تلقى فضيلة الشيخ العلامة د. يوسف القرضاوي رئيس الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين سؤالاً مفاده: حدوث أمر جلل ومن أبشع المنكرات، ألا وهو ظهور بعض الجهلة الذين يدَّعون العلم والمعرفة، بقول جاهل وخاطئ: أن نجعل لنبينا جواز سفر وبطاقة شخصية تتماشى والعصر، وتبع هذا الأحمق الغبي والجاهل بعض المجهلة، الذين لا حظَّ لهم بالعلم، ولا يعرفون قدر نبينا صلى الله عليه وسلم، وهذا القول ليس اجتهادا أبدا، لأن الاجتهاد لا يصدر إلا من العلماء الكبار، والذين بلغوا منزلة عليا وعظيمة بالعلم والمعرفة، وكذلك لا يكون الاجتهاد في الأمور العقائدية والأصولية، بل في الأمور الفرعية التي تحتمل أكثر من رأي، وهذا سيؤدِّي إلى الانتقاص من قدر النبي صلى الله عليه وسلم، الذي أمرنا ربنا بتوقيره وتعزيره بقوله: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} (الفتح: 9)، وهذا لا يدلُّ على توقير ولا تعزير، وهي من البدع المنكرة، لقوله صلى الله عليه وسلم: "كلُّ بدعة ضلالة".

وهي إساءة للأدب بحقِّ هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، حيث سيجعل كلُّ من هبَّ ودبَّ، يجعل له صلى الله عليه وسلم (ما أسماه: البطاقة العائلية والجواز، بصيغة العصر الذي نعيش فيه). وقد تركنا النبي صلى الله عليه وسلم على المحجَّة البيضاء، وترك لنا الكتاب والسنة، حيث قال وبيَّن صلى الله عليه وسلم: "إني قد خلفتُ فيكم ما لن تضلُّوا بعدهما، ما أخذتم بهما، أو عملتم بهما: كتاب الله وسنَّتي".

وهذه صورة مشوهة بحقِّ النبي صلى الله عليه وسلم، والمزعومة على أنها بطاقة شخصية وجواز سفر له صلى الله عليه وسلم، يعدُّ من الكذب عليه صلى الله عليه وسلم، لقوله عليه الصلاة والسلام: "مَن كذب علي متعمِّدا فليتبوَّأ مقعده من النار".

وزعم هذا المبتدع صاحب الفكرة: أن فكرته لقيت رواجا ما بين الدول، وذكر منها الكويت، وبلغات فرنسية وتركية وماليزية، بعد صدوره باللغة الإنجليزية.

وأنهى السائل رسالته بأن هذا العمل: اجتهاد أحمق لا يليق، وحاشاه صلى الله عليه وسلم من ذلك، وبطاقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الركن ألأول للإسلام: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله.

نرجو من سماحتكم بيان الموقف الشرعي الصحيح من هذا العمل.

وفَّقكم الله ونفع بكم.

ابنكم الشريف الصالح البركاتي

المدير العام للعلاقات العامة والإعلام لأوقاف الأشراف بمكة المكرمة

وقد أجاب فضيلة الشيخ على هذا السؤال بقوله:

الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله... وبعد،

من أصدق ما قال الناس من قبلنا: قول الشاعر العربي:

والليالي من الزمان حُبَالى   **   مُثقلات يلدن كلَّ عجيب!

وهذا الذي يسأل عنه الأخ الكريم من عجائب ما ولدته الليالي، مما لا أفهم له غرضا، ولا أفقه له معنى، ولا أعرف له فائدة، إلا أنه من "تقاليع" الفارغين، الذين فرغت عقولهم من العلم، وقلوبهم من الآلام والآمال، فشُغلوا بهذه التوافه، التي ما أنزل الله بها من سلطان، ولا قام عليها من العقل أو النقل برهان.

ما قيمة أن يُصدر إنسان ما: "صورة جواز" لمحمد صلى الله عليه وسلم؟ وما فائدته في الدين أو الدنيا؟ إلا ابتغاء الإغراب، والإغراق في الخيال، والبعد عن حقائق الحياة، وهموم الناس، ومتاعب الخلق؟

إن أقلَّ ما يُقال في هذا: إنه من البدع المرفوضة في الدين، أو من التقاليع المذمومة في الدنيا. ومن المقرَّر أن "كلَّ بدعة ضلالة"، وكلَّ ضلالة في النار.

ومَن كان يحبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليعرِّف الناس بسيرته العاطرة، وليعلِّم الناس سنَّته المطهَّرة، وليدعُ الناس إلى رسالته العالمية: رسالة الرحمة للعالمين، والمنَّة على المؤمنين، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِين} (الأنبياء:107)، وقال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} (آل عمران: 164).

لا أن يبتدع هذا الأمر الذي تنكره العقول، وتنفر منه الفطر السليمة، التي لم يفسدها اتباع أهواء الذين لا يعلمون، ولا التقليد الأعمى للآخرين.

ثم ماذا قدَّم في بيانات هذه الجواز أو هذه البطاقة؟

قدَّم بعض بيانات سطحية معروفة للكبير والصغير، مثل: محمد خير خلق الله، وسيد ولد آدم، ولكنه قدَّم بيانات أخرى عن محمد رسول الله، غير صحيحة ولا ثابتة، مثل قوله: إنه آخر الثلاثمائة والثلاثة عشر من الرسل، وآخر الأنبياء الذين بلغ عددهم مائة وعشرين ألفا، اعتمادا على أحاديث وردت بذلك، ولكنها أحاديث ضعيفة لا تقوم بها حجَّة.

وحسبنا أن الله تعالى قال في كتابه بعد ذكر عدد من النبيين: {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} (النساء: 164)، {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} (غافر: 78).

ولو كان في ذكر عدد الرسل أو الأنبياء الذين ليسوا برسل: فائدة دينية يحتاج إليها الناس، لذكرها الله في كتابه الذي قال الله فيه لنبيه: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِين}(النحل:89).

فشغل الناس بمثل هذه الأعداد: مضيعة للوقت والجهد في غير طائل.

والعجيب أن هذا الأخ الذي أراد أن يقدِّم للعالم بطاقة تعريف للرسول صلى الله عليه وسلم: لم يحسن أن يعرِّف به أدنى تعريف.

ولو أنه اقتصر على أوصاف الرسول صلى الله عليه وسلم المقطوع بها، والمذكورة في القرآن لكان له شيء من القَبول، مثل قوله:

{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} (التوبة:128).

{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (الانبياء:107).

{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم:4).

{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} (الجمعة: 2)

{وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (الأحزاب:40)

{يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}  (الأعراف:157)

إلى آخر ما جاء من أوصاف الرسول الكريم في القرآن، وآفاق رسالته.

وقد وضع مبتدع الجواز المزعوم للنبي صلى الله عليه وسلم مقابل صفحة الجواز: صفحة أخرى، يبدو أن المقصود منها: الدعوة إلى رسالة محمد، وتعاليم محمد صلى الله عليه وسلم ، وكنا نتخيَّل أن تشتمل هذه الصفحة على أساسيات الرسالة، والمبادئ العامة لعقيدة الإسلام وشريعته وأخلاقه وقِيَمه، والمقاصد الكلية لهذا الدين.

ولكن خاب أملنا، حيث لم نجد فيها دعوة إلى التوحيد، ولا إلى الإيمان بالآخرة، ولا الإيمان بكتب الله ورسله، ولا إلى العبادات الشعائرية الكبرى: من الصلاة والزكاة والصيام والحج، ولا إلى مكارم الأخلاق التي بُعث محمد صلى الله عليه وسلم ليتمِّمها، ولا إلى مبادئ العدالة والإخاء والمساواة والحرية، ولا إلى الشرائع المحكمة التي تقيم الموازين القسط بين الناس.

بل كل ما ذكر في هذه الصفحة هو الوصية بحبِّ آل البيت رضي الله عنهم، والاعتماد على أحاديث أكثرها غير صحيح، وذكر هذا الموضوع خاصَّة تفوح منه رائحة طائفية لا نحبُّها، ولا نتمنَّى أن تشيع في المسلمين.

ولا يوجد أحد في المسلمين أيًّا كان مذهبه، لا يحبُّ آل البيت ويترضَّى عنهم، بل كلُّ مَن أحبَّ رسول الله عليه الصلاة والسلام: أحبَّ أهل بيته، كما أحبَّ أصحابه، وهذا أمر طبيعي ومعروف: أن مَن أحبَّ إنسانا أحبَّ كلَّ مَن كان له به صلة وثيقة من قرابة أو صحبة.

ولهذا لا أرى هذا عملا نافعا يمكن للمسلم أن يشغل نفسه به، فضلا عن أن يقدِّمه للناس، معتبرا ذلك من باب تبليغ رسالة محمد إلى العالمين. والحقيقة أنه لم يقدِّم أيَّ شيء في مجال التعريف بالرسالة أو بالرسول.

على أنه في ذاته أمر مبتدَع لا يكتسب أيَّة مشروعية دينية. وفي الحديث الصحيح المتَّفق عليه، عن عائشة رضي الله عنها: "مَن أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو ردٌّ". أي مردود على صاحبه، الذي تجاوز حدوده.

والأجدر بأبناء الإسلام، أتباع محمد عليه الصلاة والسلام: أن يبحثوا عن الاتصال بالعالم عن طريق الآليَّات المعاصرة من الفضائيات والإنترنت وغيرها، للتعريف برسولهم الكريم ذي الخلق العظيم، والمبعوث برسالة الرحمة ودعوة الحق والخير والنور للعالم، ولتقديم الإسلام الصحيح المتكامل على النهج الوسطي الذي يرتبط بالأصول والمقاصد، ويراعي متغيرات العصر ومنجزاته، وما أصدق الحكمة المأثورة: رحم الله امرءا عرَف زمانه واستقامت طريقته.

ولكني لا أوافق الأخ الكريم السائل في تضخيم هذه الإساءة أو هذا التجاوز، وكأنه أنكر المنكرات، أو أكبر الكبائر، أو كأنما يقارب الكفر. وهو لا يدخل تحت حديث"مَن كذب علي متعمِّدا، فليتبوَّأ مقعده من النار"، لأنه لم ينسب هذا العمل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، حتى نتَّهمه بالكذب عليه.

كما أنه لا يتعلَّق بالأمور العقائدية الأصولية، كما قال، بل هو يتعلق بأمر فرعي عملي، أعني: من وسائل الدعوة أخطأ فيها الصواب، وابتعد عن سواء الصراط.

فنحن ننكره ونبدِّعه، ولكن لا نبالغ فيه، وفي تكبيره وتهويله، وإنما ننظر إليه وفق منهجنا الوسطي الذي لا يغلو مع الغالين، ولا يفرِّط مع المفرِّطين. وخير الأمور الوسط.

والحمد لله رب العالمين.

الفقير إلى عفو ربه

أ. د. يوسف القرضاوي