السؤال: تثار من وقت لآخر تساؤلات حول حكم الشرع في إصرار بعض الآباء على تزويج بناتهم دون مشورتهن، أو إرغام البنت على الزواج بقوة من رجل لا تريده، وقد يكون ذلك بغرض مصلحة دنيوية أو لأمور أخرى، وإذا ما حدث ذلك، فما حكم هذا الزواج الإجباري في الشرع؟ وماذا تفعل الفتاة إذا تم إجبارها على الزواج ممن لا ترغب؟
وقد أجاب فضيلة العلامة الدكتور يوسف القرضاوي على هذه التساؤلات وأبان حكم الشرع فيها، وذلك في كتابه "مركز المرأة في الحياة الإسلامية"، والذي جاء فيه:
سُلْطان الأب على ابنته لا يتجاوز حدود التأديب والرعاية والتهذيب الديني والخُلُقي، شأنها شأن إخوانها الذكور، فيأمرها بالصلاة إذا بلغت سبع سنين، ويضربها عليها إذا بلغت عشراً، ويفرِّق حينئذ بينها وبين إخوتها في المضجع ، ويلزمها أدب الإسلام في اللِّباس والزينة والخروج والكلام .
ونفقته عليها واجبة ديناً وقضاءً حتى تتزوج، وليس له سُلْطة بيعها أو تمليكها لرجل آخر بحال من الأحوال، فقد أبطل الإسلام بيع الحر - ذَكراً كان أو أنثى - بكل وجه من الوجوه، ولو أنَّ رجلاً حراً اشترى أو مَلَكَ ابنة له كانت رقيقة عند غيره، فإنها تُعتق عليه بمجرد تملكها، شاء أم أبى، بحكم قانون الإسلام .
وإذا كانت للبنت مال خاص بها، فليس للأب إلا حُسْن القيام بالمعروف.. ولا يجوز له أن يزوِّجها لرجل آخر، على أن يزوِّجه الآخر ابنته، على طريقة التبادل، وهو المسمى في الفقه ب "نكاح الشغار" وذلك لخلو الزواج من المهر الذي هو حق البنت لا حق أبيها.
وليس للأب حق تزويج ابنته البالغة ممن تكرهه ولا ترضاه، وعليه أن يأخذ رأيها فيمن تتزوجه: أتقبله أم ترفضه ،فإذا كانت ثيِّباً فلابد أن تعلن موافقتها بصريح العبارة، وإن كانت بِكراً يغلبها حياء العذراء اكتفى بسكوتها، فالسكوت علامة الرضاء، فإن قالت: لا .. فليس له سُلْطة إجبارها على الزواج بمن لا تريد.
روى الشيخان عن أبي هريرة مرفوعا : "لا تُنكح الأيم حتى تُستأمر ولا البِكر حتى تُستأذن". قالوا: يا رسول الله؛ وكيف إذنها؟ قال: "أن تسكت".
ورويا أيضاً عن عائشة قالت: يا رسول الله؛ يُستأمر النساء في أبضاعهن؟ قال: "نعم"، قلت: إنّ البكر تُستأمر فتستحي فتسكت! قال: "سكاتها إذنها"؛ ولهذا قال العلماء: ينبغي إعلام البِكر بأنَّ سكوتها إذن.
وعن خنساء بنت خدام الأنصارية: "أن أباها زوَّجها وهي ثيِّب فكرهت ذلك، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرَّد نكاحها". رواه الجماعة إلا مسلماً.
وعن ابن عباس: أن جارية بِكراً أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت أن أباها زوّجها وهي كارهة، فخيَّرها النبي صلى الله عليه وسلم. رواه أحمد وصححه الشيخ شاكر.
وفي هذا دليل على أن الأب لا يتميز عن غيره في وجوب استئذان البِكر، وضرورة الحصول على موافقتها.
وفي صحيح مسلم وغيره: "والبكر يستأمرها أبوها" أي يطلب أمرها وإذنها.
وعن عائشة: أن فتاة دخلت عليها، فقالت: إنَّ أبي زوَّجني من ابن أخيه، ليرفع بي خسيسته، وأنا كارهة. قالت: اجلسي حتى يأتي النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبرته، فأرسل إلى أبيها، فدعاه، فجعل الأمر إليها. فقالت: يا رسول الله؛ قد أجزتُ ما صنع أبي، ولكن أردتُ أن أعلم: أللنساء من الأمر شيء". رواه النسائي.
وظاهر الأحاديث يدل على أن استئذان البِكر والثِّيب شرط في صحة العقد، فإن زوَّج الأب أو الوليُّ الثِّيب بغير إذنها فالعقد باطل مردود، كما في قصة خنساء بنت خدام.. وفي البِكر: هي صاحبة الخيار إن شاءت أجازت، وإن شاءت أبت، فيبطل العقد كما في قصة الجارية. (نيل الأوطار 6/254-256)
ومن جميل ما جاء به الإسلام: أنه أمر باستشارة الأُم في زواج ابنتها، حتى يتم الزواج برضا الأطراف المعنية كلها. فعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "آمروا النساء في بناتهن". رواه أحمد وله شواهد أخرى.
وللإمام أبي سليمان الخطابي هنا كلمات قَيِّمة في توجيه هذا الحديث في كتابه "معالم السنن" يحسن بنا أن ننقلها هنا لما فيها من حكمة وعبرة. يقول رحمه الله:
"مؤامرة الأُمهات في بُضْع البنات ليس من أجل أنهن يملكن من عقد النكاح شيئاً، ولكن من جهة استطابة أنفسهن، وحُسْن العِشرة معهن؛ ولأن ذلك أبقى للصحبة، وأدعى إلى الأُلفة بين البنات وأزواجهن، إذا كان مبدأ العقد برضاء من الأمهات، ورغبة منهن، وإذا كان بخلاف ذلك لم يؤمن تَضْرِيَتُهن أي: (تحريضهن على أزواجهن)، ووقوع الفساد من قِبَلهن، والبنات إلى الأُمهات أميل، ولقولهن أقبل، فمن أجل هذه الأُمور يُستحب مؤامرتهن في العقد على بناتهن، والله أعلم.. قال: "وقد يحتمل أن يكون ذلك لِعلَّة أُخرى، غير ما ذكرناه، وذلك أن المرأة ربما علمت من خاص أمر ابنتها، ومن سِرِّ حديثها أمراً لا يستصلح لها معه عقد النكاح، وذلك مثل العِلَّة تكون بها، والآفة تمنع من إيفاء حقوق النكاح. وعلى نحو هذا يتأول قوله: "ولا تُزوَّج البِكر إلا بإذنها وإذنها سكوتها"، وذلك أنها قد تستحي من أن تُفصح بالإذن، وأن تُظهر الرغبة في النكاح، فيستدل بسكوتها على سلامتها من آفة تمنع الجِماع، أو سبب لا يصلح معه النكاح لا يعلمه غيرها. والله أعلم" أ.هـ.
ونزيد هنا أن الأُم قد تعلم من أسرار ابنتها أنَّ قلبها مع شخص آخر، فإذا تقدَّم لها هذا الشخص وكان كُفئاً، فهو أَولى بالتقديم والترجيح، كما جاء في الحديث: "لم يُرَ للمتحابين مثل النكاح". رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
وإذا كان الأب لا يحق له تزويج ابنته ممن لا ترضاه، كان من حقه عليها ألا تُزوِّج نفسها إلا بإذنه لحديث أبي موسى مرفوعاً: "لا نكاح إلا بولي" رواه أبو داوود والترمذي، ولحديث عائشة مرفوعاً: "أيما امرأة نكحت بغير إذن مواليها فنكاحها باطل .. ثلاث مرات". رواه الترمذي وحسنه.
ورأى أبو حنيفة وأصحابه أنَّ من حق الفتاة أن تزوِّج نفسها، ولو بغير إذن أبيها ووليها، بشرط أن يكون الزوج كفئاً لها. ولم يثبت عندهم الحديث المذكور، مستدلين بما جاء في القرآن من نسبة النكاح إلى المرأة: {فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} (سورة البقرة/ 232)، {حَتَّى تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرهُ} (سورة البقرة/ 230)، وقوله تعالى: {فَلاَ جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلنَ فِي أَنفُسِهنَّ بِالمَعرُوفِ} (سورة البقرة/ 234)، أضاف النكاح في هذه الآيات وغيرها إلى النساء، ونهي عن منعهن منه، ولأنه خالص حق المرأة، وهي من أهل المباشرة، فصح منها، واشترط أبو حنيفة أن يكون زواجها من كفء، وإلا كان للأولياء حق الاعتراض، فإن زوَّجت نفسها بإذن الولي دون حضوره، فقد أجاز ذلك بعض الفقهاء. والجمهور يشترطون حضور الولي، وإلا فإن زواجها يكون باطلاً.
قال العلامة ابن قدامة: فإن حكم بصحة هذا العقد حاكم، أو كان المتولي لعقده حاكماً، لم يجز نقضه.
قال: وخرج القاضي في هذا وجهاً خاصة: أنه ينقض؛ لأنه خالف نصًّا. والأول أولى؛ لأنها مسألة مختلف فيها، ويسوغ فيها الاجتهاد، فلم يجز نقض الحكم له، كما لو حكم بالشفعة للجار. وهذا النص (يعني: "لا نكاح إلا بولي") متأول، وفي صحته كلام، وقد عارضته ظواهر أ.هـ. المغني لابن قدامة.
وهذا من عميق فقه ابن قدامة وإنصافه رضي الله عنه، ومع هذا فالأَوْلى والأوفق: أن يتم الزواج بموافقة جميع الأطراف: الأب، والأُم، والابنة. حتى لا يكون هناك مجال للقيل والقال، والخصومة والشحناء، وقد شرع الله الزواج مجلبة للموَدَّة والرحمة.
والمطلوب من الأب أن يتخيَّر لابنته الرجل الصالح الذي يسعدها ويسعد بها، وأن يكون همه الخُلُق والدين، لا المادة والطين، وألا يعوق زواجها إذا حضر كفؤها، وفي الحديث: "إذا أتاكم مَن ترضون خُلُقه ودينه فزوِّجوه. إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض". رواه الترمذي وابن ماجه والحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
وبهذا علَّم الإسلام الأب أن ابنته "إنسان" قبل كل شيء، فهي تطلب إنساناً مثلها، وليست "سلعة" تُعرض وتُعطَى لمن يدفع نقوداً أكثر، كما هو شأن كثير من الآباء الجاهلين والطامعين إلى اليوم. وفي الحديث: "إنَّ مِن يُمْن المرأة: تيسير خطبتها، وتيسير صداقها، وتيسير رحمها - أي ولادتها". رواه أحمد والحاكم وصححه على شرط مسلم.
والله أعلم.