السؤال يتعلق بأمر في غاية من الخطورة وهو الصلاة في مساجد المسلمين، فقد وُجد من المتطرفين الذين يرفضون الصلاة في هذه المساجد، مصرّين على اعتزالها، والاكتفاء بالصلاة في البيوت، واعتبار ذلك جزءًا من مقاطعة المجتمع الجاهلي بكل مؤسساته، وإن اتخذت صبغة دينية. ويستند هؤلاء الإخوة في ذلك إلى ما قرأوه في "الظلال" عند تفسير الآية 87 في سورة يونس، وفيها يقول الله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}.

فقد جاء في تفسيرها ما نصه: "هذه التجربة التي يعرضها الله على العصبة المؤمنة ليكون لها فيها أسوة ليست خاصة ببني إسرائيل، فهي تجربة إيمانية خالصة، وقد يجد المؤمنون أنفسهم ذات يوم مطاردين في المجتمع الجاهلي، وقد عمت الفتنة، وتجبر الطاغوت وفسد الناس، وأنتنت البيئة، وكذلك كان الحال على عهد فرعون في هذه الفترة، وهنا يرشدهم الله إلى أمور:

1- اعتزال الجاهلية بنتنها وفسادها وشرها - ما أمكن ذلك - وتجمع العصبة المؤمنة الخيرة النظيفة على نفسها لتطهرها وتزكيها، وتدربها وتنظمها، حتى يأتي وعد الله لها.

2- اعتزال معابد الجاهلية، واتخاذ بيوت العصبة المسلمة مساجد، تحس فيها بالانعزال عن المجتمع الجاهلي، وتزاول فيها عبادتها لربها على نهج صحيح، وتزاول بالعبادة ذاتها نوعًا من التنظيم في جو العبادة الطهور". ("الظلال" ج 11 ص 181 ، ط. ثانية) ا.هـ.

ومن إيحاء هذه العبارات اتخذ هؤلاء الإخوة قرارهم، وجعلوا بيوتهم قبلة لهم. مقاطعين المساجد والجوامع التي يؤمها سائر المسلمين.

والآن قد رضي الجميع بالاحتكام إليك في هذه القضية، حيث رفضوا رأي أي عالم هنا، وأعلنوا أن ما تفتي به سيقبلونه، فأصبح لزامًا عليك شرعًا ألا تدعنا في حيرة من أمرنا، وتنازع فيما بيننا، وأن ترد علينا بما ينير طريقنا، قبل أن يتزايد الخطر، ويتطاير الشرر، وقد رضي حكمك المعتدلون والمغالون لثقتهم بعلمك ودينك، وحسن فهمك للإسلام وللحياة معًا، وتحرّيك الحق فيما تكتب... نحسبك كذلك، والله حسيبك، ولا نزكي على الله أحدًا..

وإنا لفي انتظار هذا الجواب على أحرّ من الجمر، وفقكم الله ونفع بكم.

الجواب:

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

فاعتزال المساجد والصلاة في البيوت تضييع لفرائض كثيرة، وتفويت لخير كبير، منها صلاة الجمع والجماعات، ومنها مخالطة الناس من أجل التعاون على البر والتقوى، ومنها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واعتماد الآية السابقة في السؤال دليلا على هذه العزلة اجتهاد خاطيء ، وتحميل صاحب الظلال شيئا لم يقله صراحة، ولم يفعله أو يأمر الناس به ـ على الرغم من الظروف التي مر بهاـ افتراء على الرجل بغير حق، وحول هذه المسألة كتب فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي فتوى مطولة إليك نصها:

أخي الكريم:

كنت مترددًا في الكتابة إليك تاركًا الأمر لسلامة فطرتكم، وسابق دراستكم للإسلام، وسؤالكم لمن عندكم من أهل العلم، ولكن لما تكرر سؤالك خشيت على نفسي لجام النار الذي توعد به النبي صلى الله عليه وسلم من يكتم علمًا سئل عنه "من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار" رواه أحمد وأصحاب السنن والحاكم.

كما خشيت على الحركة الإسلامية التي أفنيت فيها شبابي ووهبت لها عمري - أن تهب عليها أعاصير الفتن الداخلية، فتلوي زمامها عن "البينات" والواضحات إلى "متشابه" من القول والآراء، لا تشفي غليلاً ولا تهدي سبيلاً، ولهذا توكلت على الله وبدأت أسطر إليك وإلى من معك هذه الكلمات التي: أرجو بها وجه الله، وبيان الحق، وهو أحق أن يتبع.

حقائق بين يدي الموضوع:

قبل أن أجيبك عن الموضوع بتفصيل، أحب أن أضع بين يديك هذه الحقائق لتكون على بينة من الأمر:

الأولى: أنه لا حجة في قول أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهو وحده المسدد المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، ولا يقره الله على خطأ. وكل أحد سواه يؤخذ من كلامه ويترك. وهذه حقيقة لا خلاف عليها.

الثانية: أن كل مؤمن اجتهد في طلب الحق واستفرغ وسعه في معرفته فهو مأجور على اجتهاده ونيته. وإن أخطأ في النتيجة. وخطؤه مغفور له كائنًا ما كان. قال تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} (سورة الأحزاب: 5).

الثالثة: أن الخطر ليس على العالم المجتهد إذا أخطأ وزل، ولكن على من اتبعه في خطئه وزلته بعد تبينها؛ ولهذا أمرنا أن نتقي زلة العالم.

وقال عمر: ثلاث يهدمن الدين: زلة العالم، وجدال المنافق بالقرآن، وأئمة (أي حكام) مضلون، وقال سلمان الفارسي: كيف أنتم عند ثلاث: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، ودنيا تقطع أعناقكم؟ فأما زلة العالم، فإن اهتدى فلا تقلدوه دينكم، تقولون: نصنع مثلما يصنع فلان، وننتهي عما ينتهي عنه فلان: وإن أخطأ فلا تقطعوا أياسكم منه فتعينوا عليه الشيطان... الحديث.

وقال معاذ لأصحابه يومًا في وصية له: إياكم وما ابتدع، فإن ما ابتدع ضلالة، وأحذركم زيغة الحكيم، فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم، وقد يقول المنافق كلمة الحق: فقال بعض أصحابه: وما يدريني رحمك الله أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة، وأن المنافق قد يقول كلمة الحق؟ قال: بلى، اجتنب من كلام الحكيم المشتهرات، التي يقال له: ما هذه؟ ولا يثنينك ذلك عنه، فإنه لعله أن يراجع، وتلق الحق إذا سمعته، فإن على الحق نورًا. رواه أبو داود.

وفي رواية أن الزهري قال: المشبهات مكان المشتهرات. وفسرها في رواية قال: بلى، مما تشابه عليك من قول الحكيم، حتى تقول: ما أراد بهذه الكلمة؟ وفي بعض الروايات في تفسير "زيغة الحكيم": هي كلمة تروعكم وتنكرونها، وتقولون: ما هذه؟!

وهذا توجيه رائع من معاذ رضي الله عنه وهو أعلم الصحابة بالحلال والحرام كما جاء في الحديث (الذي رواه الترمذي). لقد بيّن أن الحكيم قد يزيغ ويخطئ، فيجب علينا أن نجتنب زيغته وزلته، ولا يثنينا ذلك عن الاستفادة منه بعد ذلك. وعن ابن عباس قال: ويلٌ للأتباع من عثرات العالم. قيل: كيف ذلك؟ قال: يقول العالم شيئًا برأيه ثم يجد من هو أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم منه، فيترك قوله، ثم يمضي الأتباع.

الرابعة: أننا مأمورون عند التنازع أن نرد ما اختلفنا فيه إلى الله ورسوله. كما قال تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} (النساء: 59)، ومعنى ذلك هو الرجوع إلى الكتاب والسنة . فماذا يقول هذان المصدران المعصومان في قضيتنا ؟ لنتأمل ما يلي:

أولا: ماذا في القرآن؟

( أ ) في سورة النور مدح الله تعالى المساجد وروادها بقوله: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ . رِجَالٌ لّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} وليس بعد هذا الثناء على أهل المساجد قول لقائل.

( ب ) وفي سورة التوبة يقول تعالى أيضًا: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ}. وعمارة المساجد هنا ليس معناها البناء والتشييد كما يتوهم، بل عمارتها بالصلاة والدعاء وذكر الله وإقامة شعائره. فشهد الله لعمار المساجد بالإيمان كما قال ابن كثير في تفسيره. واستشهد لذلك بما رواه الإمام أحمد في مسنده عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان، قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ}... الآية. ورواه أيضًا الترمذي وابن مردويه والحاكم في مستدركه.

( ج ) في سورة البقرة يقول سبحانه: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا}، وهو وعيد شديد لمن يسعى في خراب المساجد من المصلين الذاكرين لله.

( د ) وأكثر من ذلك أن القرآن الكريم قرر حرمة المعابد الدينية لأهل الأديان السماوية جميعًا كما قال تعالى في أول آيات نزلت في شأن الجهاد: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} (الحج:40) وقد قال بعض المفسرين: إن جملة {يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} تعود على كل ما ذكر من الصوامع وما بعدها.

فإذا كان الإسلام يشرع القتال للدفاع عن حرية العبادة، وعدم الاعتداء على أماكنها وإن تكن لغير المسلمين، فكيف بمساجد المسلمين التي تقام فيها الصلوات ويرفع من منائرها الآذان، ويجهر فيها بالشهادتين والتكبير؟

ثانيا: ماذا تقول السنة؟

هذا أهم ما جاء في كتاب الله العزيز عن المساجد وهو كاف شاف.

وبقي أن نرجع إلى السنة وهي البيان القولي والعملي للقرآن.

1- يقول النبيـ صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان".

2- يؤيد هذا ما رواه البزار وعبد بن حميد بسندهما عن أنس مرفوعًا: "إنما عمار المساجد هم أهل الله".

3- روى الإمام أحمد بسنده عن معاذ بن جبل: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الشيطان ذئب الإنسان، كذئب الغنم، يأخذ الشاة القاصية والناحية، فإياكم والشعاب، وعليكم بالجماعة والعامة والمسجد".

4- وروى عبد الرازق بسنده عن عمرو بن ميمون الأودي قال: أدركت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وهم يقولون: إن المساجد بيوت الله في الأرض، وإنه حق على الله أن يكرم من زاره فيها.

5- وروى أبو داود والترمذي وابن ماجه والحاكم عن النبي صلى الله عليه وسلم: "بشر المشائين في الظُلَم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة".

6- وروى الشيخان وأحمد عن أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم: "من غدا إلى المسجد وراح، أعد الله له نزلاً من الجنة كلما غدا وراح".

7- قال ابن عباس رضي الله عنه: " من سمع النداء بالصلاة فلم يجب، ولم يأت المسجد ويصلي فيه فلا صلاة له، وقد عصى الله ورسوله . قال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ...} إلخ  ذكره ابن كثير عن ابن مردويه، قال: وقد روى مرفوعًا من وجه آخر، وله شواهد من وجوه أخر ليس هذا موضع بسطها.

8- روى مسلم في صحيحه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "من سرّه أن يلقى الله غدًا مسلمًا، فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادي بهن (يعني في المساجد) فإن الله شرع لنبيكم صلى الله عليه وسلم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى.
ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور، ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد إلا كتب الله بكل خطوة يخطوها حسنة، ويرفعه بها درجة، ويحط عنه بها سيئة، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها (أي الجماعة) إلا منافق معلوم النفاق. ولقد كان الرجل يؤتي به يهادي بين الرجلين (لمرضه أو ضعفه) حتى يقام في الصف.

ثالثا: شبهة معتزلي المساجد وإبطالها:

هذا بعض ما جاء في القرآن والسنة عن مكانة المساجد، وأهمية صلاة الجماعة فيها وهي أدلة عامة ناصعة، ونصوص محكمة ساطعة، لا تدع تأويلاً لمتأول في هجر المساجد، واعتزال جماعة المسلمين، فكيف ندع هذه المحكمات ونتبع المتشابهات التي لا تعطي مفهومًا محددًا، ولا يرتفع بها خلاف؟ وترك الواضحات إلى المتشابهات هو أحد أسباب الانحراف كما بيّن ذلك الإمام الشاطبي في كتابيه الجليلين: الموافقات والاعتصام.

ومن هذه المتشابهات الاعتماد على آية سورة يونس في قصة موسى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}، وتفسيرها بما يفيد مضمونه: أن تعتزل العصبة المسلمة مساجد المسلمين، وتتخذ بيوتها مساجد تنطوي فيها على نفسها وتحس فيها بالانعزال عن الجاهلية اقتداء بما فعله موسى وهارون وقومهما من اعتزالهم معابد الجاهلية واتخاذ البيوت مصلى وقبلة.

وهذا التفسير أو الاستنتاج لمثل هذا الحكم الخطير من الآية الكريمة خطأ ظاهر، ولا يثبت أمام التمحيص والنقد العلمي الهادئ السليم.

ونحن نبيّن خطأه من وجوه:

1- إن هذا التفسير غير مسلم لمن قال به، وهو مجرد رأي، لا أقل ولا أكثر، وليس مأثورًا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن صحابي أو تابعي.

والمروي عن سادات التابعين في ذلك ما ذكره ابن كثير عن إبراهيم في {وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} قال: كانوا خائفين فأمروا أن يصلوا في بيوتهم. وكذلك قال مجاهد وأبو مالك والربيع بن أنس والضحاك وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وأبوه أسلم. وذكر ابن كثير عن ابن عباس ما يؤيد هذا.

وقال الفخر الرازي: ذكر المفسرون في كيفية هذه الواقعة وجوهًا ثلاثة:

الأول: أن موسى عليه السلام ومن معه كانوا في أول أمرهم مأمورين بأن يصلوا في بيوتهم خفية من الكفرة. لئلا يظهروا عليهم فيؤذوهم ويفتنوهم عن دينهم، كما كان المسلمون على هذه الحالة في أول الإسلام في مكة.

الثاني: قيل إنه تعالى لما أرسل موسى إليهم، أمر فرعون بتخريب مساجد بني إسرائيل ومنعهم من الصلاة، فأمرهم الله تعالى أن يتخذوا مساجد في بيوتهم ويصلوا فيها خوفًا من فرعون (وهذا لا يخرج عن الوجه الأول).

الثالث: أنه تعالى لما أرسل موسى إليهم وأظهر فرعون تلكم العداوة الشديدة أمر الله تعالى موسى وهارون وقومهما باتخاذ المساجد على رغم الأعداء، وتكفل تعالى أن يصونهم عن شر الأعداء وهذا يعني أن المراد بالبيوت في قوله {تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} هي المساجد كقوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ} (النرو:36).

وعلى هذه الوجوه كلها ليس في الآية أدنى حجة على اعتزال المساجد في حالة الاختيار والسعة قط.

2- على أن بعض المفسرين كالإمام سعيد بن جبير فسر البيوت بالمساكن المعتادة وفسر (اجعلوها قبلة) أي متقابلة، يقابل بعضها بعضًا، قال الرازي: والمقصود منه حصول الجمعية، واعتضاد البعض بالبعض . وقال صاحب "المنار": وحكمة هذا أن يكونوا مستعدين لتبليغهما إياهم ما يهمهم ويعينهم مما بعثا لأجله، وهو إنجاؤهم من عذاب فرعون بإخراجهم من بلاده.

(وبهذا تخرج الآية عن موضوع الاستدلال نهائيًا).

3- ومع هذه الاحتمالات التي تسقط الاستدلال بالآية على ما قاله المغالون، يبقى هنا أمر آخر يجب التنبيه عليه، وهو الاستدلال بأمر كان في شريعة من قبلنا، إن افترضنا صحة التفسير والاستنتاج الذي استند إليه المجادلون: هل يصح أم لا؟

لقد اختلف الأصوليون في اعتبار شرع من قبلنا مصدرًا أو دليلاً شرعيًا لنا نحن المسلمين. فمنهم من رده مطلقًا، ومنهم من قبله بشرط ألا يرد في شرعنا ما ينسخه.

قال تعالى: {فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (سورة المائدة: 48) وقال صلى الله عليه وسلم: "لو كان موسى حيًا ما حلّ له إلا أن يتبعني".

وهنا نجد أن شرعنا قد دعا إلى الصلاة جماعة في المساجد، وجعلها أفضل من الصلاة في البيوت بخمس أو سبع وعشرين درجة. بل إن بعض الأئمة كأحمد بن حنبل اعتبر صلاة الجماعة فرض عين على كل رجل إلا من عذر، وله على ذلك أدلة كثيرة.
1- مما استدل به: أن النبي صلى الله عليه وسلم هم أن يحرق على قوم بيوتهم لتخلفهم عن الجماعات.

2- استأذنه ابن أم مكتوم وكان رجلاً أعمى ليصلي في بيته فقال: هل تسمع النداء؟ قال: نعم قال: لا أجد لك رخصة. رواه مسلم.

3- ما ذكرناه قبل عن ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما.

ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية: لو لم يمكنه الذهاب إلى المسجد إلا بمشيه في ملك غيره فعل، وإن كان بطريقه منكر، لم يدع المسجد، وينكره.

ومن لم يعتبر صلاة الجماعة من الأئمة - فرض عين فهو يعتبرها فرض كفاية أو سنة مؤكدة على الأقل.

فهل يسوغ لنا أن ندع هذه الأحاديث والآثار الصحاح المبينة لشريعة محمد صلى الله عليه وسلم جريًا وراء تأويل محتمل لعمل في شريعة موسى عليه السلام؟
رابعا: وأكثر من ذلك يا أخي أن رسولنا محمدًا صلى الله عليه وسلم كان يصلي عند الكعبة وحولها الأصنام من كل جانب حتى قدرت بثلاثمائة وستين، وقد نهاه أبو جهل عن الصلاة هناك فانتهره النبي صلى الله عليه وسلم وهدده . فقال له: أتهددني وأنا أكثر أهل الوادي ناديًا؟ فنزل في ذلك قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى . عَبْدًا إِذَا صَلَّى} (العلق: 9، 10).

فهل رأيت أبلغ من هذا وأوضح في الدلالة؟ محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في بيت الله والأصنام من حوله لأنه لم يشأ أن يحرم من الصلاة في مسجد الله الحرام. فكيف نعتزل نحن الصلاة في مساجد الإسلام؟

خامسا: وشيء آخر أذكره هنا، وهو ما ذكره الإمام البخاري في كتاب الصلاة من صحيحه حيث عقد فيه "باب الصلاة في البيعة" وهي كنيسة النصارى أو صومعة الراهب. وفي هذا الباب أورد عن عمر رضي الله عنه قوله: إنا لا ندخل كنائسكم من أجل التماثيل التي فيها "الصور" قال: وكان ابن عباس يصلي في البيعة إلا بيعة فيها تماثيل.ا .هـ.

وعندما فتح عمر بيت المقدس لم يرض أن يصلي في كنيسة القيامة خشية أن يقول المسلمون من بعده: هنا صلّى عمر، ويظنون أن لهم بذلك حقًا في الكنيسة.

ومعنى هذا أنه يجوز الصلاة في الكنيسة. فكيف يرتاب مسلم بعد ذلك في مشروعية الصلاة في المسجد؟

خاتمة:

أخي: أظن المقام قد اتضح بما فيه الكفاية، ولو لم توجد هذه النصوص والأدلة المتظاهرة المتضافرة لكانت الفطرة وحدها كافية في رد هذا الغلو الذي يتبناه بعض إخوانك هداهم الله وغفر لنا ولهم.

فإن رواد المساجد - في مجموعهم - هم بقية أهل الخير، وهم الرصيد لأصحاب الدعوات، وهم أقرب إلى الاستجابة من غيرهم. والصلاة هي آخر العرى الباقية لهذا الدين كما جاء في الحديث: "لتنقض عرى الإسلام عروة عروة، فأولها نقضًا: الحكم وآخرها الصلاة".

وأخيرًا أحسبك لا تجهل أن هذا الموضوع فرع صغير من أصل كبير، هو النظرة إلى جمهور المسلمين في بلاد الإسلام وحكمنا عليهم: هل هم كفار جاهليون أم مسلمون متفاوتون، فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله؟ فمن كفَّر المسلمين لم ير جواز الصلاة في مساجدهم، ومن أبقاهم على أصل الإسلام وإن عصوا وانحرفوا - كما هو مذهب أهل السنة والجماعة (انظر فتوانا في "ظاهرة الغلو في التكفير" فيما سبق) - لم ير أفضل من الصلاة في المساجد، خلف كل بر وفاجر.

والله أعلم.

..............

- المصدر: إسلام أون لاين