د. يوسف القرضاوي

اعتاد مصنفو الفقه الإسلامي من قديم: أن يبدأوا كتبهم بباب (الطهارة) أو كتاب (الطهارة).

وذلك باعتبار أنهم يبدأون بـ(فقه العبادات) قبل (فقه المعاملات) بناء على أن أعظم الحقوق على المخلوق: هو حق خالقه عز وجل، وهو حق عبادته وحده لا شريك له، وهذه العبادة هي الغاية الأولى، التي لأجلها خلق الله المكلفين من عباده، كما قال تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) الذاريات: 56 ثم تأتي حقوق عباده، لهذا كان الحديث عن العبادة أوَّلا، ثم إن أولى العبادات وأعظمها هي: الصلاة عمود الدين، وإن أول شروط الصلاة هو (الطهارة).

والطهارة معناها في لغة العرب: النظافة، وفي اصطلاح الفقهاء: نظافة من نوع خاص، فيها معنى التعبد لله تعالى، فهي من الأعمال التي يحبها الله من خلقه، كما قال تعالى في الثناء على صنف من الرجال: (فيه رجال يحبون أن يتطهروا، والله يحب المطهرين) التوبة: 108.

وقال تعالى في شأن النساء الحُيّض: (ولا تقربوهن حتى يطهرن، فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله، إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) البقرة: 222.

وقال صلى الله عليه وسلم: " الطُّهور شطر الإيمان "[1]وقد يراد بالطهور أو الطهارة: الطهارة الحسية التي تدرك بالبصر؛ وقد يُراد بها الطهارة المعنوية التي تدرك بالبصيرة.

ويقابلها النجاسة، وهي أيضا حسّية تزال بالماء والمطهرات الحسية، ومعنوية لا تزال إلا بالإيمان والتوبة، كنجاسة الشرك والمعاصي، كما قال تعالى: (إنما المشركون نجس) التوبة: 28.

والمراد بالطهارة في مجالنا هذا: الطهارة الحسية التي تستخدم الماء، والمطهرات الحسية لتحقيق أثرها.

ولهذا جعلت الطهارة مقدمة للصلاة، ومفتاحا لبابها، فمفتاح الجنة: الصلاة، ومفتاح الصلاة: الطهور.

وفي الحديث الصحيح: " لا يقبل الله صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غُلُول"[2] والغلول: الأخذ من المال العام بغير حق، فهو ضرب من الخيانة، فمن تصدق به لم يقبل منه، لأنه تصدق من غير ماله الذي يملكه بالحلال، كما لا تقبل صلاة من صلى بغير طهارة.

واشتراط الطهارة في الصلاة موافق للحكمة وللفطرة، فالناس لا يقابلون رؤساءهم وكبراءهم، إلا على أحسن حال تمكنهم، فكيف بلقاء رب الناس، ملك الناس، إله الناس؟

والطهارة نوعان: طهارة من (الخَبَث)، وطهارة من (الحَدَث).

والطهارة من الخبث تعني: التطهر من نجاسة عينية حسية تصيب الأبدان والثياب والأمكنة، ولها طعم ولون ورائحة. أما الطهارة من الحدث، فتعني: التطهر من نجاسة حكمية، أي لا يوجد لها في الخارج شيء حسي تبصره العين، أو تلمسه اليد، أو يشمه الأنف، أو يذوقه اللسان، بل هي أمر حكم الشرع به ـ يوجب الوضوء إذا كان حدثا أصغر، أو الغسل إذا كان حدثا أكبر، وسنعود إلى ذلك فيما بعد.

حكمة التطهر والتطهير

وقد تميز الإسلام بالحرص على التطهر والتطهير، حِسًّا ومعنى، وكان من أوائل ما نزل من القرآن: (وثيابك فطهر) المدثر: 4، بل زاد على ذلك التزين والتجمل، فكان من أوامر القرآن المكي: (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد) الأعراف: 31، وقال رسول الإسلام: "إن الله جميل يحب الجمال" رواه مسلم.

و لم يهتم دين بالطهارة والنظافة عموما كما اهتم دين الإسلام، فاهتم بنظافة الإنسان، ونظافة البيت، ونظافة الطريق، ونظافة المسجد، وغير ذلك، حتى شاع بين المسلمين دون غيرهم: هذه الكلمة " النظافة من الإيمان "، في حين كان بعض رجال الأديان في العصور الوسطى ـ كالرهبان في الغرب ـ يتقربون إلى الله بالقذارة والبعد عن استخدام الماء، حتى قال أحدهم: يرحم الله القديس فلانا، لقد عاش خمسين سنة ولم يغسل رجليه!

وقال آخر: لقد كان مَن قبلنا يعيش أحدهم طول عمره لا يبل أطرافه بالماء، ولكنا أصبحنا في زمن يدخل فيه الناس الحمامات![3]

ومما تجلى للراسخين في العلم، الذين جمعوا بين صحيح المنقول، وصريح المعقول من علماء الإسلام: أنَّ الخُبث والطِيب أمران معقولان في الأفعال: كالحُسْن والقُبح، وفي الأعيان: كالمستقذر والمُستطاب، وأنه لا شكَّ في مناسبة ملابسة الطَّيِّبات، ومجانبة الخبائث، غير أن العقل لا يستفصلها، وإنَّما قد يُدرك الفرد منها، أو الأفراد: كالعدل والظلم، وكالماء والعَذِرَة، فجاء الشَّرع بتفاصيلها بتعيين محالها في المحسوسات، وبيان حدودها في المعقولات، وأمر بالبُعد عنها قبل ملابستها، وأمر بتبعيدها وإزالتها بعد ملابستها، وسمَّى ذلك: تطهيرا وتزكية، ففي المعاني: بالتَّوبة والكفَّارات، وفي المحسوسات: بالتطهير بالماء ونحوه، ولذا جمع بينهما سبحانه بقوله تعالى: (إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) البقرة: 222.

ثم إن شرف المخلوق إنما هو بانتسابه إلى خالقه، فاختلفت أحواله، فشرع له التَّنزُّه عن النجاسة في كل حال، وأوجب التَّنزه في أحوال إقباله على ربه كالصلاة، فإنها غاية القرب، ولذا ناسبتها الزينة: (خذوا زينتكم عند كل مسجد) الأعراف:31، ويقرب منها الطواف (أي بالكعبة)، وتوسط حال ما هو دون ذلك كتلاوة القرآن وسائر أحوال الحج، لعدم الاستغراق في الإقبال، أو للرفق بالعبد. وكذلك اختلفت الخبائث في ذات بينها للأمرين، أعني قوة الاستخباث أو الرفق، والإحاطة بتفاصيل ما ذكرنا يختص بها علام الغيوب، وإنما أعطى سبحانه العقل أمرا مجملا، ولوائح من التفصيل، بحيث يقبل ما يرد عليه من التفاصيل بعد علمه بحكمه الحكيم تعالى، ولذا نقول: مَنْ لم يعلم الحكمة، فهو متزلزل القواعد في دينه"[4].

 

[1] رواه مسلم من حديث أبي مالك الأشعري، وهو من أحاديث الأربعين النووية الشهيرة.

[2] رواه مسلم (329) عن ابن عمر.

[3] ذكر ذلك العلامة أبو الحسن الندوي في كتابه القيم (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟) في حديثه عن الطهارة.

[4] انظر: حاشية المنار في المختار لصالح مهدي المقبلي (1/26).