السؤال: تخصص كثير من الصحف والمجلات جانبًا منها - صفحة أو جزءًا من صفحة - تحدث الناس فيه عما ينتظرهم في يومهم أو غدهم من خير أو شر، تحت عنوان "حظك اليوم" أو ماذا تقول الطوالع؟ أو أنت والنجوم أو نحو ذلك من العناوين. وهي في العادة تخبر الناس بحظوظهم حسب تواريخ ميلادهم التي تتوزع على البروج المعروفة، وعددها اثنا عشر.
ومن الناس من يصدق ما تكتبه هذه الصحف، فيفرحون ويتفاءلون إذا بشرتهم بسرور، ويحزنون ويتشاءمون إذا أنبأتهم بسوء ينتظرهم. وقد تصدق هذه في بعض الأحيان فيزدادون تصديقًا بهذه الطوالع والأخبار، واعتقادًا بصحتها. وبعض الناس يقرؤها لمجرد التسلية وإن كان لا يصدقها ولا يؤمن بها. نرجو إبداء الرأي في هذا الموضوع وبيان حكم الشرع فيه، ولكم الشكر
جواب فضيلة الشيخ:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومن اتبعه إلى يوم الدين، وبعد:
جاء الإسلام ليحرر الناس من الأوهام والأباطيل في أي صورة كانت، وفي سبيل ذلك ربط الناس بسنة الله تعالى في خلقه، وأمرهم باحترامها ورعايتها، إن هم أرادوا السعادة في الدنيا، والفلاح في الآخرة. ومن أجل هذا شن الإسلام حملة واسعة على ما أشاعته الجاهلية من خرافات وأوهام ما أنزل الله بها من سلطان، ولا قام عليها برهان، وشدد النكير على أصحابها والمتجرين بها في سوق التضليل والاستغلال للغافلين من العوام وأشباه العوام الذين لا يخلو منهم مجتمع في أي عصر كان.
ومن ذلك: السحر والكهانة والعرافة والتنجيم، وادعاء معرفة الغيب المستور بوسائط علوية أو سفلية تخرق حجاب الغيب، وتنبئ عما يكنه صدر الغد المجهول، عن طريق النجوم أو الاتصال بالجن، أو الخط في الرمل، أو غير ذلك من أباطيل الجاهليات شرقيها وغربيها. وحسبنا أن نقرأ بعض آيات القرآن الكريم، وبعض أحاديث النبي الكريم، لنتبين ضلال هؤلاء الأفاكين..
يقول الله تعالى في سورة النمل: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} (النمل:65)، فقد نفى عن أهل السموات والأرض علم الغيب، الذي خص به نفسه سبحانه. وفي سورة الأعراف: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (لأعراف:188).
فقد أمر خاتم رسله هنا أن يُعلن أنه لا يعلم الغيب المستور؛ ولهذا يُصيبه ما يُصيب غيره من البشر، ولو كان في قدرته معرفة الغيوب المكنونة لاستكثر من الخير وما مسه السوء. وفي سورة الجن يقول تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} (الجـن:26-27). فوصف الله تعالى نفسه بأنه وحده عالم الغيب، وأنه لا يُطلع على هذا الغيب أحدًا من خلقه، إلا من ارتضى من رسول، وأنه يعلمه منه بقدر ما تقتضيه مشيئته وحكمته.
وتقرأ في أحاديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن أتى عرافًا فسأله عن شئ؛ لم تُقبل له صلاة أربعين ليلة" رواه مسلم عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم.
"من أتى كاهنًا فصدَّقه بما يقول؛ فقد كفر بما أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم" رواه البزار بإسناد جيد قوي عن جابر.
"من أتى عرافًا أو ساحرًا أو كاهنًا، يؤمن بما يقول؛ فقد كفر بما أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم" رواه الطبراني عن ابن مسعود ورجاله ثقات.
والعراف والكاهن والمنجم كلهم من فصيلة واحدة، وهم الذين يدعون معرفة الغيوب والمضرات عن طريق الجن والنجوم وغيرها.
وقد كان لكثير من الأمم اعتقادات في النجوم وتأثيرها في أحداث الكون، حتى ألّهها بعضهم وعبدوها من دون الله، أو أشركوها مع الله تعالى، ومن لم يعبدها صراحة أضفى عليها من التقديس ما يجعلها في حكم المعبود! ومن بقايا ذلك: الاعتقاد بأن ما يجري في عالمنا الأرضي من أموره، له صله بتلك النجوم العلوية، إيجابًا أو سلبًا، وأن السعود والنحس، والسرور والحزن، والغلاء والرخص، والسلم والحرب، مرتبطة بحركات الأفلاك وسير النجوم.
وهذا ما يرفضه الإسلام جزمًا، فالنجوم ما هي إلا جزء من مخلوقات الله تعالى في هذا الكون العريض، والعلوية والسفلية بالنسبة لها أمور نسبية، وهي كائنات مُسخَّرة لخدمتنا كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}. (الأنعام:97)، وقال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (النحل:12)..
وقال: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} (الملك: 5)؛ ومن هنا كان علم "التنجيم" القائم على ادعاء معرفة الغيب علمًا جاهليًا مرفوضًا في الإسلام، ومعتبرًا من ضروب السحر كما في حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: "مَن اقتبس شعبة من النجوم؛ اقتبس شُعبة من السحر، زاد ما زاد" رواه أبو داود وابن ماجة.
قال العلماء: والمنهي عنه من علم النجوم هو ما يدعيه أهلها من معرفة الحوادث الآتية في مستقبل الزمان، مثل تغير الأسعار، ووقوع الحروب ونحو ذلك، ويزعمون أنهم يدركون ذلك بسير الكواكب واقترانها وافتراقها، وظهورها في بعض الأزمان.. وهذا علم استأثر الله به لا يعلمه أحد غيره. فأما ما يعرف عن طريق المشاهدة من علم النجوم الذي يُعرف به الزوال وجهة القبلة.. إلخ فإنه غير داخل في النهي. ومثل هذا ما يقوم عليه علم الفلك المبني على الملاحظة والتجربة والقياس. فهذا محمود، وقد كان لعلماء المسلمين فيه اليد الطولي.
ومِن هنا تكون فكرة ربط حظوظ الناس وما يحدث لهم بالطوالع والنجوم حسب تواريخ ميلادهم؛ فكرة جاهلية لا يؤيدها نقل ولا عقل، ولا تقوم على أساس من دين ولا علم. ومَن جادل في شأنها جادل بلا علم ولا هدى ولا كتاب منير. والحقيقة أن وجود هذه الظاهرة وانتشارها، واهتمام الصحف بها، وحرص كثير من الناس على قراءتها، بل تصديقها في بعض الأحيان؛ ليدل على عدة حقائق هامة:
1- وجود فراغ في حياة الناس في هذا العصر، ولا أعني بالفراغ فراغ الوقت، بل فراغ الفكر والنفس: الفراغ العقائدي والروحي، والفراغ دائمًا يتطلب ملؤه بأي صورة من الصور؛ ولهذا قيل: مَن لم يشغل نفسه بالحق شغلته نفسه بالباطل.
2- غلبة القلق النفسي وفقدان الشعور بالأمان والسكينة، أعني الأمان الداخلي والسكينة النفسية، وهما سر السعادة. وهذا أمر يسود العالم كله، حتى أولئك الذين بلغوا أرقي مستويات المعيشة المادية، وسخَّر لهم العلم أزمَّة الأشياء، يحيون في توتر واضطراب ومخاوف.
3- وهذا القلق وذاك الفراغ، هما في الواقع نتيجة لفقدان شئ مهم غاية الأهمية في حياة الإنسان وفي تقرير مصيره، وهذا الشيء هو: الإيمان، فالإيمان هو مصدر الأمن والطمأنينة. وصدق الله إذ يقول: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (الأنعام:82)، {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (الرعد:28).
4- وأمر آخر وراء هذه الظاهرة، وهو ضعف الوعي الديني السليم، وأعني به الوعي المستمد من الينابيع الصافية للإسلام: مِن محكم القرآن والسنة، كما فهمها السلف الصالح، بعيدًا عن الشوائب والبدع والانحرافات. هذا الوعي هو الذي تصفو به العقيدة، وتصح العبادة، ويستقيم السلوك، ويستنير العقل، ويشرق القلب، وتتجدد الحياة. ولو وعى الناس وفقهوا أن الغيب لا يعلمه إلا الله، وأن نفسًا لا تدري ماذا تكسب غدًا، وأن التهجم على ادعاء الغيب ضرب من الكفر، وأن تصديق ذلك ضرب من الضلال، وأن العرافين والكهنة والمنجمين وأشباههم كذبة مضللون؛ ما نفقت سوق هذا الباطل، ولا وُجِد من يكتبه أو يقرؤه بين المسلمين، وبالله التوفيق.
والله أعلم