تلقى فضيلة العلامة الدكتور يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين سؤالا من الصحفية مريهان أبو لبن بمجلة "السعادة" الصادرة في غزة بفلسطين مفاده: نود من سيادتكم التكرم للرد على بعض التساؤلات في حادثة حصلت لامرأة عندنا في فلسطين، وكان هناك ردود من بعض المختصين، فإلى أي مدى ممكن أن يكون الرد صحيحا؟ وهذا النص والحادثة لك بالكامل لتقرأها وتكتب لنا تعليقك لعرضه في مجلة السعادة، علما بأننا أجرينا معها مقابلة، وتأكدنا من صحة كلامها، ورأينا الجرح والعملية، والتقينا الدكتور المشرف على حالتها.
في حادثة غريبة من نوعها، حظيت مواطنة غزية في الثالثة والخمسين من عمرها بعملية جراحية خلال منامها وصفها الأطباء بالدقيقة والخطيرة، استؤصلت خلالها ثلاث حصوات من المرارة، وذكرت زينات خليل السبع – وهي أم لثمانية أبناء – أنها فوجئت بعد استيقاظها من نومها بجرح طوله خمسة سنتمترات وآثار دماء.
وأكد طبيبها المعالج الدكتور حسن تمراز (جراح المسالك البولية في مركز الهدى بغزة) أن الحصى اختفت، وأن العملية خطيرة، وخاصة أنها أجريت ما بين الريشتين الخامسة والسادسة من القفص الصدري.
واستبعد مفتي غزة الشيخ عبد الكريم الكحلوت أن تكون الملائكة أجرت مثل هذه العملية، قائلا إن الله عندما يأمر بشفاء عبد ما لا يحتاج إلى الملائكة لإجراء جراحة، وإنما تتم بأمر من الله.
عن قصتها منذ البداية تقول الحاجة أم وحيد: "منذ ثلاث سنوات كنت أعاني من وخزة تحت صدري، وبطبيعتي لا أحب دخول المستشفيات قررت أن أعالج نفسي بالقرآن الكريم، فقرأت الفاتحة 100 مرة كل يوم على مكان الألم، وبعد عشرين يوما زال الألم بفضل الله سبحانه وتعالى".
وأضافت أم وحيد: أن الألم عاد إليها مرة أخرى منذ شهر واشتد" مشيرة إلى أنها قررت ألا تذهب إلى المستشفى لخوفها الشديد من العمليات، وأن تعالج نفسها مرة أخرى بالقرآن. وتقول: أنا أقرأ بعض الآيات في كل ليلة من النور والواقعة والملك والدخان. وأسبح مائة مرة، وأقرأ الفاتحة 100 مرة، والإخلاص 100 مرة، وأصلي على النبي مائة مرة، وأقرأ آية الكرسي مائة مرة، وكتبت آيات الشفاء الست على ورقة لاصقة ووضعتها على مكان الألم.
وأشارت أم وحيد إلى أنها تصلي قيام الليل، وتصوم كل اثنين وخميس، وثلاثة أيام من الشهر القمري، وعشرة من شهر محرم، والستة البيض من شهر شوال، مشيرة إلى أنها تركت آيات الشفاء ملصقة لمدة أسبوع على مكان الألم، أي من يوم الخميس إلى الخميس، آملة من الله أن يشفيها.
وأوضحت أم وحيد قائلة: يوم الخميس كانت الكهرباء مقطوعة وكان يوم الخميس الأسود. وبعد صلاة المغرب كان عندي وقت فراغ فسبحت حتى آذان العشاء، وصليت العشاء ونمت من التعب، وصحوت الساعة الواحدة صباحا وكنت أرتعش من شدة الألم والخوف من العملية، فلم استطع النهوض لكي أصلي قيام الليل من الألم، ونمت وأنا أدعو ربي وأناجيه بكل الأدعية بأني لا أريد أن أعمل العملية.
وأكدت أم وحيد أنها أثناء نومها، شاهدت الرؤيا، وتقول: رأيت طبيبا طويل القامة، يرتدي جاكيتا سوداء، أخذني من يدي، وأدخلني مستشفى، كانت الشمس مشرقة وكأنها الساعة 10 صباحا، وعندما سألته إلى أين نحن ذاهبون؟ لم يرد، وسألته ماذا تريد أن تفعل بي؟ وبعد فترة وجيزة، جاءت الممرضة، وقالت: إنهم قاموا بإجراء عملية المرارة، وذلك برفع حصوات ثلاث، ورأيت الحصوات في يد الممرضة، حصوة واحدة، واثنتين ملتصقتين مع بعضهما، فقلت لها: بهذه السرعة أجريتم العملية؟ فقالت لي: لم نفتح سوى 2 سم فقط مكان الحصوة، وأخبرتني أن أخي وأختي وأمي وأبي لديهم المرض نفسه. وفعلا، الذين ذكرتهم من أهلي قاموا بإجراء العملية.
وأضافت أم وحيد قائلة: إنها استيقظت يوم الجمعة الساعة الخامسة صباحا لصلاة الفجر، فتذكرت الرؤيا، وظنت أنها حلم عادي، وأخبرت بناتها عن الحلم، وعندما ذهبت للاستحمام، رفعت الملصق الذي وضعته على مكان الألم، فوجدت جرحا ودما، فنادت على أولادها لكي يشاهدوا مكان الجرح، فأشارت بهية ابنتها إلى أنها عندما شاهدت مكان العملية دهشت من شدة
الموقف، وقالت: ما عرفت شو بدي أعمل أعيط أو أفرح فقلت لا إله إلا الله وأنا أحفظ المصحف وأؤمن بالله وقدرته سبحانه وتعالى.
وأكد حسن تمراز (طبيب جراحة المسالك البولية) أن أم وحيد جاءت إليه، وطلبت منه إجراء صورة أشعة للمرارة، فأخبرها بأن المرارة لا يمكنه مشاهدتها إلا بصورة التلفزيون (ألترا ساوند) ثم أخبرته بما حدث معها في الرؤيا، ففوجئ الدكتور وأصر على إجراء صورة الأشعة للتأكد من صحة ما تقوله.
وأضاف الدكتور تمراز: نحن نجري عملية غدة المرارة في القسم الأيمن من القفص الصدري تحت الضلع رقم 12، وموازية للضلع رقم 11 بطول 8-10 سم، حيث إن المرارة تقع في جوف الكبد مقابل الضلعين: الخامس والسادس سطحيا، مضيفا أنه وجد الجرح عند أم وحيد ما بين الضلعين الخامس والسادس من الجهة اليمنى من القفص الصدري، فلم يكن الجرح غرزا
دائرية، فكانت الغرز مخفية داخلية، وعندما وضعت جهاز التلفزيون على الجرح مباشرة ذهلت مما رأيته، فالمرارة فعلا أجريت عليها عملية، حيث أجريت العملية من مدة قريبة. فهناك تضخم في مكان الجرح ناتج عن استعمال الأدوات الجراحية، ورأيت أيضا ثلاثة أماكن فارغة استؤصلت حصوات منها، مشيرا إلى أن الشيء الوحيد الذي لا يستطيع أن يجزمه: هو أن مكان الجرح لا يمكن أن تجرى فيه العملية، لأن إجراء عملية بين الريشتين 5 ـ 6 يسبب خطرا على المريض.
وقال عبد الكريم الكحلوت: استبعد أن تكون الملائكة قد عملت عملية لها لأن الله إذا أراد أن يشفى أحدا، يشفيه بدون عملية. وقال آخر: إنه جن مسلم من قام بذلك.
فما رد حضرتك على هذا؟ وهل يمكن أن تكون الملائكة هي من فعلت هذا؟
الرجاء التوضيح ذلك، علما أن لك جمهورا ضخما كبير في فلسطين، هو من اقترح علينا أن تعقب على الموضوع، ونحن في انتظار الإجابة. بارك الله فيك، وأعانك على خدمة الإسلام والمسلمين.
جواب الشيخ القرضاوي:
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد ..
فأود أن أعقب على هذه القصة وما حوته من غرائب بما يلي:
أولا: الأصل في نظام هذا العالم الذي نعيش فيه: أنه قائم على سنن الله الكونية والاجتماعية، التي من شأنها الثبات والعموم، فلا تحابي أحدا، ولا تستثني أحدا، ولا تتغير من أجل خاطر أحد، كما قال تعالى: {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} (فاطر:43).
وحين انكسفت الشمس يوم موت إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو طفل رضيع، ظن بعض الصحابة: أن الشمس انكسفت لأجل موته، فقام الرسول عليه الصلاة والسلام فيهم خطيبا، وقال لهم: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته" ( متفق عليه ).
وهذه السنن الإلهية قائمة على شبكة الأسباب والمسببات، فلا يصل الإنسان إلى مسبّب ما، إلا إذا حصّل سببه. وهذا مما لا شك فيه، ولا نزاع فيه.
ثانيا: أن لله سبحانه: أن يخرق نظام السنن وشبكة الأسباب والمسببات إذا أراد ذلك لحكمة من الحكم، قد تعلم أو لا تعلم، مثل تأييد رسله بالآيات البيّنات التي سماها المتكلمون "المعجزات" تصديقا لهم في دعواهم: أن الله أرسلهم. وتعضيدا ونصرا لهم في مواجهة خصومهم. ومثل إكرام أوليائه المتقين بكرامة من عنده، لتقوية يقينهم، ونصرهم في دعوتهم أمام خصومهم إلى غير ذلك.
كما جعل النار بردا وسلاما على إبراهيم، فجعل النار تخرج عن طبيعتها ولا تحرق، كما جعل السكين حين وضعها إبراهيم على رقبة إسماعيل: لا تقطع. وكما جعل العصا حين يلقيها موسى: حية تسعى، وكما جعل عيسى يبرئ الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى بإذن الله، ويخلق من الطين كهيئة الطير، ثم ينفخ فيها فتكون طيرا بإذن الله، وهذه أعظم من إحياء الموتى؛ لأن في هذا تحويل الجماد إلى كائن حي، وما ذلك على الله بعزيز.
وقد ذكر علماؤنا في خوارق العادات: "المعجزات" التي يظهرها الله على يد الأنبياء تأييدا لهم. و"الكرامات" التي يظهرها الله على يد أوليائه المتقين إكراما لهم. كما ذكروا أيضا "المعونات" وهي الخوارق التي يظهرها الله على يد عبد مستور الحال، معونة له في تفريج كربة، أو شفاء من مرض، أو تيسير أمر عسير، أو انجاء من ظالم. أو نحو ذلك.
وأرى أن ما حدث لأختنا هذه أم وحيد – إذا صحت الرواية بيقين – هي خارق من باب الكرامة أو باب المعونة. والأقرب أنها من باب "الكرامة"؛ لأنها امرأة ظاهرة الصلاح، حريصة على أداء الفرائض، وتزيد عليها النوافل، مثل صلاة الليل، وكذلك رأيناها تحرص على صلاة الفجر في وقتها، وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين. ولا مانع أن تكون الملائكة هي التي عملت العملية بأمر الله تعالى. ولله أن يفعل بسبب أو بغير سبب. فهو يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد.
وقد حفظنا في دراستنا في الأزهر من منظومة "الجوهرة" في علم التوحيد: بيتا يقول:
واثبتن للأوليا الكرامة ومن نفاها فانبذن كلامه
والولي هو: كل من اتقى الله واستقام على أمره كما قال سبحانه: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} (يونس:62-63)، فليس الأولياء كما يتصور بعض الناس أناسا خارجين عن نطاق البشر المعتاد، بل هم ناس من الناس. كل ما يميزهم عن غيرهم: أنهم امتثلوا أوامر الله واجتنبوا نواهيه.
ثالثا: أن ما يخشى في مثل هذه الحكايات، هو دخول المبالغات والتهويلات فيها، وهذا يصادف هوى في أنفس كثير من الناس، الذين يحبون أن يتكثروا في المجالس برواية الغرائب والعجائب، وأن يزيدوا عليها من عندهم ما يجذب النفوس، ويسحر العقول، وهؤلاء المبالغون هم الذين تعوّدوا أن يجعلوا من القط جملا، ومن الحبة قبّة، كما يول المثل.
ولذا من المهم هنا: الاستيثاق من حقيقة القصة، ومعرفتها من مصدرها الأول، من لقاء صاحبتها، ولقاء طبيبها المعالج، وماذا قال، ولا يترك الأمر للروايات الشفهية التي لا خطام لها ولا زمام.
فإذا ثبتت القصة كما رويت، وأن عملية جراحية أجريت لها في الرؤيا المنامية، وأن آثارها تبينت وشوهدت في اليقظة، وأن الأطباء المختصين أقروا بذلك. فهنا لا يسعنا إنكار الأمور المشاهدة. فإن الأدلة الحسية لا تجحد، وأقواها المشاهدة بالعين.
ولسنا من الماديين الذين ينكرون كل ما وراء الطبيعة أو ما وراء الحس، بل نحن نؤمن بعالم الغيب، كما نؤمن بعالم الشهادة. ونؤمن بأن قدرة الله طليقة لا حدود لها، ولا يعجزها شيء في الأرض ولا في السماء، مادام في إطار الممكنات.
والذين يقولون: زمن الخوارق قد انتهى، ونحن في عصر الأسباب المادية وحدها: ينسون أن الكون لا تزال تحدث فيه عجائب هنا وهناك، يتناقلها الناس في المشارق والمغارب، وليس لها تفسير وفق الأسباب المادية. ومن المؤكد: أن الإنسان مهما اتسع علمه فهو محدود. وصدق الله العظيم إذ يقول: {وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} (الإسراء:85).
والله أعلم.