السؤال: أنا مؤمن بأن الإسلام لا يشرع شيئًا إلا لحكمة ، قد تظهر لبعض الناس، وقد تخفى على آخرين، وقد تخفى على الجميع، امتحانًا من الله لعباده. ومع هذا أعتقد أيضًا أنه لا حرج على المسلم أن يلتمس حكمة ما شرعه الله تعالى، عند أهل الذكر وأولي العلم، وإذا لم يعلمها هو . ولهذا لجأت إليكم لأسأل عن الحكمة في أمر معروف بين المسلمين، وهو ما يتعلق بالعطاس:
لماذا يقول العاطس بعد عطاسه: الحمد لله؟ ولماذا يدعو له من يسمعه ويقول له: يرحمك الله؟ وهو المسمى في لغة الشرع "تشميت العاطس"، مع أن العطاس من الأمور الطبيعية التي تعرض لكل إنسان في حالتي الصحة والمرض عند وجود أسبابه. وهل هذه الأشياء لازمة شرعًا : الحمدلة من العاطس، والتشميت من المستمع ثم الرد عليه من العاطس، أم هي آداب يجوز تركها؟
جواب العلامة الدكتور يوسف القرضاوي:
بسم الله ، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ، وبعد:
( أ ) أحسن الأخ في اعتقاده أن الله تعالى لا يشرع شيئًا إلا لحكمة ومصلحة . ذلك أن من أسمائه تعالى "الحكيم" ، وهو اسم تكرر في القرآن الكريم . فهو سبحانه حكيم فيما شرع وأمر ، كما أنه حكيم فيما خلق وقدر . فهو لا يشرع شيئًا عبثًا ولا يخلق شيئًا باطلاً ، كما قال أولو الألباب : ( ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك) .
يقول الإمام ابن القيم : "والقران وسُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم مملوءان من تعليل الأحكام بالحكم والمصالح وتعليل الخلق بهما ، والتنبيه على وجود الحكم التي لأجلها شرع تلك الأحكام ، ولأجلها خلق تلك الأعيان".
قال: ولو كان هذا في القرآن والسنة في نحو مائة موضع أو مائتين لسقناها ، ولكنه يزيد على ألف موضع بطرق متنوعة(مفتاح دار السعادة ج2ص24.)
(ب) وأحسن الأخ ثانيًا في إعلانه أن من الحكم ما يخفى وجهها على بعض الناس، على حين يظهر ذلك للآخرين ، وأن منها ما يخفى على الجميع لحكمة أيضًا هي الابتلاء والامتحان من الله لعباده، ليظهر من يطيع ربه ممن لا يطيع إلا عقله ، ومن يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه ، وحكمة أخرى هي أن يعمل الناس أفكارهم ، ويبذلوا جهودهم لمحاولة استجلاء ما خفي عليهم من وجوه الحكم والمصالح، وفي هذا الاجتهاد واستفراغ الوسع في المعرفة مصالح كثيرة كانت تفوت لو أن الله تعالى اختصر عليهم الطريق ، ونص على الحكمة والمصلحة من وراء كل ما خلق، وكل ما شرع نصًا مباشرًا دون أي جهد منهم .
(جـ) وأحسن الأخ ثالثًا في محاولة التماسه للحكمة فيما خفي عليه، ممن يظن فيه المعرفة من أهل العلم.وليس هذا دليلا على شك يساوره، بل على رغبة في زيادة يقين يطمئن به وقديمًا قال الخليل إبراهيم : (رب أرني كيف تحي الموتى ؟ قال:أو لم تؤمن؟ قال : بلى ولكن ليطمئن قلبي)البقرة:260.
كما يدل هذا من ناحية أخرى على حرصه على الاستزادة من العلم، وهو ما أمر به القرآن حين قال:(وقل رَّبِ زدني علمًا ) طه:114. وما رغب فيه الرسول حين قال:(لن يشبع المؤمن من خير حتى يكون منتهاه الجنة) (رواه الترمذي وابن حبان عن أبي سعيد الخدري .)
آداب العاطس ومن سمعه :
( د ) أما ما سأل عنه الأخ من الحكمة فيما شرعه الإسلام من أدب العطاس من حمد ، وتشميت ودعاء ، فيحسن بي قبل بيانها أن ألقي بعض الضوء على حقيقة ما شرعه الإسلام في ذلك وحكمه ، فإن الحكم يسبق الحكمة :
1. فأول ما يشرع للعاطس أن يحمد الله تعالى . فيقول : "الحمد لله " أو "الحمد لله على كل حال" أو "الحمد لله رب العالمين" كما جاءت بذلك الأحاديث ، وهو ما اتفق على استحبابه، كما قال النووي .
2. ومن آداب العاطس أن يخفض بالعطس صوته، لئلا يزعج أعضاءه، ولا يزعج جلساءه ، وأن يرفعه بالحمد ، ليسمع من حوله، وأن يغطي وجهه ، لئلا يبدو من فيه أو أنفه ما يؤذي جليسه.فعن أبي هريرة : قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا عطس وضع يده على فيه ، وخفض صوته)(أخرجه أبو داود والترمذي بسند جيد كما في الفتح، وله شاهد من حديث ابن عمر بنحوه عند الطبراني .)
3. ثم يجب على من سمعه يحمد الله تعالى أن يشمته ، أي يدعو له بقوله : يرحمك الله. كما في حديث عائشة عند أحمد وأبي يعلى : ( إذا عطس أحدكم فليقل : الحمد لله ، وليقل من عنده : يرحمك الله : وهذا من حق المسلم على المسلم ).
والظاهر أنه فرض عين ، كما أكدت ذلك عدة أحاديث ، بعضها جاءت بلفظ الوجوب الصريح (خمس تجب للمسلم) وبعضها بلفظ الحق الدال عليه: (حق المسلم على المسلم ست) وبلفظ "على" الظاهرة فيه ،وبصيغة الأمر التي هي حقيقة فيه، وبقول الصحابي:أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولا ريب أن الفقهاء -كما قال ابن القيم- أثبتوا وجوب أشياء كثيرة بدون مجموع هذه الأشياء وبه قال جمهور أهل الظاهر ، وجماعة من العلماء .
وذهب جماعة إلى أن التشميت فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين، ورجحه ابن رشد وابن العربي من المالكية ، وقال به الحنفية وجمهور الحنابلة .
وذهب جماعة من المالكية إلى أنه مستحب ، ويجزئ الواحد عن الجماعة، وهو قول الشافعية .
والراجح من حيث الدليل القول الأول ، كما قال الحافظ ابن حجر . قال: والأحاديث الدالة على الوجوب لا تنافي كونه على الكفاية ، فإن الأمر بتشميت العاطس وإن ورد في عموم المكلفين ، ففرض الكفاية يخاطب به الجميع على الأصح ، ويسقط بفعل البعض(انظر: فتح الباري في شرح البخاري ج13 ص222، س237ط الحلبي .)
4. ويستثنى من عموم الأمر بتشميت العاطس عدة أصناف مثل :
أ. من لم يحمد الله بعد عطاسه . فشرط التشميت الحمد . وقد روى البخاري عن أنس قال: عطس رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم فشمت أحدهما ، ولم يشمت الآخر . فقيل له : فقال:( هذا حمد الله ، وهذا لم يحمد الله ) وهذا أمر مجمع عليه .
ب. المزكوم إذا تكرر منه العطاس فزاد على الثلاث. وذلك أن المزكوم قد يتكرر منه العطاس مرات كثيرة، فيشق على جليسه أن يشمته في كل مرة . وإذا لم يدع له بالدعاء المشروع للعاطس فلا بأس أن يدعو له بدعاء يلائمه ، مثل الدعاء بالعافية والشفاء وما هو من هذا القبيل.
جـ. الكافر . فعن أبي موسى الأشعري قال :(كانت اليهود يتعاطسون عند النبي صلى الله عليه وسلم رجاء أن يقول: يرحمكم الله . فكان يقول : يهديكم الله ويصلح بالكم)( أخرجه أبو داود وصححه الحاكم كما قال الحافظ.) وهذا يعني أن لهم تشميتًا مخصوصًا ، وليسوا مستثنين من مطلق التشميت.
د. من عطس والإمام يخطب يوم الجمعة ، لما ورد من منع الكلام والإمام يخطب ، وإمكان تدارك التشميت بعد فراغ الخطيب .
5. ويجب على العاطس أن يرد على من شمته فدعا له بالرحمة، أن يدعوا له بالهداية وصلاح البال كما جاء في حديث أبي هريرة عند البخاري وغيره (إذا عطس أحدكم فليقل : الحمد لله ، وليقل له أخوه أو صاحبه : يرحمك الله . فإذا قال له: يرحمك الله ، فليقل : يهديكم الله ويصلح بالكم)
أو يدعوا له ولنفسه بالمغفرة كما في حديث ابن مسعود :(يغفر الله لنا ولكم) (أخرجه البخاري في الأدب المفرد والطبراني .)
وأجاز بعض العلماء الجمع بين الصيغتين . وقد أخرج في الموطأ عن نافع عن ابن عمر أنه كان إذا عطس فقيل له : يرحمك الله ، قال :( يرحمنا الله وإياكم ، ويغفر الله لنا ولكم).
حكمة الحمد والتشميت عند العطاس :
(هـ) وإذا عرفنا أدب العطاس وأحكامه ، فقد آن لنا أن نستجلي وجه الحكمة والمصلحة في ذلك . وهي في الواقع تتجلى في ثلاث أمور :
أولاً: إن اتجاه الإسلام في آدابه عامة إلى ربط المسلم بالله في كل أحيانه، وعلى كافة أحواله، وينتهز لذلك الفرص الطبيعية والمناسبات العادية التي من شأنها أن تحدث وتتكرر كل يوم مرة أو مرات، ليذكر المسلم بربه ، ويصله بحبله ، فيذكره تعالى مسبحًا ، أو مهللا ، أو مكبرًا ، أو حامدًا ، أو داعيًا.
وهذا سر الأذكار والأدعية المأثورة الواردة عند ابتداء الأكل والشرب ، وعند الفراغ منها ، وعند النوم واليقظة ، وعند الدخول والخروج، وعند ركوب الدابة ولبس الثوب ، وعند السفر ، والعودة منه … وهكذا.
فلا غرابة أن يعلم المسلم إذا عطس أن يحمد الله ، وأن يقول سامعه: يرحمك الله ، وأن يرد عليه: يهديكم الله.. وبهذا تشيع المعاني الربانية في جو المجتمع المسلم ، شيوعها في حياة الفرد المسلم.
أما تخصيص العاطس بالحمد ، فقد قال العلامة الحليمي ، الحكمة فيه أن العطاس يدفع الأذى من الدماغ، الذي فيه قوة الفكر، ومنه منشأ الأعصاب التي هي معدن الحس ، وبسلامته تسلم الأعضاء، فيظهر بهذا أنها نعمة جليلة ، فناسب أن تقابل بالحمد لله ، لما فيه من الإقرار لله بالخلق والقدرة، وإضافة الخلق إليه لا إلى الطبائع " اهـ
وأما قول السامع : يرحمك الله ، فقد أكد القاضي ابن العربي في ذلك: أن العاطس ينحل كل عضو في رأسه وما يتصل به من العنق ونحوه، فكأنه إذا قيل له : يرحمك الله ، كان معناه : أعطاك الله رحمة يرجع بها بدنك إلى حاله قبل العطاس ، ويقيم على حاله من غير تغيير .اهـ.
وقال ابن أبي جمرة في شرح العطاس : وفيه إشارة إلى عظيم فضل الله على عبده فإنه أذهب عنه الضرر بنعمة العطاس . ثم شرع له الحمد الذي يثاب عليه ، ثم الدعاء بالخير بعد الدعاء بالخير ، وشرع هذه النعم المتواليات ، في زمن يسير فضلا منه وإحسانًا الخ ( انظر: فتح الباري " المذكور سابقًا". )
ثانياً: كما تحرص الآداب الإسلامية على ربط المسلم بإخوانه المسلمين . وبعبارة أخرى: على إشاعة معاني الإخاء والمحبة والتواد بين الناس . فهي التي تجعل للحياة طعمًا ، وتعين على فعل الخير ، وتطرد الكآبة والتعاسة من حياة الجماعة .
أما الأنانية والفردية والحسد والبغضاء ، فهي -كما سماها الرسول- داء الأمم وحالقة الدين .
ولا عجب أن جاء أدب العطاس في هذا الخط ، ليقر لونًا من ألوان "المجاملة" الاجتماعية الطيبة ، التي تنافي الجفوة والتقاطع والهجران، وتثبت معاني التواصل والمودة والرحمة. قال ابن دقيق العيد: ومن فوائد التشميت تحصيل المودة ، والتآلف بين المسلمين ، وتأديب العاطس بكسر النفس عند الكبر، والحمل على التواضع… "وكلها معان إنسانية جميلة.
ثالثاً: إن الإسلام قد جاء في هذا الأدب بما أبطل اعتقادات الجاهلية التي لم تقم على أساس من عقل أو نقل ، وما نشأ عن هذه الاعتقادات من عادات مستقبحة في الفطرة ، ضارة بالحياة .
فقد ذكر العلامة ابن القيم أن أهل الجاهلية كانوا يتطيرون بالعطاس ويتشاءمون منه، كما يتشاءمون بالبوارح والسوانح .
قال رؤبة بن العجاج يصف فلاة: قطعتها ولا أهاب العطاس .
وقال امرؤ القيس: وقد أغتذى قبل العطاس بهيكل …
أراد أنه كان ينتبه للصيد قبل أن ينتبه الناس من نومهم ، لئلا يسمع عاطسًا ، فيتشاءم بعطاسه . وكانوا إذا عطس من يحبونه قالوا له : عمرًا وشبابًا ، وإذا عطس من يبغضونه قالوا له : وريًا وقحابًا(الوري كالرمي داء يصيب الكبد فيفسدها ، والقحاب كالسعال وزنًا ومعنى)
فكان الرجل إذا سمع عطاسًا يتشاءم به ، يقول: بك لا بي . أي أسأل الله أن يجعل شؤم عطاسك بك لا بي . وكان تشاؤمهم بالعطسة الشديدة أشد .
فلما جاء الله سبحانه بالإسلام ،وأبطل رسوله صلى الله عليه وسلم ما كان عليه الجاهلية من الضلالة، نهى أمته عن التشاؤم والتطير ، وشرع لهم أن يجعلوا مكان الدعاء على العاطس بالمكروه الدعاء له بالرحمة .
وكما كان الدعاء على العاطس نوعًا من الظلم والبغي جعل الدعاء له بلفظ(الرحمة) المنافي للظلم، وأمر العاطس أن يدعو لمشمته بالمغفرة والهداية وإصلاح البال، فيقول : يغفر الله لنا ولكم . أو يهديكم الله ويصلح بالكم .
فأما الدعاء بالهداية ، فلما أن اهتدى إلى طاعة الرسول ، ورغب عما كان عليه أهل الجاهلية ، فدعا له أن يثبته الله عليها ، ويهديه إليها .
وكذلك الدعاء بإصلاح البال ، وهي كلمة جامعة لصلاح شأنه كله .. وهي من باب الجزاء على دعائه لأخيه بالرحمة ، فناسب أن يجازيه بالدعاء له بإصلاح البال .
وأما الدعاء بالمغفرة فجاء بلفظ يشمل العاطس والمشمت (يغفر الله لنا ولكم ) ليستحصل من مجموع دعوتي العاطس والمشمت له المغفرة والرحمة لهما معًا( انظر مفتاح دار السعادة :ج2ص276،277.)
والحمد لله رب العالمين