرة موجودة في الغني والفقير وهي التطهر من اللغو والرفث، واعتبار كونه واجدًا لقوت يوم وليلة أمر لا بد منه؛ لأن المقصود من شرع الفطرة إغناء الفقراء في ذلك اليوم، فلو لم يعتبر في حق المخرج ذلك لكان ممن أمرنا بإغنائه في ذلك اليوم، لا من المأمورين بإخراج الفطرة، وإغناء غيره. (نيل الأوطار: 4/186)
وخالفهم أبو حنيفة وأصحابه فقالوا: لا تجب إلا على من يملك نصابًا، بدليل حديث البخاري (رواه معلقًا في كتاب الوصايا من صحيحه وتعليقاته المجزومة لها حكم الصحة، كما هو رأي الجمهور، خلافًا لابن حزم)، والنسائي: "لا صدقة إلا عن ظهر غنى" والغنى عندهم ملك النصاب، والفقير لا غنى له، فلا تجب عليه؛ لأنه تحل له الصدقة فلا تجب عليه، كمن لا يقدر عليها. كما استدلوا بالقياس على زكاة المال.
وأجاب الآخرون -كما ذكر الشوكاني- بأن الحديث الذي ذكروه لا يفيد المطلوب، فقد رواه أبو داود (كذا اقتصر الشوكاني على أبي داود، والحديث أخرجه أيضًا البخاري في كتاب النفقات والنسائي في كتاب الزكاة، وأحمد في المسند: (2/245 - 278) وعند مسلم في الزكاة: "أفضل الصدقة -أو خير الصدقة- عن ظهر غنى") بلفظ: "خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى"، وهو معارض أيضًا بحديث أبي هريرة -عند أبي داود والحاكم- مرفوعًا: "أفضل الصدقة جهد المقل"، وبحديث أبي أمامة عند الطبراني مرفوعًا: "أفضل الصدقة: سر إلى فقير، وجهد من مقل" وفسره في "النهاية" بقدر ما يحتمل حال قليل المال.
وبحديث أبي هريرة عند النسائي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحه -اللفظ له- والحاكم -وصححه على شرط مسلم- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "سبق درهم مائة ألف درهم"! فقال رجل: وكيف ذاك يا رسول الله؟ قال: "رجل له مال كثير، أخذ من عرض ماله مائة ألف درهم فتصدق بها، ورجل ليس له إلا درهمان فأخذ أحدهما فتصدق به، فهذا تصدق بنصف ماله"…. الحديث.
وأما استدلالهم بالقياس على زكاة المال فغير صحيح - كما قال الشوكاني ؛ لأنه قياس مع الفارق؛ إذ وجوب الفطرة متعلق بالأبدان، ووجوب الزكاة الأخرى متعلق بالأموال، فافترقا (انظر: نيل الأوطار: 4/185 - 186).
وأما قولهم: الغنى ملك النصاب، والفقير لا غنى له، فلا تجب عليه فقد رد عليهم أيضًا بعموم الأحاديث الصحيحة المروية في إيجاب زكاة "الفطر" على كل مسلم بما في ذلك الغني والفقير، وبما صرح به أبو هريرة في حديثه: "غني أو فقير"، وما رواه أحمد وأبو داود عن ثعلبة بن أبي صغير عن أبيه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أدوا صدقة الفطر صاعًا من قمح -أو قال: بر- عن كل إنسان صغير أو كبير، حر أو مملوك، غني أو فقير، ذكر أو أنثى. أما غنيكم فيزكيه الله، وأما فقيركم فيرد الله عليه أكثر مما أعطى"، وفي رواية أبي داود: "صاع من بر أو قمح عن كل اثنين".
ولأن هذه الصدقة -كما قال ابن قدامة- حق مال لا يزيد بزيادة المال، فلا يعتبر وجوب النصاب فيها كالكفارة، ولا يمنع أن يؤخذ منه ويعطى، كمن وجب عليه العشر في زرعه وهو بعد محتاج إلى ما يكفيه وعياله.
وحديث: "لا صدقة إلا عن ظهر غنى" محمول على صدقة المال وهذه صدقة خاصة عن البدن والنفس (انظر: المغنى: 3/74).
والذي أراه: أن للشارع هدفًا أخلاقيًا تربويًا -وراء الهدف المالي- من فرض هذه الزكاة على كل مسلم غني أو فقير. ذلك هو تدريب المسلم على الإنفاق في الضراء كما ينفق في السراء، والبذل في العسر، كما يبذل في اليسر، ومن صفات المتقين التي ذكرها القرآن أنهم {يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء} (آل عمران: 134)؛ وبهذا يتعلم المسلم -وإن كان فقير المال، رقيق الحال- أن تكون يده هي العليا، وأن يذوق لذة الإعطاء والإفضال على غيره، ولو كان ذلك يومًا في كل عام، ولهذا أرجح مذهب الجمهور الذين لم يشترطوا لوجوب هذه الزكاة ملك النصاب.
كما أرجح رأي أبي حنيفة وغيره ممن أوجبها على الزوجة في مالها، لما فيه من إشعار المرأة المسلمة بهذا الواجب السنوي، وتعويدها البذل من مالها الخاص، لا مجرد الاعتماد على الزوج. فإذا تطوع الزوج فأخرج عنها جاز.
شرط وجوب زكاة الفطر على الفقير:
وشرط الجمهور لإيجاب هذه الزكاة على الفقير أن يكون عنده مقدارها فاضلاً عن قوته وقوت من تلزمه نفقته ليلة العيد ويومه، وأن يكون فاضلاً عن مسكنه ومتاعه وحاجاته الأصلية. فمن كان له دار يحتاج إليها لسكناها أو إلى أجرها لنفقته، أو ثياب بذله له أو لمن تلزمه مؤنته، أو بهائم يحتاج إلى ركوبها والانتفاع بها في حوائجه الأصلية، أو سائمة يحتاج إلى نمائها كذلك، أو بضاعة يختل ربحها الذي يحتاج إليه بإخراج الفطرة منها - فلا فطرة عليه؛ لأن هذا مما يتعلق به حاجته الأصلية فلم يلزمه بيعه كمؤنة نفسه، ومن له كتب يحتاج إليها للنظر فيها والحفظ منها لا يلزمه بيعها، والمرأة إذا كان لها حلى للبس، أو لكراء تحتاج إليه، لم يلزمها بيعه في الفطرة، وما فضل من ذلك عن حوائجه الأصلية، وأمكن بيعه وصرفه في الفطرة وجبت الفطرة به؛ لأنه أمكن أداؤها من غير ضرر أصلى. فأشبه ما لو ملك من الطعام ما يؤديه فاضلاً عن حاجته (انظر: المغنى: 3/76، والروضة: 2/299 - 300).
الدين المؤجل لا يمنع زكاة الفطر:
ومن كان في يده ما يخرجه عن صدقة الفطر، وعليه دين مثله، لزمه أن يخرج الصدقة؛ إلا أن يكون مطالبًا بالدين، فعليه قضاء الدين ولا زكاة عليه.
قال ابن قدامة: إنما لم يمنع الدين الفطرة (كما يمنع زكاة المال)؛ لأنها آكد وجوبًا؛ بدليل وجوبها على الفقير، وشمولها لكل مسلم قدر على إخراجها ووجوب تحملها عمن وجبت نفقته على غيره، ولا تتعلق بقدر من المال، فجرت مجرى النفقة؛ ولأن زكاة المال تجب بالملك، والدين يؤثر في الملك فأثر فيها، وهذه تجب على البدن (يعنى على الشخص) والدين لا يؤثر فيه، وتسقط الفطرة عند المطالبة بالدين ؛ لوجوب أدائه عند المطالبة وتأكده بكونه حق آدمي معين لا يسقط بالإعسار، وكونه أسبق سببًا وأقدم وجوبًا يأثم بتأخيره، فإنه يسقط غير الفطرة، وإن لم يطالب به ؛ لأن تأثير المطالبة إنما هو في إلزام الأداء وتحريم التأخير (المرجع السابق).
..................
من كتاب "فقه الصيام" لفضيلة الشيخ.