السؤال: كنا مجموعة متنوعة المشارب والثقافات، جلسنا نتدارس ونتناقش في بعض أمور الدين فانتهى بنا الحديث إلى موضوع اختلفنا في شأنه اختلافًا حادًا. هذا الموضوع الذي اختلفنا في شأنه هو التصوف وكتبه وطرقه ورجاله، ومناهجه الفكرية والتربوية.
فمنا من رفضه رفضًا كليا، واعتبره ضد الإسلام الصحيح، ومنا من قبله قبولا مطلقًا، واعتبره الطريق الوحيد للوصول إلى الإسلام معرفة وتذوقًا وسلوكًا. ولم نستطع أن نصل إلى رأي حاسم في الموضوع، لأن لكل منا خلفيته الثقافية التي تحدد مسار تفكيره.
لهذا نريد منكم بيانًا واضحًا وحاسمًا حول التصوف ونشأته واتجاهه ومميزاته وعيوبه، حتى يمكننا أن نحدد موقفنا منه على بينة، دون تعصب له أو عليه. وفقكم الله ونفع بعلومكم المسلمين.
جواب فضيلة الشيخ:
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد..
عرضنا لهذا الموضوع في فتوى سابقة، ولكن لا مانع من العودة إليه مرة أخرى لأهميته وضياع الحقيقة فيه بين المفرطين في المدح، والمفرطين في القدح، ولهذا يحتاج إلى مزيد بيان.
ولا بأس أن نلقي من الضوء ما يكشف بعض جوانب الموضوع وينير الطريق لمن أراد السلوك على بصيرة.
كان المسلمون في عصر الصحابة ومن تتلمذ على أيديهم يتعلمون ويعلمون الإسلام كله، في شموله وتوازنه وإيجابيته وعمقه، ولم يكونوا يبرزون جانبًا على حساب جانب آخر ولم يغفلوا ظاهرًا لباطن، ولا باطنًا لظاهر، بل اهتموا بالعقل والروح والجسم جميعًا، وعنوا بالفرد والمجتمع معا ورعوا مصالح الدنيا والآخرة، كما يقول الفقهاء مصالح العباد في المعاش والمعاد.
فلما تعقدت الحياة وتطورت -لعوامل كثيرة داخلية وخارجية وجد في المجتمع الإسلامي من قصر همه على الجانب العقلي كالمتكلمين، ومن جعل أكبر همّه الجانب العملي الظاهري كالمشتغلين بالفقه، وبجوار هؤلاء وأولئك من شغله متاع الحياة الأدنى، وأغرقه ترف المعيشة المادي، كالأمراء والأغنياء ومن سار في ركابهم من طلاب الدنيا.
في هذا الوقت ظهر المتصوفه ليعنوا بجانب هام أيضًا هو الجانب الروحي والنفسي في الحياة الإسلامية، ويملأوا الفراغ الذي لم يسده أهل الفقه ولا أهل الكلام، وليستنقذوا الناس من الاستغراق في متاع الدنيا وزخرفها.
كان علماء السلف يأخذون دين الله كله -كما قلنا- بمراتبه كلها من الإسلام والإيمان والإحسان التي جاءت في حديث جبريل المشهور. ثم صار أهل الفقه أخص بمعرفة الإسلام وأحكامه الظاهرة، وأهل الكلام أخص بالإيمان وما حوله من بحوث.. وجاء أهل التصوف ليقولوا: نحن أخص بمرتبة الإحسان.
كان التصوف في أوامره ينزع إلى تحقيق غاية عملية هي النجاة بالنفس من سخط الله وعذاب الآخرة، عن طريق الزهد والتقشف ومجاهدة النفس، وأخذها بأدب الشرع وتقوى الله. ثم ظهر من العلماء والمربين من جسد جانب الخوف والتخويف من الله كالحسن البصري، ثم برز إلى جانب الخوف والخشية -عنصر جديد هو الحب الإلهي، ظهر ذلك في شعر رابعة العدوية (ت 185هـ) وفي أقوال أبي سليمان الداراني (ت 215هـ) وذي النون المصري (ت 245هـ) وأبي يزيد البسطامي وغيرهم، ممن صرحوا بأنهم لا يطيعون الله ويؤدون الواجبات خوفًا من عذاب النار ولا رغبة في نعيم الجنة، ولكن حبًا لله، وطلبًا لقربه.
اشتهر في هذا قول رابعة:
كلهم يعبدون من خوف نـار ويرون النجـاة حظًا جزيلا
أو بأن يدخلوا الجنان فيحظوا بنعيم ويشربـوا سلسبيـلا
ليس لي في الجنان والنار حـظ أنا لا أبتغي بحبي بديـــلا
ثم تحول التصوف بعد ذلك من طريقة للتربية الخلقية والروحية إلى فلسفة تشتمل على مفاهيم غريبة عن الإسلام، وانحرافات عن تعاليمه الأصلية، لعل أبرزها هو القول بالحلول ووحدة الوجود، أجل انحرف التصوف انحرافًا شديدًا على يد الحلاج الذي غره الغرور فقال: أنا الله. على مذهب من يقول بحلول الخالق في المخلوق، كقول النصارى في المسيح. كان هذا الانحراف سببًا في غضبة الفقهاء والجماهير المسلمة عليه فقتل سنة 309هـ وأكثر الصوفية أنفسهم يبرؤون من نظرية الحلاج.
ثم زاد الانحراف والغلو في فلسفة "وحدة الوجود" التي تظهر في مؤلفات محي الدين بن عربي (المتوفى سنة 638هـ) وغيره، ممن زعموا أن لا موجود إلا الله ولا ثنائية في الوجود، فليس ثمت خالق ومخلوق، ورب ومربوب.
ونتيجة هذه الفلسفة هي نفي المسئولية -التي هي عماد الأخلاق- والتسوية بين الأخيار والأشرار، والموحدين والوثنيين، فالجميع مظهر لتجلي الحق. لهذا قال ابن عربي:
لقد صار قلبي قابلا كل صورة فدير لرهبان ومرعى لغزلان
وبيت لأوثان وكعبة سـائف وألواح توراة ومصحف قرآن
فهو في الواقع مذهب هدام.
تعقيب على الاتجاه الصوفي:
ولا شك أن الناس قد اختلفوا في الصوفية بين متعصب لهم يبرز محاسنهم ويتبنى وجهة نظرهم في كل شيء ويحامي عنهم ولو خطأ، بلى هو لا يتصور الحكم عليهم بالخطأ أبدًا. ومتعصب عليهم يذمهم جميعًا، ويذم من انفردوا به ولو كان حقًا في نفسه، ويعلن أن التصوف مذهب دخيل على الإسلام مأخوذ من المسيحية والبوذية والبرهمية وغيرها.
ولكن الإنصاف يقتضينا أن نقول: إن التصوف له جذور إسلامية أصيلة لا تجحد، وفيه عناصر إسلامية أساسية لا تخفى. نرى ذلك في القرآن والسنة وسيرة الرسول الكريم وأصحابه الزاهدين مثل عمر وعلي وأبي الدرداء، وسلمان وأبي ذر وغيرهم. ومن يقرأ القرآن والحديث يجد فيهما تحذيرًا متكررا من فتنة الحياة الدنيا ومتاعها وتوجيه الهمم إلى الله وإلى الدار الآخرة، وتحريك القلوب بالتشويق إلى الجنة وما فيها من رضوان الله تعالى والنظر إلى وجهه الكريم، والتخويف من النار وما فيها من عذاب مادي ومعنوي كما يجد الحديث عن حب الله تعالى لعباده وحبهم له سبحانه في مثل قوله: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} (المائدة:54)، {وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ} (البقرة:165)، {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (آل عمران:31)، {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (آل عمران:134)، {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} (آل عمران:146)، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا} (الصف:4) إلخ.
كما جاء في القرآن والأحاديث نصوص غزيرة في الزهد والتوكل والتوبة والشكر والصبر واليقين والتقوى والمراقبة وغيرها من مقامات الدين، ولم يعطها العناية اللائقة بها -من التفسير والتعليل، والتقسيم والتفضيل- غير الصوفية؛ ولهذا كانوا أعلم طوائف الأمة بعيوب النفس، وأمراض القلوب ومداخل الشيطان، وأكثرهم عناية بأحوال السلوك وتربية السالكين، وكم تاب على أيديهم من عاص وكم أسلم من كافر ولكن التصوف لم يقف عند الدور الأول الذي كان يراد به الأخلاق الدينية ومعاني العبادة الخالصة لله. وكان قوامه الإرادة. كما قال ابن القيم، ولكنه انتقل من وصفه علم الأخلاق الإسلامي إلى نظرية المعرفة تسعى إلى الكشف والفيض الإلهي عن طريق تصفية النفس..ثم كان من الانحرافات ما كان.
ولهذا فإن من المكابرة إنكار المؤثرات الأجنبية في التصوف مما خرج به في كثير من الأحيان عن "وسطية" الإسلام واعتداله، إلى تشدد كتشدد الرهبانية، أو غلو كغلو البوذية.
ومن مظاهر الانحراف عند الصوفية هذه الأفكار:
1. اعتبار الذوق أو الوجدان الشخصي أو الإلهام -مقياسًا في معرفة الحسن والقبيح وتمييز الصواب من الخطأ، حتى غلا بعضهم في ذلك فقال: "حدثني قلبي عن ربي" في مقابلة ما يقوله علماء السنة: حدثنا فلان عن فلان.. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
2. تفرقتهم بين الشريعة والحقيقة، وقولهم: من نظر إلى الخلق بعين الشريعة مقتهم ومن نظر إليهم بعين الحيقيقة عذرهم، فهذا يترتب عليه ألا يحارب كافر ولا ينكر على منكر.
3. تحقيرهم لأمر هذه الحياة، على خلاف نهج القرآن {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً} (البقرة:201)، والسنة: "اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي"، ونهج الصحابة من مثل قولتهم المأثورة: "أعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا".
4. غلبة النزعة الجبرية والسلبية على أكثرهم، مما أثر في تفكير عامة المسلمين وجعلهم يعتقدون أن الإنسان مسير لا مخير، وأن لا فائدة من مقاومة الفساد ومحاربة الباطل؛ لأن الله "أقام العباد فيما أراد"، وشاع بينهم هذا القول: "دع الملك للمالك، واترك الخلق للخالق". وهذا أدى إلى تغليب الروح الإنهزامية أو الإنسحابية في حياة جمهور المسلمين.
5. إلغاء شخصية المريد في تربيتهم السلوكية والفكرية، بحيث يفنى في شيخه ولا يناقش فضلا عن أن يعترض، أو يقول: "لم" فضلا عن "لا" ومن كلماتهم: "المريد بين يدي الشيخ كالميت بين يدي الغاسل" و "من قال لشيخه: لم؟ لا يفلح".
وقد انتشرت هذه الأفكار في العصور المتأخرة، وتقبلها الكثيرون على أنها من صميم الإسلام. فلما بزغ فجر النهضة الحديثة في بلاد المسلمين ظن كثير من المثقفين أن هذه الأفكار السلبية السائدة هي الإسلام، فأعرضوا عنه -وربما عادوه- جهلا منهم بحقيقة القيم الإسلامية الأصيلة.
على أن الحق يقتضينا أن نضيف هنا أن الصوفية الأولين المعتدلين حذروا من الشطط والانحراف، وأوجبوا التقيد بنصوص الشريعة وقواعدها التي لا تخطيء ولا تحيف.
ينقل ابن القيم عن شيوخ القوم أقوالا عديدة لهم في ذلك، منها قول سيد الطائفة وشيخهم الجنيد بن محمد (ت297) مثل يقول الجنيد: الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا على من اقتفى آثار الرسول صلى الله عليه وسلم .
وقال: "من لم يحفظ القرآن و يكتب الحديث، لا يقتدى به في هذا الأمر، لأن علمنا مقيد بالكتاب والسنة".
وقال أبو حفص: من لم يزن أفعاله وأحواله في كل وقت بالكتاب والسنة، ولم يتهم خواطره فلا يعد في ديوان الرجال.
وقال أبو سليمان الداراني: ربما يقع في قلبي النكتة من نكت القوم أيامًا فلا أقبل منه إلا بشاهدين عدلين: الكتاب والسنة.
وقال أبو يزيد: لو نظرتم إلى رجل أعطى من الكرامات إلى أن يرتفع في الهواء فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي وحفظ الحدود وأداء الشريعة.
قول ابن تيمية في الصوفية
ولعل أعدل ما قيل عن الصوفية، هو جواب ابن تيمية حين سئل عنهم فكان من قوله: تنازع الناس في طريقهم: فطائفة ذمت "الصوفية والتصوف" وقالوا: إنهم مبتدعون خارجون عن السنة. ونقل عن طائفة من الأئمة في ذلك من الكلام ما هو معروف وتبعهم على ذلك طوائف من أهل الفقه والكلام. وطائفة غلت فيهم، وادعوا أنهم أفضل الخلق وأكملهم بعد الأنبياء.. وكلا طرفي هذه الأمور ذميم.
والصواب: أنهم مجتهدون في طاعة الله، كما اجتهد غيرهم من أجل طاعة الله ففيهم السابق المقرب بحسب اجتهاده، وفيهم المقتصد الذي هو من أهل اليمين. وفي كل من الصنفين من قد يجتهد فيخطئ، وفيهم من يذنب فيتوب أو لا يتوب.
ومن المنتسبين إليهم من هو ظالم لنفسه، عاص لربه.
وقد انتسب إليهم طوائف من أهل البدع والزندقة ولكن عند المحققين من أهل التصوف ليسوا منهم، كالحلاج مثلا، فإن أكثر مشايخ الطريق أنكروه، وأخرجوه عن الطريق، مثل الجنيد سيد الطائفة وغيره.اهـ.
والله أعلم.