السؤال: نسمع كثيراً عن التطاول على سنة النبي صلى الله عليه وسلم فما تمر فترة إلا ونرى مقالا هنا وحديثا هناك وكلها تشكك في سنة النبي صلى الله عليه وسلم وتزعم التعارض بينها وبين القرآن الكريم أو بينها وبين العقل ومن الممكن أن يذكروا أحاديث ضعيفة أو موضوعة ويحتجوا بها على تناقض السنة أو أحاديث صحيحة لكنهم يفهمونها على غير المراد منها، فما رأي فضيلة الشيخ في هذا الهجوم الشرس على السنة؟
جواب فضيلة الشيخ القرضاوي:
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد..
لقد وقف شعر رأسي، واقشعرّ جلدي، حين وقعت عيني على هذه العناوين المثيرة التي تحدت بها المجلة مشاعر المسلمين، وصدمت أفكارهم بما يشبه القذائف المدمرة وما لقيت أحدًا قرأ هذا الشيء أو سمع به إلا أنكره واستبشعه، وحوقل واسترجع، وعجب الناس وعجبت معهم كيف يصدر هذا المنكر من مجلة عربية في بلد عربي مسلم، تطبع بمال المسلمين، ويحررها مسلمون أيضًا، كما يفهم ذلك من أسمائهم!!
والعجب أن كاتب ذلك العنوان المثير سلك للتدليل عليه منهجًا غير مستقيم، منهجًا لا يرضى عنه العلم، ولا يرضى عنه الخلق، ولا يرضى عنه الدين.
فقد مهد للحملة على صحيح البخاري بذكر جملة من الأحاديث الموضوعة أو التي لا أصل لها بالإجماع، مع عدم الحاجة إلى ذكر هذه الأحاديث، فقد وئدت في مهدها بفضل جهود أئمة الحديث الذين أفنوا أعمارهم في سبيل خدمة السنة النبوية، وتنقيتها من زيف المزيفين، وانتحال المبطلين، وقد قيل للإمام عبد الله بن المبارك: هذه الأحاديث الموضوعة ! فقال: "تعيش لها الجهابذة " وصدق عبد الله فقد عاشوا لها، وماتت هي ولله الحمد، وحفظ الله دينه، وصدق وعده: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (سورة الحجر: 9).
ولا ريب أن حفظ الذكر "القرآن" إنما يتم بحفظ ما يبينه ويشرحه، وهي السنة التي خاطب الله صاحبها بقوله: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (سورة النحل: 44).
أجل. لم يكن من الجد أن يحشر الأستاذ مجموعة من الأباطيل المكشوفة مثل ... "عليكم بالعدس فإنه قدس على لسان سبعين نبيًا" ونحوه، فإن أصل الموضوع الذي جرت فيه المناقشة هو تنقية كتب التفسير والحديث مما فيها من شوائب وإسرائيليات فما لهذه الكتب ومثل "اتخذوا الحمام المقاصيص..."...إلخ ؟؟
إن إيراد ذلك في مثل هذا المقام يوهم القراء أن كتب الحديث روت هذه الأباطيل أو اعتمدتها، أو سكت علماء الحديث عن بيان درجتها، وهو إيهام غير صحيح قطعًا. وهو يدل على أن الغرض من وراء هذه الحملة إنما هو التشويش والتشكيك في الإسلام ومصادره وأئمته بالجد والهزل والهدم بكل معول تناله اليد.
وأغرب من ذلك أن الكاتب ذكر هذه الأحاديث الباطلة المفضوحة بلا شك، ثم قال بالحرف الواحد - ويالهول ما قال - "ليس هذا فقط، فإن في صحيح البخاري وغيره من كتب الحديث ما هو أدهى من ذلك وأمرّ، في مخالفة أمر ما أمر الله به عباده وأنزله في محكم كتابه".
يالله! أصحيح البخاري وكتب الحديث فيها أدهى وأمر من الأحاديث المكذوبة المفتراة التي ذكرها الكاتب!! أما والله لو صح ذلك لكان الأستاذ أعظم المكتشفين في العصر الحديث، فقد أزاح الستار عن حقائق غابت عن الأمة الإسلامية كلها أثني عشر قرنًا، حتى أتى هو آخر الزمان بما لم تستطعه الأوائل!!
ترى ما هذه الأحاديث التي رواها البخاري وهي عند الكاتب أدهى وأمر مما ذكر من الأكاذيب والأباطيل؟
لقد تمخض الجبل ولم يلد شيئًا، لم يلد فأرًا ولا ضفدعة. ذكر الكاتب حديثين رواهما البخاري (كما يقول) زعمهما مخالفين لكتاب الله. فلنقف قليلاً لكي نناقش الكاتب في زعمه الخطير:
الحديث الأول: رواه البخاري في كتاب الحيض عن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمرني فأتزر فيباشرني وأنا حائض". وقال الكاتب: ونسبوا مثل ذلك إلى "ميمونة" إحدى زوجات الرسول.
يرى الكاتب ذلك مخالفًا للآية الكريمة {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ} (البقرة:222)
وكان على (علامة دهره وفريد عصره) أن يجلو لنا وجه المخالفة والتعارض بين الآية والحديث، وذلك لا يكون إلا ببيان المراد من الاعتزال المأمور به في الآية، والمباشرة المروية في الحديث، ليبين للقارئ أهمها متعارضان حقًا أم لا؟
فالذي يبدو أنه إما فسر المباشرة بأنها الجماع، فقد تطلق على ذلك كما في قوله تعالى: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ} (سورة البقرة: 187)، وإما أنه فسر اعتزال المرأة في الحيض بأنه اعتزال فراشها وتحريم جميع بدنها على الزوج!!
وكلا التفسيرين خطأ.
أما تفسير المباشرة بالجماع، فيرده لفظ الحديث نفسه، إذ تقول عائشة "يأمرني فأتزر فيباشرني" والاتزار: شد الإزار على الوسط وأمرها بذلك يبين المراد من المباشرة.
يؤيد ذلك ما جاء في صحيح مسلم عن عائشة نفسها قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضطجع معي وأنا حائض، وبيني وبينه ثوب" ومثله عن ميمونة قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يباشر نساءه فوق الإزار وهن حيض".
ولو تواضع الأستاذ قليلاً، ورجع إلى مصدر قريب في اللغة أو التفسير، أو غريب الحديث، أو شروحه؛ لاتضح له معنى المباشرة الذي أزعجه، وأقض مضجعه، قال في القاموس، باشر المرأة: "جامعها أو صارا في ثوب واحد، فباشرت بشرتُه بشرتَها"، وإذا كان الكاتب لا يعرف طريقة الكشف عن الألفاظ في القاموس واللسان ونحوهما ولا يصبر عليها، فيستطيع أن يتناول أحدث معجم أخرجه المجمع اللغوي في القاهرة ليجد هذا "المعجم الوسيط" يقول: "باشر زوجه مباشرة وبشارًا، لامست بشرته بشرتها... وغشيها".
وقد وردت المباشرة في القرآن بمعنى الجماع، وبمعنى القبلة والملامسة، وذلك في آية واحدة، والقرينة والسياق مع السنة النبوية هي التي تحدد المراد.
قال تعالى: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ..} إلى أن قال: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}.
فالمباشرة المنهي عنها حالة الاعتكاف في المساجد هي القبلة والملامسة ونحوهما فهي التي يمكن أن تقع مع الاعتكاف في المساجد.
والمباشرة المأمور بها ليلة الصيام هي الجماع بدلالة السياق: {وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} قال القرطبي وغيره في قوله تعالى: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ} المباشرة كناية عن الجماع وسمي الوقاع مباشرة لتلاصق البشرتين فيه.
ومن هنا نعلم أن إطلاق المباشرة على الجماع ليس إطلاقًا حقيقيًا بل مجازيًا، والمجاز لا ينفي الحقيقة ولا يعارضها، بل الحقيقة هي الأصل حتى يقوم دليل على خلافها.
وإذن يكون فهم المباشرة في حديث عائشة: بأنها "الجماع" فهمًا خاطئًا بلا جدال، وإذا لم يكن الكاتب قد فهم المباشرة هذا الفهم الخاطئ، فلابد أن يكون قد أتى من قبل فهمه للاعتزال في آية {فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ}.
وعيب هذا الكاتب أنه يتعجل لغرض في نفسه في فهم النصوص باتباع الخرص والظن ثم يبني على فهمه نتائج يريد إلزام الناس بها، وإطراح دينهم وسنة نبيهم من أجلها.
وكان لزامًا عليه ليعرف المراد من هذه الآية الكريمة أن يتبين ويتثبت ويرجع إلى مصادر العلم، ويسأل أهل الذكر، ولا يتسرع في القول بالرأي والهوى، وقد قال أبو بكر رضي الله عنه: "أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني إذ قلت في كتاب الله بما لا أعلم"؟!
وقال صلى الله عليه وسلم: "من قال في القرآن برأيه أو بما لا يعلم فليتبوأ مقعده من النار" (رواه الترمذي والنسائي وأبو داود).
فإن من الآيات ما بينت السنة المراد منه، ومنها ما يظهر معناه بالقرائن والملابسات وأسباب النزول، وكان الصحابة أعلم الناس بذلك، وعنهم أخذ تلاميذهم من علماء التابعين، فلا جرم أن الرجوع إلى علم هؤلاء والاستفادة منه واجب حتمًا.
أما ادعاء المعرفة، وإهمال هذه الثروة، والتهجم على القرآن، والقول على الله بغير بينة، فهو خطأ في المنهج لا يقره العلم ولا الدين. وفي الحديث: "من قال في كتاب الله برأيه فأصاب فقد أخطأ".
قال ابن كثير: لأنه قد تكلف ما لا علم له به، وسلك غير ما أمر به، فلو أنه أصاب المعنى في نفس الأمر، لكان قد أخطأ لأنه لم يأت الأمر من بابه كمن حكم بين الناس على جهل فهو في النار، وإن وافق حكمه الصواب في نفس الأمر، فلن يكون أخف جرمًا ممن أخطأ (مقدمة تفسير ابن كثير).
وألزم ما يكون هذا الرجوع إلى المصادر حين يقف الإنسان موقف المستدرك على أئمة الإسلام، المخطئ لمثل البخاري في أعظم كتاب في الإسلام بعد القرآن، المتهم للأمة في سائر الأعصار بالجهل والبلادة والغفلة، بتصحيحها ما ليس بصحيح، وتقديمها ما لا يستحق التقديم.
إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو المبين للقرآن بقوله وعمله وتقريره، فإذا قال الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ} فقد يحتمل مورد الاعتزال في الآية عدة أفهام... قد يفهم منه اعتزال فراش المرأة مطلقًا، وترك مساكنتها كما كان اليهود يفعلون، وقد يفهم منه اعتزال جميع بدنها فلا يباشره الرجل بشيء من بدنه بغير حائل، وإن لم يعتزل فراشها، وقد يفهم منه اعتزال الفرج الذي هو موضع "الأذى" الذي علل به الأمر بالاعتزال، وقد يفهم منه اعتزال جزء معين من البدن - ما بين السرة والركبة مثلاً - فالذي يحدد المراد من ذلك هو السنة القولية والعملية {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}.
ونحمد الله أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يفعل شيئًا ليخفيه عن الناس، بل كانت حياته الخاصة والعامة ملك الأمة جميعًا، وما فعله في ليله أو نهاره، في خلوته أو جلوته، قد نقله نساؤه - صلى الله عليه وسلم - إلى المسلمين من بعده، لأنه تشريع لهم، ولهم فيه أسوة حسنة.
ومن ذلك علاقته بهن في فترة الحيض، فهي التي تفسر الآية كما يفسرها ما ورد عنه من أقوال في ذلك.
جاءت أحاديث عائشة وميمونة وغيرهما من أمهات المؤمنين مبينة لما أرد الله باعتزال النساء في المحيض، فليس هو اعتزال اليهود الذي كانوا يهجرون نساءهم في الحيض ولا يساكنونهن في البيوت، وقد تأثر بهم الأنصار بحكم المجاورة سنين طوالا، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عما يحل وما يحرم في هذا الأمر، فنزلت الآية وفسرها النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله وفعله.
وكانت أمهات المؤمنين حريصات على تبليغ المسلمين هدى رسولهم في كل أحواله وعلاقاته وتصحيح كل خطأ أو غلو يخرج عن سنة الرسول ويعلمن به.
روى عن بدرة مولاة ابن عباس قالت: "بعثتني ميمونة بنت الحارث، وحفصة بنت عمر - وهما من أمهات المؤمنين - إلى امرأة ابن عباس رضي الله عنهما وكانت بينهما قرابة من جهة النساء، فوجدت فراشه معتزلاً فراشها، فظننت أن ذلك عن الهجران فسألتها، فقالت: إذا طمثت "حاضت" اعتزل فراشي، فرجعت فأخبرتها بذلك فردتني إلى ابن عباس وقالت: "تقول لك أمك: أرغبت عن سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ لقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينام مع المرأة من نسائه، وإنها حائض وما بينها وبينه إلا ثوب ما يجاوز الركبتين" (أحكام القرآن لابن العربي جـ 1، ص 163).
وإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمر نساءه بالاتزار أثناء الطمث، فإنه لم يلزم أصحابه بذلك، وصح، أنه أباح الاستمتاع بالبدن كله ما عدا موضع الأذى " الفرج " فدل على أن الأمر بالاتزار للاستحباب، لأخذ الحذر والاحتياط.
ففي صحيح مسلم عن أنس: أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها ولم يجامعوهن (أي يساكنوهن) في البيوت، فسأل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - النبي فأنزل الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ} إلى آخر الآية . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اصنعوا كل شيء إلا النكاح". فبلغ ذلك اليهود فقالوا... ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئًا إلا خالفنا فيه. فجاء أسيد بن الحضير وعباد بن بشر فقالا: يا رسول الله إن اليهود تقول كذا وكذا... أفلا نجامعهن؟ (أي مخالفة لليهود) فتغير وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... وقال القرطبي: قال علماؤنا: "كانت اليهود والمجوس تجتنب الحائض، وكانت النصارى يجامعوهن في الحيض، فأمر الله بالقصد بين هذين" (تفسير القرطبي جـ 3، ص 81).
وبهذا التفسير النبوي للآية، والتطبيق العملي لها، تأكدت وسطية الإسلام واعتداله وسماحته بين المغالين والمفرطين، وبين المقصرين والمفرطين من أصحاب الملل والنحل، فهل يجوز لمسلم أو منصف بعد ذلك أن يزعم التعارض بين الآية الكريمة وبين حديث البخاري عن عائشة وميمونة رضي الله عنهما، وينسب إلى الجامع الصحيح اشتماله على أحاديث مناقضة لما أنزل الله في محكم كتابه . ويحكم على هذا الحديث المتفق على صحته بأنه منكر ومفترى.
يا عجبًا. كأن الكاتب الذي تربع على منصة الإفتاء ظلمًا وزورًا يظن أن البخاري وغيره من أئمة السنة كانوا متسولين يأخذون الحديث عن كل من هب ودب، فكل من قال لهم: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... قالوا له: صدقت، هات ما عندك وفرحوا به، كما يفرح الصبي بقطعة الحلوى!!
لا أيها المفتي لقد كانوا لا يقبلون قولاً حتى يعلموا أصله ومصدره؛ ولهذا اشترطوا الإسناد الذي تفردت به هذه الأمة عن غيرها من الأمم.
قال ابن سيرين: "إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم".
وقال غيره: طالب علم بلا إسناد كحاطب بليل.
ونظر الشافعي في تفسير اشتمل على قصص وعبر، فقال: يا له من علم لو كان له إسناد!!
ولم يكونوا يقبلون أي إسناد يذكر، بل يضعون كل راو من رواة السند على مشرحة التحليل، يسألون عنه... عن عقله ودينه... وخلقه وسيرته، وعن شيوخه وتلامذته، فمن اشتبهوا فيه أسقطوه، وردوا حديثه، ومن قامت الدلائل على صدقه وحفظه وعدالته وضبطه رووا عنه وقبلوه، وقد كان من ثمرات هذه البحوث المتشعبة المستفضية عِلمان جليلان من علوم السنة هما.. علم رجال الحديث وعلم الجرح والتعديل.
وكانوا يجوبون الآفاق، ويذرعون الأرض، طلبًا للحديث ممن سمعه بأذنيه، قال سعيد بن المسيب: "إنا كنا نسير الليالي والأيام في طلب الحديث الواحد". وسأل رجل الشعبي عن مسألة فأفتاه فيها ثم قال: "خذها بغير شيء وإن كنا نسير فيما دونها من الكوفة إلى المدينة".
ولنأخذ لذلك مثلاً... حديث عائشة الذي رده الصحفي المفتي، وزعم أنه منكر ومفترى (نعوذ بالله من ذلك) إن سند هذا الحديث - عند من له أدنى ذوق بهذا العلم - نير كضوء الشمس. فقد رواه البخاري عن شيخه قبيصة بن عقبة، قال حدثنا سفيان، عن منصور عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة، ورجال هذا السند كلهم كوفيون، تلقى بعضهم عن بعض، خلفًا عن سلف فهم تلاميذ المدرسة الكوفية التي أسسها الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود، وخرجت أساطين العلم، وأعلام الهدي في الحديث والفقه، وفي العلم والسلوك، أمثال الأسود وعلقمة وإبراهيم وحماد بن سليمان وسفيان الثوري، وأبي حنيفة النعمان وغيرهم من عظماء الإسلام.
ورواة هذا الحديث الشريف سفيان الثوري ومنصور بن المعتمر، وإبراهيم النخعي والأسود النخعي، كل واحد منهم جبل من جبال العلم، وبحر من بحور الرواية وإمام من أئمة الدين، لا ترقى ذرة من شك إلى أمانتهم أو علمهم أو وعيهم، حتى يأتي هذا المفتي في آخر الزمان فيتهمهم بخيانة الأمة وتضليل أجيالها وتحريف دينها، والكذب على رسولها باختراع الأحاديث المفتراة المنكرة (سبحانك هذا بهتان عظيم).
ومع هذا لم يرو البخاري هذا الحديث بهذا السند وحده، وعن هذا الطريق فحسب - وإن فيه لغناء وكفاية - بل روى معناه عن عائشة بأكثر من طريق.
ولم يرو ذلك عن عائشة وحدها من نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - بل روى البخاري ذلك عن ميمونة أيضًا، وليس البخاري وحده هو الذي روى حديثي عائشة وميمونة رضي الله عنهما، بل خرجتهما جميع كتب السنة ودواوينها المتقدمة منها والمتأخرة لإجماع أهل العلم على صحتهما وتلقيهما بالقبول.
ولعمري لئن كان مثل حديث عائشة - بسنده الذي ذكرناه - منكرًا ومفترى كما يزعم هذا الزاعم الجريء، لكان هذا الدين باطلاً، وكانت السنة كلها وهما، وكان تاريخ هذه الأمة زورًا، وكان تراث هذه الأمة خرافة كبيرة، وكان أئمة هذا الدين وهذه الأمة أكبر دجاجلة عرفهم تاريخ الأديان والشعوب.
ولقد زعم الكاتب في مستهل كلامه أنه لا يتهم أبا هريرة ولا البخاري بصنع الأحاديث . والحق أنه لم يتهمهما وحدهما، بل اتهم معهما سائر علماء الإسلام وحملة رسالته، في القرون الأولى التي هي خير القرون، واتهم الأمة كلها بالغباوة والغفلة والجهل، حيث تقبلت هذه الأحاديث بضعة عشر قرنًا بقبول حسن. وأثنت على رواتها، وخلعت عليهم وصف الإمامة في الدين، حتى جاء الكاتب النحرير، فوصفهم بما يُستحى من ذكره.
لقد سئل القاضي أبو يوسف: أتقبل شهادة رجل يسب السلف الصالح؟ فقال: لو عرفت رجلاً يسب جيرانه ما قبلت شهادته، فكيف بمن يسب أفاضل الأمة؟
أقول: فكيف بمن يسب الأمة كلها، ليأتي على دينها من القواعد، لتقر أعين المبشرين والمستشرقين والشيوعيين؟! اللهم لا تهلكنا بما فعل السفهاء منا.
ولندع حديث عائشة إلى الحديث الثاني الذي استند إليه الكاتب في الطعن على الإمام البخاري وجامعه الصحيح. ساقه كما يلي. قال:
يقول الله تعالي في سورتي النساء والمائدة في حكم الطهارة من الجنابة: {... أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا} إلى آخر الآية. ويقول البخاري: إن رجلاً أتى عمر فقال: إني أجنبت فلم أجد ماء. فقال له عمر: لا تصل.
ولو احترم الأستاذ أمانة العلم واحترم عقول الأمة التي تنشر فيها هذه المجلة ما اجترأ على هذا الادعاء، فإن الحديث بهذا اللفظ الذي ذكره لم يروه البخاري في صحيحه قط مع أن عبارته.. (ويقول البخاري ... إلخ) تشعر أنه قرأ الحديث في البخاري فأي كذب على الحقيقة، وتزوير على الناس أكثر من هذا؟
ومع هذا نرخي العنان للكاتب المتعالم، ونتطوع بالجواب عن الحديث، فقد رواه إمام آخر لا يقل عن البخاري في علمه وفضله ودينه هو مسلم في صحيحه.
والخطأ الكبير الذي سقط فيه هذا المفتي هنا بتعجله واقتحامه وتحيزه، زعمه أن آية {... أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاء ...} إلخ نص في حكم الطهارة من الجنابة، فإذا أورد البخاري عن عمر ما يخالفها كان ذلك حديثًا منكرًا ومفترى.
ولو تريث الأستاذ وتبين - لو كان من هدفه التبين - لعلم أن الملامسة "كالمباشرة" ليست نصًا في الجماع، بل تدل عليه بطريق الكناية والمجاز لا الحقيقة اللغوية. وقد اختلف الصحابة ومن بعدهم في ذلك، فإن ابن عباس يرى أن الملامسة في الآية معناها الجماع، وقد أخذ بمذهبه أبو حنيفة وأصحابه. وعمر وابنه عبد الله وابن مسعود يفسرون الآية على ظاهرها وحقيقتها اللغوية، وقد أخذ بمذهبهم من يقول بأن لمس المرأة ينقض الوضوء. قال ابن كثير: وهو قول الشافعي وأصحابه، ومالك؛ والمشهور عن ابن حنبل. ولكل من الفريقين أدلة ليس هذا موضع ذكرها إنما الذي يهمنا هنا أن الآية ليست نصًا في حكم الجناية كما أوهم الكاتب المتقول بما لا يعلم.
وقول عمر لمن أجنب ولم يجد الماء "لا تصلِ" اجتهاد منه، وهو مخطئ في اجتهاده، ومعذور، بل مأجور أجرًا واحدًا، وليس عمر بالمعصوم من الخطأ، وليس هو أول من أخطأ من الصحابة في اجتهاده، وليست هذه أول خطأة له، فقد عد له ابن حزم جملة أحكام أخطأ فيها أو نسى ما ورد فيها من سنة حتى يذكره غيره من الصحابة، فيتذكر أو لا يتذكر.
فهل يعيب البخاري، أو مسلمًا، أن يسجل لنا في صحيحه رأيًا لعمر - وإن ظهر خطؤه - فينقل لنا بأمانة العالم صورة صحيحة للاجتهاد الإسلامي في ذلك العصر المبكر؟
أما أن هذا والله لمأثرة تحمد للبخاري ومسلم، لا مأخذ يعابان به، ويذمان عليه. وما أحسن ما قال البحتري:
إذا محاسني اللاتي أدل بها كانت ذنوبي، فقل لي كيف أعتذر؟
ولا يفوتني أن أسجل هنا على الكاتب المتهجم أمرًا معيبًا حقًا، فقد قال في فاتحة حديثه "لست أقول عن حديث ما، إنه ضعيف أو موضوع، لمجرد أنه لا يتفق مع العقل والمنطق فحسب بل لأن ذلك رأي كثير من الأئمة والفقهاء القدماء والمحدثين على السواء أمثال ابن تيمية، والقسطلاني، والذهبي، والبيهقي، والطبراني، والدارقطني، والهيثمي، والعراقي، والسيوطي، والعسقلاني، وغيرهم".
ثم طعن في أحاديث متفق على قبولها، مجمع على صحتها، ولم يطعن في ثبوتها عالم قط من هؤلاء الذين ذكرهم، ولا غيرهم، فليت شعري لم أوهم الأستاذ بذكر أسماء هؤلاء الأعلام الذين يبدو - من ترتيبه لهم - أنه لم يعرفهم ولم يقرأ آثارهم، ولم يرجع إليها فيما انتقده على البخاري، وزعم أنه مفترى بل منكر.
(جعل الكاتب المنكر أشد من المفترى، وليس الأمر كذلك لغة ولا اصطلاحًا فليس هناك أسوأ من المفترى).
أما حديث أبي طلحة الأنصاري، وأكله البرد في الصوم فلم يروه البخاري ولا مسلم ولا أحد من الكتب الستة، ولهذا لا نطيل بالرد عليه، والجزء الموقوف فيه على أبي طلحة صحيح من حيث سنده، ولكن لا حجة فيه، لأنه اجتهاد صحابي انفرد به في فهم النص وخالفه سائر الصحابة، فلا عبرة به، ولهذا مات في مهده، ولم يقل به أحد طوال القرون الماضية. وأما الجزء المرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فغير صحيح. كما قرره علماء الحديث.
ولو كان هذا الصحفي يقدر أمانة القلم الذي في يمينه، ويحترم العقول التي في رءوس الناس، ما جشم نفسه ذكر هذا الحديث، فإن ميدان المعركة بينه وبين الأخ العالم العراقي الذي اتخذ لنفسه لقب "جابر عثرات الكرام" (وكان أولى أن يسمى: كاشف سوءات اللئام) هو: صحيحا البخاري ومسلم وغيرهما من الصحاح، فليس لإيراد هذا الحديث معنى في هذا المقام إلا الادعاء والتطاول، والتكثر بالباطل، والتمويه الذي لا تنفق سوقه إلا عند البسطاء وضعاف العقول.
وبعد:
فإن الحملة على سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليست اليوم، فإن وراءها جهات ومؤسسات تغذيها وتمدها، ولم يزل المبشرون والمستشرقون والشيوعيون يقودون المعركة ضدها، ويرمون لها بالوقود الدائم لتظل مستعرة الأوار، وليس من الضروري أن يظهروا بأنفسهم على المسرح، فقد يوغر ظهورهم الصدور؛ ويثير الشكوك، ففي تلامذتهم - المخدوعين منهم والخادعين - الكفاية كل الكفاية . وما أكثر الذين تحركهم مؤسسات التبشير والاستشراق والإلحاد الأحمر، ليحطبوا في حبلهم وهم لا يشعرون، بل وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، وما أكثر المأجورين الذين يشترون بدينهم ثمنًا قليلاً، أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار.
ألا وإن هذه الحملات لا تزيدنا إلا استمساكًا بالحق، وثباتًا عليه، واعتصامًا بسنة الرسول العظيم التي بدونها لا يفهم القرآن ولا تستبين معالم الدين وحدوده وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "تركت فيكم ما إن اعتصمتم به لن تضلوا بعدي: كتاب الله وسنتي".
والذي نأسف له حقًا أن تكون الحملة اليوم من منبر شبه رسمي لدولة عربية مسلمة هي الكويت، فلعل المسئولين فيها ينتبهون إلى هذا الخطر الذي يخلق البلبلة والحيرة، ويجر إلى الاضطراب والصراع، فالخراب والدمار، وبالله نستعيذ ونعتصم وهو تعالى من وراء القصد، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
والله أعلم