السؤال: هل يجوز للمسلم أن يتبرع بعضو من جسمه وهو حي؟
جواب فضيلة الشيخ:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومن اتبعه إلى يوم الدين، وبعد:
هل يجوز للمسلم أن يتبرع بعضو من جسمه وهو حي؟ بحيث يتصرف فيه بالتبرع أو غيره؟ أو هو وديعة عنده من الله تعالى، فلا يجوز له التصرف فيه إلا بإذنه؟ وكما لا يجوز له أن يتصرف في نفسه حياته بالإزهاق والقتل؛ فكذلك لا يجوز له أن يتصرف في جزء من بدنه بما يعود عليه بالضرر.
ويمكن النظر هنا بأن الجسم وإن كان وديعة من الله تعالى، فقد مكَّن الإنسان من الانتفاع به والتصرف فيه، كالمال، فهو مال الله تعالى حقيقة، كما أشار إلى ذلك القرآن بمثل قوله تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} (النور: من الآية 33)، ولكنه ملَّك الإنسان هذا المال بتمكينه من الاختصاص به والتصرف فيه.
فكما يجوز للإنسان التبرع بجزء من ماله لمصلحة غيره ممن يحتاج إليه؛ فكذلك يجوز له التبرع بجزء من بدنه لمن يحتاج إليه. والفرق بينهما أن الإنسان قد يجوز له التبرع أو التصدق بماله كله، ولكن في البدن لا يجوز التبرع ببدنه كله، بل لا يجوز أن يجود المسلم بنفسه لإنقاذ مريض من تهلكة أو ألم مبرح، أو حياة قاسية؟
وإذا كان يُشْرَع للمسلم أن يُلقى بنفسه في اليم لإنقاذ غريق، أو يدخل بين ألسنة النار، لإطفاء حريق، أو إنقاذ مشرف على الغرق، أو الحرق؛ فلماذا لا يجوز أن يخاطر المسلم بجزء من كيانه المادي لمصلحة الآخرين ممن يحتاجون إليه؟
وفى عصرنا رأينا التبرع بالدم، وهو جزء من جسم الإنسان، يتم في بلاد المسلمين، دون نكير من أحد من العلماء، بل هم يقرون الحث عليه أو يشاركون فيه؛ فدل هذا الإجماع السكوتي إلى جوار بعض الفتاوى الصادرة في ذلك على أنه مقبول شرعًا.
وفى القواعد الشرعية المقررة: أن الضرر يُزال بقدر الإمكان، ومن أجل هذا شُرع إغاثة المضطر، وإسعاف الجريح، وإطعام الجائع، وفك الأسير، ومداواة المريض، وإنقاذ كل مشرف على هلاك في النفس أو ما دونها.
ولا يجوز لمسلم أن يرى ضررًا ينزل بفرد أو جماعة، يقدر على إزالته ولا يزيله، أو يسعى في إزالته بحسب وسعه.
ومن هنا نقول: إن السعي في إزالة ضرر يعانيه مسلم من فشل الكلية مثلًا، بأن يتبرع له متبرع بإحدى كليتيه السليمتين؛ فهذا مشروع، بل محمود ويؤجر عليه من فعله؛ لأنه رحم من في الأرض، فاستحق رحمة من في السماء.
والإسلام لم يُقصر الصدقة على المال؛ بل جعل كل معروف صدقة. فيدخل فيه التبرع ببعض البدن لنفع الغير، بل هو لا ريب من أعلى أنواع الصدقة وأفضلها؛ لأن البدن أفضل من المال، والمرء يجود بماله كله لإنقاذ جزء من بدنه، فبذله لله تعالى من أفضل القربات وأعظم الصدقات.
وإذ قلنا بجواز التبرع من الحي، بعضو من بدنه، فهل هو جواز مطلق أو مقيد؟ والجواب: أنه جواز مقيد، فلا يجوز له أن يتبرع بما يعود عليه بالضرر أو على أحد له حق عليه لازم.
ومن هنا لا يجوز أن يتبرع بعضو وحيد في الجسم كالقلب أو الكبد مثلًا؛ لأنه لا يعيش بدونه، ولا يجوز له أن يُزيل ضرر غيره بضرر نفسه، فالقاعدة الشرعية التي تقول: الضرر يُزال، تقيدها قاعدة أخرى تقول: الضرر لا يُزال بالضرر، وفسروها بأنه لا يُزال بضرر مثله أو أكبر منه.
ولهذا لا يجوز التبرع بالأعضاء الظاهرة في الجسم مثل العين واليد والرجل؛ لأنه هنا يُزيل ضرر غيره بإضرار مؤكد لنفسه، لما وراء ذلك من تعطيل للمنفعة وتشويه للصورة.
ومثل ذلك إذا كان العضو من الأعضاء الباطنة المزدوجة، ولكن العضو الآخر عاطل أو مريض، يصبح كعضو وحيد.
ومثل ذلك: أن يعود الضرر على أحد له حق لازم عليه، كحق الزوجة أو الأولاد، أو الزوج، أو الغرماء. وقد سألتني إحدى الزوجات يومًا: أنها أرادت أن تتبرع بإحدى كليتيها لأختها، ولكن زوجها أبى، فهل من حقه ذلك؟
وكان جوابي: أن للزوج حقًا في زوجته، وهى إذا تبرعت بإحدى كليتيها فستجرى لها عملية جراحية، وتدخل المستشفى، وتحتاج إلى رعاية خاصة، وكل ذلك يحرم الزوج من بعض الحقوق، ويضيف عليه بعض الأعباء، فينبغي أن يتم ذلك برضاه وإذنه.
والتبرع إنما يجوز من المكلَّف البالغ العاقل، فلا يجوز للصغير أن يتبرع بمثل ذلك؛ لأنه لا يعرف تمامًا مصلحة نفسه، وكذلك المجنون.
ولا يجوز أن يتبرع الولي عنهما، بأن يدفعهما للتبرع، وهما غير مدركين؛ لأنه لا يجوز له التبرع بمالهما؛ فمن باب أولى لا يجوز التبرع بما هو أعلى وأشرف من المال وهو البدن. بحيث يتصرف فيه بالتبرع أو غيره؟ أو هو وديعة عنده من الله تعالى؛ فلا يجوز له التصرف فيه إلا بإذنه؟ وكما لا يجوز له أن يتصرف في نفسه حياته بالإزهاق والقتل؛ فكذلك لا يجوز له أن يتصرف في جزء من بدنه بما يعود عليه بالضرر.
والله أعلم