الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد

فردا على سؤال ورد من الأخ الكريم: الدكتور جمال محمد موسى، عن المشروع المسمى بـ (الجمعة الإسلامية للمسلمين في شارلوت)، والذي يحوي (مسجد النور، وحضانة، ومدرسة إسلامية، ومطبخا تجاريا، وصالة طعام، وثلاثة ملاعب)، حيث تم تسجيله ضمن (أوقاف الجمعية الإسلامية الأمريكية) في عام 2010م وقد عرضت (الجمعية الإسلامية الأمريكية) هذا المشروع للبيع مؤخرا..

وبناء على المعلومات الواردة في السؤال، نجيب بما يلي:

الوقف له منزلة عظيمة في الشرع، وقد حضت عليه الشريعة، لما فيه من بر، وخير وإحسان، ومنفعه لمن أقاموه في دينهم ودنياهم، بإنشاء المساجد، والمدارس، والمؤسسات التي ينتفع بها الناس، ومواساة الفقراء في الدنيا، وتحصيل الثواب في الآخرة.

وهو من أفضل الصدقات التي حث الله عليها، ورغب فيها رسوله، ومن أجل وأعظم أعمال القرب التي لا تنقطع بعد الموت؛ لأن الوقف من الصدقات الجارية، أي: الدائمة؛ لما فيه من تثبيت الأصل، وتسبيل الثمرة.

وقد ثبتت مشروعيته بالقرآن والسنة والإجماع.

ففي القرآن: قال تعالى "مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ"، وقال تعالى: "وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ"، وقال تعالى: "لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ" (آل عمران:92)

وفي السنة: روى الإمام مسلم في صحيحه، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له".

وفي الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: أصاب عمر بخيبر أرضا، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أصبت أرضا، لم أصب مالا قط أنفس منه، فكيف تأمرني به؟ قال "إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها". فتصدق عمر: أنه لا يباع أصلها، ولا يوهب، ولا يورث، في الفقراء، والقربى، والرقاب، وفي سبيل الله، والضيف، وابن السبيل، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، أو يطعم صديقا غير متمول فيه.

وفي رواية البخاري من طريق صخر بن جويرية، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن عمر تصدق بمال له على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يقال له ثمغ وكان نخلا، فقال عمر: يا رسول الله، إني استفدت مالا وهو عندي نفيس، فأردت أن أتصدق به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "تصدق بأصله، لا يباع ولا يوهب ولا يورث، ولكن ينفق ثمره"، فتصدق به عمر، فصدقته تلك في سبيل الله وفي الرقاب والمساكين والضيف وابن السبيل ولذي القربى، ولا جناح على من وليه أن يأكل منه بالمعروف، أو يوكل صديقه غير متمول به.

وقال أبو عيسى الترمذي رحمه الله صاحب السنن بعد أن ساق حديث عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: (والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وغيرهم لا نعلم بين المتقديمن منهم في ذلك اختلافا في إجازة وقف الأرضين وغير ذلك)(1).

وقال البغوي في شرح السنة: (والعمل على هذا عند عامة أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ومن بعدهم من المتقدمين، لم يختلفوا في إجازة وقف الأرضين وغيرها من المنقولات، وللمهاجرين والأنصار أوقاف بالمدينة، وغيرها لم ينقل عن أحد منهم أنه أنكره، ولا عن واقف أنه رجع عما فعله لحاجه وغيرها)(2).

وقد كان الوقف أحد معالم الحضارة الإسلامية، التي كان لها إسهامها وآثارها في تميز الأمة الإسلامية، بالمشاريع الكبرى: الدينية، والثقافية، والتعليمية، والصحية، والاجتماعية، وغيرها.. والتي بدأت منذ عهد الصحابة، واستمرت إلى يومنا هذا.

وقد أحاط الشرع الوقف بمجموعة من الضوابط والقيود، تضمن بقاءه كتشريع، وبقاء نفع الموقوف عبر العصور. وعني الفقهاء بالوقف، وحرصوا على جريان منافعه، ووضعوا الأحكام التي تمنع العبث به، حرصا على عدم انقطاع أجر الموصي، وحرصا كذلك على منفعة الموصي لهم.

الأصل في الوقف عدم جواز بيعه:

ومن الأحكام في باب الوقف: عدم جواز بيعه وهو الأصل في الوقف، والعمدة في ذلك حديث عمر بن الخطاب المتفق عليه، كما سبق، وفي رواية البخاري، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "تصدق بأصله، لا يباع ولا يوهب ولا يورث، ولكن ينفق ثمره".

ولا يعلم خلاف بين الفقهاء في عدم جواز بيع الوقف، إلا ما ذكر عن أبي حنيفة رحمه الله، قال ابن حجر رحمه الله: (وقال أبو حنيفة: لا يلزم. وخالفه جميع أصحابه إلا زفر بن الهذيل فحكى الطحاوي عن عيسى بن أبان قال: كان أبو يوسف يجيز بيع الوقف، فبلغه حديث عمر هذا، فقال: من سمع هذا من بن عون، فحدثه به بن عُلَيًِة فقال: هذا لا يسع أحدا خلافه، ولو بلغ أبا حنيفة لقال به. فرجع عن بيع الوقف حتى صار كأنه لا خلاف فيه بين أحد. اهـ.

ومع حكاية الطحاوي هذا فقد انتصر كعادته فقال: قوله صلى الله عليه وسلم في قصة عمر "حبس الأصل وسبل الثمرة": لا يستلزم التأبيد، بل يحتمل أن يكون أراد مدة اختياره لذلك. اهـ

ولا يخفى ضعف هذا التأويل ولا يفهم من قوله وقفت وحبست إلا التأبيد حتى يصرح بالشرط عند من يذهب إليه وكأنه لم يقف على الرواية التي فيها حبيس مادامت السماوت والأرض. قال القرطبي: رد الوقف مخالف للإجماع، فلا يلتفت إليه وأحسن ما يعتذر به عمن رده ما قال أبو يوسف فإنه أعلم بأبي حنيفة من غيره)(3).

حكم بيع الوقف عند تعطل منفعته:

أما إذا تعرض الوقف إلى ما قد يعطل منفعته المرجوة منه، أو خرب أو ضاق على أهله ولم يمكن توسيعه ونحو ذلك من الأسباب التي تنقص أو تمنع الانتفاع به،

فقد ذهب الإمام مالك والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه إلى عدم جواز بيع الوقف واستبداله بغيره مطلقا أخذا بعموم هذا الحديث، وللإمام أحمد رواية أخرى وهو أنه لا يجوز بيعه ولا استبداله بغيره، إلا أن تتعطل منافعه بالكلية، ولا يمكن الانتفاع به ولا تعميره وإصلاحه أو دعت المصلحة إلى ذلك(4)، واستدل على ذلك بما فعله عمر رضي الله عنه حين بلغه أن بيت المال الذي بالكوفة نقب، فكتب إلى سعد أن انقل المسجد الذي بالتمارين، واجعل بيت المال في قبلة المسجد. يقول ابن قدامة: (ولنا ما روي أن عمر رضي الله عنه، كتب إلى سعد، لما بلغه أنه قد نقب بيت المال الذي بالكوفة، أن انقل المسجد الذي بالتمارين، واجعل بيت المال في قبلة المسجد، فإنه لن يزال في المسجد مصل. وكان هذا بمشهد من الصحابة، ولم يظهر خلافه، فكان إجماعا. ولأن فيما ذكرناه استبقاء الوقف بمعناه عند تعذر إبقاءه، بصورته، فوجب ذلك، كما لو استولد الجارية الموقوفة، أو قبلها غيره)(5).

وقال ابن تيميه رحمه الله: (بيع الوقف الصحيح اللازم الذي يحصل به مقصود الوقف من الانتفاع لا يجوز، ولا يصح وقف المشتري له، ولا يجوز للناظر على الوقف الثاني أن يصرفه إلى غير المستحقين قبل، ولا يتصرف فيه بغير مسوغ شرعي سواء تصرف بحكم النظر الباطل، أو بغير ذلك. والله أعلم)(6)، وقال أيضا: (يجوز عندنا بيع الوقف إذا تعطلت منفعته)(7).

وختاما:

نخلص من ذلك إلى أن الأصل تحريم بيع الوقف ما لم تتعطل منافعه بالكلية، ووضع ثمنه في وقف آخر ينتفع منه، وعدم جواز بيعه حتى إذا ضعفت منافعه، وإن كان غيره أكثر مردودا في نفعه.

وبالنسبة لموضوع السؤال، فبعد أن تم تسجيل مشروع (الجمعية الإسلامية للمسلمين في شارلوت)، ضمن (أوقاف الجمعية الإسلامية الأمريكية) في عام 2010م.. صار ذلك وقفا. وعليه لا يجوز للجمعية الإسلامية الأمريكية، وغيرها من القائمين على الأوقاف في أمريكا، حل وقف (الجمعية الإسلامية للمسلمين في شارلوت)، ولا التصرف فيه بالبيع أو بغيره، بما يخرجه عن وقفيته ما دامت منافع الوقف باقية لم تتعطل كلية، لقوله صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه لما استأمره في شأن ارض خيبر: "تصدق بأصله، لا يباع ولا يوهب ولا يورث".

كما أن من الواجب على القائمين على الأوقاف ألا تنتظر حتى تتعطل منافعها، أو تخرب كلية.. وخصوصا إذا كان الوقف يضم مسجدا. بل يجب أن تسعى لإعمارها والمحافظة عليها بالرعاية والنظافة والصيانة، وتهيئة الظروف لقيامها بمهمتها الأساسية من العبادة فيها وأداء الصلوات، وإقامة الدروس، وتعليم الناس ما ينفعهم في دينهم وفي دنياهم.

فلقد كان المسجد ولا زال أهم مؤسسة عند المسلمين، وأول عمل قام به النبي صلى الله عليه وسلم بعد قدومه إلى المدينة المنورة، وقد كان مسجده صلى الله عليه وسلم مكانا للصلاة والعبادة، وكان مدرسة يتعلم فيها المسلمون ما يحتاجونه من أمور دينهم ودنياهم، وكان محل الاجتماعات العامة يلتقي فيه المسلمون، ومركز القيادة العليا، فيه تعقد الألوية، ومنه تنطلق الجيوش والسرايا والبعوث الدعوية.

فمن يعطل المسجد عن أداء دوره في المجتمع، وتبليغ رسالته على النحو الذي كان عليه مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه ممن سعى لخرابه، وقد قال الله تبارك وتعالى: "وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ"(البقرة:114)

والسعي في التخريب لا يقتصرعلى التخريب المادي، وإنما يشمل كل أنواع التعطيل المؤدي في النهاية إلى تهميش المسجد وإماتته وشل حركته.

وبالله التوفيق

يوسف القرضاوي

رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

ــــــــ

1- سنن الترمذي (1375).

2- البغوي في شرح السنة، (8/288).

3- فتح الباري لابن حجر، (5/402-403).

4- العدة شرح العمدة للمقدسي (313).

5- المغني لابن قدامة (6/29).

6- الفتاوى الكبرى (4/364).

7- الفتاوى الكبرى (5/425).