|
وقد قال بعض العلماء: لا يلزم من أنه كان يظن أنه فعل الشيء ولم يكن فعله أن يجزم بفعله ذلك. وإنما يكون ذلك من جنس الخاطر يخطر ولا يثبت، فلا يبقى على هذا للملحد حجة.
وقال عياض: يحتمل أن يكون المراد بالتخييل المذكور أنه يظهر له من نشاطه ما ألفه من سباق عادته من الاقـتدار على الوطء، فإذا دنـا من المرأة فـتر عن ذلك كما هو شـأن "المعقود " (المعقود: ويسمى عرفًا المربوط، وهو من حبسه السحر عن القدرة على الاتصال بزوجته). ويكون قوله في الرواية الأخـرى " حتى كاد ينكـر بصـره " أي صـار كالذي أنكر بصره بحيث إنه إذا رأي الشيء يخيل أنه على غير صفته، فإذا تأمله عرف حقيقته. ويؤيد جميع ما تقـدم أنه لم ينقل عنه في خبر من الأخبار: أنه قال قولاً فكان بخلاف مـا أخبـر به.
وقال المهلب: صون النبي -صلى الله عليه وسلم- من الشياطين لا يمنع إرادتهم كيده، فقد مضى في الصحيح أن شيطانًا أراد أن يفسد عليه صلاته فأمكنه الله منه، فكذلك السحر ما ناله من ضرره ما يدخل نقصًا على ما يتعلق بالتبليغ، بل هو من جنس ما كان يناله من ضرر سائر الأمراض من ضعف عن الكلام، أو عجز عن بعض الفعل، أو حدوث تخيل لا يستمر، بل يزول ويبطل الله كيد الشياطين.
واستدل ابن القصار على أن الذي أصابه كان من جنس المرض بقوله في آخر الحديث: " أما أنا فقد شفاني الله"، وفى الاستدلال بذلك نظر، لكن يؤيد المدعي أن في رواية عمرة عن عائشـة عند البيـهقي في الدلائل: " فكان يدور ولا يدرى ما وجـعه"، وفي حديث ابن عباس عند ابن سـعد: " مرض النبي -صلى الله عليه وسلم- وأُخِذ عن النسـاء والطــعام والشـراب، فهـبط عليه ملكان" الحديث.
قوله: "وهو عندي لكنه دعا ودعا" كذا وقع، وفي الرواية الماضية في بدء الخـلق "حتى كان ذات يوم دعا ودعا"، وكذا علقه المصنف لعيسى بن يونس في الدعوات، ومثله في رواية الليث. قال الكرماني: يحتمل أن يكون هذا الاستداراك من قولها "عندي" أي لم يكن مشتغلاً بي بل اشتغل بالدعاء، ويحتمل أن يكون من التخيل، أي كان السحر أضره في بدنه لا في عقله وفهمه بحيث إنه توجه إلى الله ودعا على الوضع الصحيح والقانون المستقيم.
ووقع في رواية ابن نمير عند مسلم: " فدعا، ثم دعا، ثم دعا" وهذا هو المعهود منه أنه كان يكرر الدعاء ثلاثًا. وفي رواية وهيب عند أحمد وابن سعد: فرأيته يدعو.
قال النووي: فيه استحباب الدعاء عند حصول الأمور المكروهات وتكريره والالتجاء إلى الله تعالى في دفع ذلك.
قلت القائل ابن حجرـ: سلك النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذه القصة مسلكي التفويض وتعاطي الأسباب، ففي أول الأمر فوض وسلم لأمر ربه، فاحتسب الأجر في صبره على بلائه، ثم لما تمادى ذلك وخشي من تماديه أن يضعفه عن فنون عبادته، جنح إلى التداوي، ثم إلى الدعاء، وكل من المقامين غاية في الكمال.
قوله: " قلت: يا رسول الله أفلا استخرجته" في رواية أبي أسامة، " فقال: لا " ووقع في رواية ابن عيينة أنه استخرجه، وأن سؤال عائشة إنما وقع عن النشرة فأجابها بلا، وسيأتي بسط القول فيه بعد باب.
قوله: " فكرهت أن أثير على الناس فيه شرًا " في رواية الكشميهي: " سوءًا " ورفع في رواية أبي أسامة " أن أُثَوِّر " بفتح المثلثة وتشديد الواو وهما بمعنى، والمراد بالناس التعميم في الموجودين.
قال النووي: خشي من إخراجه وإشاعته ضررًا على المسلمين من تذكر السحر وتعلمه ونحو ذلك، وهو من باب ترك المصلحة خوف المفسدة.
ووقع في رواية ابن نمير " على أمتي " وهو قابل أيضًا للتعميم؛ لأن الأمة تطلق على أمة الإجابة وأمة الدعوة وعلى ما هو أعم، وهو يرد على من زعم أن المراد بالناس هنا لبيد ابن الأعصم؛ لأنه كان منافقًا فأراد -صلى الله عليه وسلم- ألا يثير عليه شرًا؛ لأنه كان يؤثر الإغضاء عمن يظهر الإسلام، ولو صدر منه ما صدر، وقد وقع أيضًا في رواية ابن عيينة، وكرهت أن أثير على أحد من الناس شرًا.
نعم، وقع في حديث عمرة عن عائشـة، فقـيل: يا رسول الله لو قتلته، قال: "ما وراءه من عذاب الله أشـد "، وفي رواية عمرة: " فأخـذه النبي -صلى الله عليه وسلم- فاعترف فعـفا عنه"، وفي حديث زيد بن أرقـم: " فما ذكـر رسـول الله -صلى الله عليه وسلم- لذلك اليهودي شيـئًا مما صـنع به ولا رآه في وجهه".
وفي مرسل عمر بن الحكم: " فقال له: ما حملك على هذا؟ قال: حب الدنانير ".
وقد تقدم في كتاب الجزية قول ابن شهاب أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يقتله.
وأخرج ابن سعد من مرسـل عكرمة أيضًا أنه لم يقـتله، ونقل عن الواقـدي أن ذلك أصـح من رواية من قال إنه قـتله، ومن ثم حكى عـياض في " الشـفاء " قوليـن: هل قتل، أم لم يقتل؟
وقال القرطبي: لا حجة على مالك (أي في قوله بقتل الساحر). من هذه القصة؛ لأن ترك قتل لبيد بن الأعصم كان لخشية أن يثير بسبب قتله فتنة، أو لئلا ينفر الناس من الدخول في الإسلام، وهو من جنس ما رعاه النبي -صلى الله عليه وسلم- من منع قتل المنافقين حيث قال: " لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه" (الحديث (5763) فتح الباري 10/221 232).
هذا بعض ما ذكره الشراح حول حـديث سـحر اليهود للنبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يبين مـدى ما أثاره الحديث من استشكالات، ومدى اهتمام العلماء بمواجهتها ببينات النقل والعقل.
فلا عجب أن يكون هذا الحديث مثار اهتمام لدى العقل الحديث، وخصوصًا بعد التقائه بعقول الآخرين، وتعرفه على أفكارهم.
ومن هنا تكلم فيه العلامة رشــيد رضا، لا كلام النافي له أو المكذب، بل كلام من يصدق به ويؤوله أحسن تأويل، يقنع أهل العقل والنظر ولا يرده أهل النقل والأثر.
وإليك ما ذكره في نهاية تفسير سورة الفلق، من قصار السور تحت عنوان: علاوة لتفسير السورة في حديث سحر منافق من أشرار اليهود للنبي -صلى الله عليه وسلم-.
وبعد أن ذكر رواية الشيخين للحديث من طريق عائشة -رضي الله عنها- وهي التي أوردناها من قبل أشار إلى الرواية الأخرى، حيث قال: وفي رواية الشيخين: كان -صلى الله عليه وسلم- سحر حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن بنحوه، وفيه: سحره رجل من بني زريق حليف اليهود كان منافقًا (بنو زريق بطن من الخزرج فهو على هذه الرواية يهودي بالحلف لا بالنسب).، وعن زيد بن أرقم سحر النبي -صلى الله عليه وسلم- رجل من اليهود فاشتكى لذلك أيامًا فأتاه جبريل، فقال: إن رجلاً من اليهود سحرك عقد لك عقدًا في بئر كذا وكذا فأرسل -صلى الله عليه وسلم- فاستخرجها فحلها فقام كأنما أنشط من عقال فما ذكر ذلك لذلك اليهودي ولا رآه في وجهه قط. رواه النسائي. والأيام جمع قلة، ولكن بالغ بعض الرواة في غير الصحيحين فجعلوها أشهرًا.
قال السيد رشيد: فهذا الحديث صريح في أن المراد من السحر فيه خاص بمسألة مباشرة النساء، ولكن فهم أكثر العلماء أنه -صلى الله عليه وسلم- سحر سحرًا أثر في عقله، كما أثر في جسده. فأنكره بعضهم، وبالغوا في إنكاره، وعدوه مطعنًا في النبوة، ومنافيًا للعصمة؛ لقول عائشة: حتى إنه كان يخيل إليه أنه فعل الشيء، ولم يكن فعله. فعظمت هذه الرواية على علماء المعقول، وعدوها مخالفة للقطعي في النقل، وهو ما حكاه اللّه تعالى عن المشركين من طعـنهم فيه كعادة أمثـالهم في رسلهم بقولهم: (إن تتبعون إلا رجلاً مسحورًا) وتفنيده تعالى لهم بقوله: (انظر كيف ضربوا لك الأمثال فـضـلوا فلا يستطيعون سبيلاً) (الفرقان: 8،9). ومخالفة للقطعي في العقل من عصمة النبي -صلى الله عليه وسلم- من كل ما ينافي النبوة والثقة بها؛ إذ يدخـل في ذلك التخييل ما هو من التـشريع، ومخالفة لعلم النفـس الذي يعلم منه أن الأنفـس السافلة الخبـيثة لا تؤثر في الأنفـس العالية الطاهرة، فأنـكر صـحة الروايـة بعض العلماء، وأقدم من عرفنا ذلك عنهم من المفـسرين الفقـهاء: أبو بكر الجصـاص في كتابه" أحكام القرآن " وآخرهم: شيخنا الأستاذ الإمام في تفسير" جزء عم "
وقد أطال شيخنا في هذا وبالغ فيه. وبنى إنكاره له على القاعدة المتفق عليها عند علماء العقائد وأصول الفقه في معارضة الظني للقطعي، إذ الحديث آحاد، وهو يفيد الظن، فيرد بالقطعي عقلاً ونقلاً، وهو ما ذكرناه آنفًا، وقد اتفقوا على أن أحاديث الآحاد لا يحتج بها في أصول العقائد. وقال: إن كونه يفيد الظن خاص بمن صح عنده، وإن له أن يتأوله أو يفوض الأمر فيه، على قاعدتهم الأخرى في النصوص المعارضة للعقل. ولعمري إن ما نعرفه عن شيخنا محمد عبده -قدس اللّه روحه- من إجلاله وإكباره لشأن محمد رسول اللّه وخاتم النبيين في نفسه الزكية، وروحه القدسية، وعلو مداركه العقلية، مما لم نعرف مثله عن أحد من العلماء العقليين كفلاسفة المسلمين ومتكلميهم، ولا من العلماء الروحيين كالصوفية، ولا من علماء النقل كجامعي الروايات الكثيرة في معجزاته -صلى الله عليه وسلم- وحسبك منها تلك الآثارة البليغة في رسـالة التوحـيد، بل كان يقـول: إن روحه -صلى الله عليه وسلم- كانت منطـوية على جملة هـداية الدين ومدارك التشريع التي فصلت في كـتاب اللّه تعالى وسنته تفصيلاً تامًا، كما نقـلناه عنه في تاريخه.
وأجاب عن الرواية المحدثون المصححـون لها علمًا والمقلدون لهم بأن غاية ما تدل عليه: أن ذلك السحر إنما أثر في بدنه دون روحه وعقله، فكان تأثيره من الأعراض الجسدية، كالأمراض التي لم يعصم الأنبياء عليهم السلام منها.
وقد محصت هذه المسألة مرارًا آخرها في الرد على مجلة الأزهر" نور الإسلام " في زعمها المفترى أنني كذّبتُ حديث البخاري في سحر النبي -صلى الله عليه وسلم-فبينت: أن الحديث الصحيح في المسألة عن عائشة -رضي الله عنها- توهم عبارة بعض رواياته ما هو أعم من المعنى الخاص الذي أرادته منه، وهو مباشرة الزوجية بينه -صلى الله عليه وسلم- وبينها، فقولها: كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء وهو لم يفعله كناية عن هذا الشيء الخاص، لا عام في كل شيء، فلا يدخل فيه شيء من أمور التشريع، ولا غير غشيان الزوجية من الأمور العقلية، أو الأمراض البدنية، فضلاً عما كان يريده الذين يرمون الأنبياء بسحر الجنون؛ لأن أمورهم فوق المعقول عند أولئك الكافرين، فالمسألة محصورة فيما يسمونه حتى الآن " الربط " أو
" العقد " أي عقد الرجل المانع من مباشرة زوجته فقط.
وبينت أيضًا: أن الرواية في أصح أسانيدها عند الشيخين عن هشام عن أبيه عن عائشة فيها علة من علل الحديث الخفية التي يشترط في صحة الحديث السلامة منها، وهي أن بعض منكري الحديث أعلوه بهشام هذا، وألف بعضهـم كتابًا خاصًا فيه، محتجًا بقول بعض علماء الجرح والتعديل: إنه كان في العراق يرسل عن أبيه عروة بن الزبير ما سمعه من غيره، وعروة هو راوية عائشة الثقة، وهي خالته. وقال ابن خراش: كان مالك لا يرضاه، يعني هشامًا، وقد نقم منه حديثه لأهل العراق، وقال ابن القطان: تغير قبل موته. ولا شك أن تعديل الجماعة له ومنهم الشيخان خـاص بمـا رواه قبل تغيره، فهـذا عـذر من طعن في روايته لهـذا الحديث الذي أنكـروا متنه بمـا علمت، والأمــر فيه أهــون ممـا قالوا (راجع تفصيل المسألة في: كتاب المنار والأزهر ص 95 -105). فالتحقيق أنه خاص بمسألة الزوجية، كما جاء التصريح به في الرواية الثانية كما تقدم، ولا يعتد بغير هذا.
أما ما رواه البيهقي في دلائل النبوة عن ابن عباس في مرضه -صلى الله عليه وسلم- وأنه كان شديدًا، وأنه كان سحرًا في بئر تحت صخرة في كربة (الكرب: أصول السعف التي تقطع معها، وواحدتها: كربة. المصباح المنير).، وأنهم أخرجوها فأحرقوها فإذا فيها وتر فيه إحدى عشرة عقدة، وأنزلت عليه هاتان السورتان يعني المعوذتين فجعل كلما قرأ آية انحلت عقدة.اهـ ملخصًا، فهذا حديث باطل مخالف لحديث الصحيحين في المسألة، ولروايات نزول السورتين بمكة، وهو من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، والكلبي هذا متهم بالكذب، وطريقه أوهي الطـرق عن ابن عبـاس، واسمه محمد بن السائب.
وأما ما رواه أبو نعيم في الدلائل عن أنس قال: صنعت اليهود للنبي -صلى الله عليه وسلم- شيئًا فأصابه من ذلك وجع شديد، فدخل عليه أصحابه فظنوا أنه ألم به، فأتاه جبريل بالمعوذتين فعوذه بهما، فخرج إلى أصحابه صحيحًا، فهو من طريق أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، وهما ضعيفان. وليس في متنه ذكر السحر ولا أن المعوذتين نزلتا في ذلك الوقت، ولا في أي شيء من روايات الصحيحين. فالاستدلال به على أنهما مدنيتان ضعيف، فالحق أنهما مكيتان كما تقدم. ا هـ.
هذا هو كلام العلامة السيد رشيد -رحمه اللّه- تعالى في الحديث وتأويله، وهو كلام عالم فقيه جارٍ على نهج المحدثين الأصلاء، في الجرح والتعديل، والشرح والتعليل، وهو كلام إمام مصلح، حريص على البناء لا الهدم، وعلى التجـديد لا التبديد، يعرف قدر السلف، ولا ينكر حق الخلف. يخـالف شيـخه، ولكنه يدافـع عنه ويؤكد مقدار حبه وتوقيـره لرسـول اللّه -صلى الله عليه وسلم- وهذا هو العدل والإنصــاف. فرضي اللّه عن الشيخ رشـيد وجـزاه عن الإسلام وأمته خيرًا وأثـابه على كل ما اجتـهد فيـه، أخطأ أو أصاب: أجرًا أو أجرين. آمين.